لقد ساد الخطاب الغربي لعقود طويلة، مؤكداً أن الديمقراطية الغربية هي القالب الوحيد الصالح للحكم، وأن أي نظام لا يتطابق مع هذا النموذج هو نظام قاصر يحتاج إلى "إصلاح" أو "توجيه". وهذه الفرضية الأيديولوجية تسببت في عقود من التدخلات الناعمة والخشنة في الشرق الأوسط، وأدت إلى نتائج كارثية، حيث خلقت الفوضى ودمرت دولا أكثر مما بنت، وكان الإصرار على فرض أنظمة حكم مستوردة على مجتمعات ذات نسيج فريد هو جوهر المشكلة، وهو ما أدى إلى إهدار الكثير من الفرص دون تحقيق استقرار حقيقي.
الحقائق على الأرض بدأت تفرض نفسها بقوة على صناع القرار في الغرب، فحين يخرج المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا توم باراك، ليقر في "منتدى الدوحة" قبل أيام بأن "في هذه المنطقة- سواء أعجبك ذلك أم لا- النموذج الأنجح هو النظام الملكي"، فإنه بذلك يوجه صفعة قوية لجميع التيارات الغربية التي روجت لـ"الربيع العربي" كفرصة لفرض "الديمقراطية القسرية"، وهذا التصريح هو بمثابة اعتراف بأن النماذج المستوردة للحكم لا يمكن أن تفرض على مجتمعات ذات نسيج ثقافي وتاريخي مختلف.
إن هذا الاعتراف لم يأت من فراغ، بل هو امتداد منطقي لخطاب الرئيس الأميركي دونالد ترمب في مايو/أيار الماضي خلال زيارته للعاصمة السعودية الرياض، عندما وجه انتقاداً لاذعاً للتيارات التدخلية الغربية، مؤكداً أن التحول العظيم في منطقتنا لم يأت من "أشخاصٍ يهبطون من طائرات فخمة ليملوا علينا كيف نعيش"، وهذا التنديد الصريح بسياسات الأسلاف يمثل نقطة تحول تاريخية، حيث بدأ الغرب يدرك أن محاولات فرض القيم والأنظمة السياسية من الخارج هي وصفة مؤكدة للفشل.
المملكة العربية السعودية أكبر وأهم نموذج للنجاح في المنطقة، وهي دولة محورية ومثال حي على أن التمسك بالهوية الوطنية لا يتعارض مع الانفتاح على العالم وتحقيق أسرع معدلات النمو
إن نجاح الدول الملكية في المنطقة وتحديداً في الخليج، هو ما جعل الغرب يخطو نحو المراجعة، حيث إن هذه الدول اختارت أن تبني أنظمتها على أساس إرثها الوطني وتقاليدها العريقة، متجنبة استيراد قوالب جاهزة لا تتناسب مع طبيعة مجتمعاتها، وبذلك قدمت دليلاً مادياً على أن الاستقرار والتنمية هما ثمرة الإرادة الوطنية التي تنبع من الداخل.
في هذا السياق، تبرز المملكة العربية السعودية كأكبر وأهم نموذج لهذا النجاح، بوصفها دولة محورية في المنطقة، وقاطرة للتنمية الاقتصادية فيها، وتقدم مثالاً حياً على أن التمسك بالهوية الوطنية لا يتعارض مع الانفتاح على العالم وتحقيق أسرع معدلات النمو، فالنهضة المعمارية والاقتصادية التي تشهدها السعودية اليوم، هي نتيجة مباشرة لسياسات تضع المصلحة الوطنية والاستقرار في المقام الأول.
إن سر نجاح هذا النموذج يكمن في أن أنظمته تشكلت بشكل طبيعي وتلقائي، بناءً على إرثها وعادات شعوبها وأساليب الحكم التاريخية فيها، وأن هذا التمسك بالهوية هو ما وفر الأساس المتين للاستقرار وأسهم في تحقيق النهضة التي أصبحت اليوم محط أنظار العالم.
في المقابل، نرى نتائج التدخلات الغربية في دول أخرى، حيث أدت محاولات فرض "الديمقراطية" دون مراعاة طبيعة المجتمعات وإرثها وتاريخها إلى تفكيك الدول، وانتشار الفوضى، وصعود الميليشيات.
إن الاستقرار في الدول الملكية لا يمكن النظر إليه اليوم كشأن داخلي فقط، بل هو عامل حاسم في استقرار الاقتصاد العالمي، حيث تلعب هذه الدول دور الضامن لاستمرار تدفق الطاقة، وتمثل بذلك شريان الحياة للاقتصاديات الكبرى.
هذا الدور السياسي والاقتصادي المحوري جعل صناع القرار في الغرب يعيدون النظر في مواقفهم، لأن المصالح الكبرى بين الدول لا يمكن أن تبنى على أساس أوهام أيديولوجية، كما أثبتت هذه الدول أن الحكم الفعال هو الحكم الذي يتناسب مع طبيعة المجتمع، وليس الحكم الذي يتطابق مع نظرية سياسية مجردة.
تصريح باراك وخطاب ترمب الذي سبقه، يمثلان بداية لمرحلة النضج السياسي في العلاقة بين الغرب والشرق الأوسط، حيث إن الدول الملكية في الخليج قدمت للعالم درساً عملياً في أن التنمية والازدهار هما ثمرة الإرادة الوطنية والقيادة الحكيمة التي تنبع من الداخل.
أخيرا، يعتبر هذا النضج المتأخر خطوة إيجابية نحو بناء علاقات أكثر واقعية واحتراما، تقوم على أساس المصالح المشتركة والاعتراف بأن لكل مجتمع طريقه الخاص نحو النجاح، وأن ثمن الأوهام الأيديولوجية كان باهظاً، واليوم يبدو أن الغرب بدأ في دفع فاتورة هذا الثمن، الأمر الذي حمله على مراجعة سياساته.