قرار الإدارة الأميركية نحو تصنيف فروع من جماعة "الإخوان المسلمين" كمنظمات إرهابية، يمثل خطوة حاسمة طال انتظارها، هذه الخطوة تضع واشنطن أخيرا على المسار الصحيح في التعامل مع أخطر ظاهرة سياسية دينية عابرة للحدود، حيث إن "الإخوان المسلمين" ليسوا مجرد حزب سياسي، إنما هم مشروع أيديولوجي شمولي يتخفى ببراعة تحت عباءة العمل الخيري والدعوي والحقوقي، ويهدف إلى السيطرة على الدول والمجتمعات عبر أدوات ناعمة وخشنة في آن واحد.
التصنيف يمثل أداة قوية لتعزيز مفهوم الردع المالي والأمني ضد هذا المشروع، ويمنح الإجراء وزارة الخزانة الأميركية أدوات قانونية فعالة لتعطيل شبكات التمويل المعقدة التي تعتمد عليها الجماعة في دول مختلفة، ويضيّق الخناق على أعضائها الذين يتنقلون بحرية تحت غطاء العمل السياسي أو الإغاثي، فالإدارة الأميركية أصبحت تدرك اليوم أن التصنيف ليس غاية بحد ذاته، بل هو وسيلة لقطع الأوكسجين المالي عن خلايا تنشط في أوروبا وأميركا الشمالية، وتعمل على تصدير خطاب الكراهية والتطرف إلى الشرق الأوسط.
لقد أظهرت التجربة التاريخية أن المنطقة العربية كانت أكثر وعيا بخطورة هذه التيارات من العواصم الغربية، ففي الوقت الذي كانت فيه بعض الدوائر الغربية تتحدث عن "اعتدال الإخوان" أو "احتواء" خطرهم، كانت دول في منطقتنا وعلى رأسها السعودية قد أدركت خطورة هذا المشروع مبكرا، وصنفت الجماعة كمنظمة إرهابية، وهذا الإدراك لم يأت من فراغ، بل جاء نتيجة تجربة مريرة مع خلايا "الإخوان" التي تسللت إلى مفاصل المجتمع، وحاولت زعزعة الاستقرار من الداخل.
بنت جماعة "الإخوان المسلمين" شبكة معقدة من المؤسسات المالية والجمعيات الخيرية والمراكز الثقافية في أوروبا وأميركا الشمالية، تعمل كواجهة لجمع التبرعات وتبييض الأموال وتمويل الأنشطة السياسية
هذا التباين في الرؤية ليس جديدا على العلاقة بين الشرق والغرب في ملف التطرف، وهنا يجب أن نتذكر أن السعودية كانت أول من حذر الولايات المتحدة من خطر أسامة بن لادن وتنظيمه في تسعينات القرن الماضي، وفي تلك الفترة لم تجد التحذيرات السعودية آذانا مصغية في واشنطن التي تعاملت مع بن لادن كـ"ظاهرة محلية" في المنطقة التي يوجد فيها ويمكن السيطرة عليها، حتى وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 التي أثبتت أن الرؤية الإقليمية التي عاشت وتفاعلت مع هذه التيارات عن قرب، كانت أكثر عمقا وواقعية.
إن التردد الأميركي تاريخيا في التعامل مع جذور التطرف، سواء كان في صورة تنظيم "القاعدة" أو في صورة جماعة "الإخوان المسلمين"، يعود إلى سوء قراءة للمشهد الإقليمي في ذلك الحين، وإلى الاعتقاد الخاطئ بأن هذه الجماعات يمكن أن تكون ورقة سياسية تستخدم في صراعات القوى، وهذا الاعتقاد كلف المنطقة والعالم ثمنا باهظا.
اليوم، قرار الإدارة الأميركية بتصنيف فروع لـ"الإخوان" في دول محددة هو اعتراف متأخر بأن الجماعة ليست كيانا واحدا متجانسا، بل هي شبكة تتكيف مع البيئة المحلية، وتستخدم فروعها كأدوات للتمويل والتجنيد والتحريض، وهذا الإجراء يمثل تصحيحا لمسار خاطئ سارت فيه الإدارات الأميركية السابقة طويلا، عندما منحت هذه الجماعات غطاء سياسيا أو ماليا بحجة "الاعتدال" أو "المشاركة السياسية".
الأثر الأهم لهذا التصنيف يتجاوز البعد الأمني المباشر ليصل إلى الشريان الاقتصادي والاجتماعي للجماعة في الغرب، حيث بنت جماعة "الإخوان المسلمين" شبكة معقدة من المؤسسات المالية والجمعيات الخيرية والمراكز الثقافية في أوروبا وأميركا الشمالية، تعمل كواجهة لجمع التبرعات وتبييض الأموال وتمويل الأنشطة السياسية في الخارج، ويتيح التصنيف للسلطات الأميركية تجميد الأصول، وملاحقة الممولين، وتفكيك هذه الشبكات التي استغلت "حرية المجتمعات الغربية" لتغذية مشروعها الأيديولوجي.
هذا الإجراء له أيضا بعد اجتماعي عميق، فالتصنيف يساهم في فضح الازدواجية التي تمارسها الجماعة في الغرب، حيث تظهر بمظهر المدافع عن الحريات والديمقراطية، بينما هي في حقيقتها تيار شمولي لا يؤمن إلا بحكمه، وهذا التناقض سيجعل من الصعب على الجماعة الاستمرار في التجنيد في الغرب.
المقارنة بين استراتيجية "الإخوان" في الشرق والغرب تكشف عن ازدواجية واضحة. ففي الشرق الأوسط حيث توجد الجماعة في بيئات أكثر صرامة، تتبنى الجماعة خطاب المظلومية والعمل السري، وتستخدم العنف أو تدعمه بشكل غير مباشر عبر أذرعها المختلفة، أما في الغرب فتتخفى الجماعة خلف واجهات مدنية ومؤسسات مجتمعية، وتستغل قوانين الحريات والديمقراطية لخدمة مشروعها.
يبقى القول إن التصنيف خطوة إجرائية ضرورية، لكنه ليس العلاج النهائي، حيث إن الخطر الحقيقي يكمن في الأيديولوجيا التي تتبناها الجماعة، ومواجهة هذا الخطر تتطلب جهدا فكريا وثقافيا موازيا للجهد الأمني والمالي، فيجب على الدول التي تعاني من هذا المشروع أن تستمر في تجفيف منابع التمويل الفكري، وتعزيز خطاب الانفتاح والاعتدال والوطنية، الذي هو النقيض التام لخطاب "الإخوان المسلمين".
إن المعركة الحقيقية مع "الإخوان المسلمين" هي معركة الأفكار والوعي، ولا يمكن لدولة أن تحقق التنمية والاستقرار في ظل وجود تيار يعمل على تقويض مؤسساتها، وتسميم عقول شبابها، وتكريس ثقافة الانغلاق والتطرف... التصنيف قد يقطع الأذرع، لكن المواجهة الفكرية هي التي تقطع الرأس.