الفاشر... حين تنكشف الحرب المنسية

الفاشر... حين تنكشف الحرب المنسية

استمع إلى المقال دقيقة

لم تكن مأساة الفاشر حدثا مفاجئا في مسار الحرب السودانية، لكنها كانت الصرخة التي أعادت العالم إلى واقعه، فالحرب المشتعلة منذ أبريل/نيسان 2023 لم تتوقف يوما، لكنها تراجعت فقط خلف ضجيج الأخبار القادمة من غزة وأوكرانيا وغيرها من الأحداث في الشرق الأوسط وخارجه، حتى بدت كأنها انطفأت، بينما النار كانت تلتهم البلاد ببطء.

في الأسابيع الأخيرة، عادت الفاشر إلى العناوين بعد أن تكشفت تفاصيل المجازر التي شهدتها المدينة، والصور القادمة من هناك أعادت مشاهد دارفور الأولى قبل عقدين، وذكرت الجميع بأن النزاع الذي بدأ بين الجيش و"قوات الدعم السريع" لم يكن مجرد صراع على السلطة، بل حرب تهدد بتمزيق السودان من أساسه.

اللافت أن السودان يعيش اليوم العام الثالث تقريبا من الحرب، دون أن يقترب أي طرف من النصر، ودون أن يقترب العالم أيضا من الحل. كانت الهدن تتساقط واحدة تلو الأخرى، والمبادرات الإقليمية تتوالى دون نتيجة، ومع كل جولة قتال، تتغير الخرائط قليلا، لكن الواقع الإنساني يزداد سوءا.

منذ انشغال الإعلام العالمي بحرب غزة بعد أكتوبر/تشرين الأول 2023، خرج السودان من بؤرة الاهتمام، خفت التغطيات، وتراجعت التقارير، وتحول النزاع إلى ملف ثانوي في نشرات الأخبار، لكن المأساة لم تتوقف، فالمدن تقصف، والمخيمات تتضخم، والنازحون يعبرون الحدود بأعداد هائلة، بينما لم تتمكن النداءات الأممية ولا العقوبات الرمزية من إيقاف النزيف.

الفاشر اليوم تمثل رمزا للنتائج الكارثية عندما تترك الحروب دون حسم سياسي، مدينة كانت صامدة منذ بداية الصراع، تحولت إلى مسرح لعمليات تطهير وتهجير ودمار واسع

في خضم هذا الغياب، برز "منبر جدة" كمحاولة جادة لإعادة السودان إلى طاولة الحل، حيث جمعت السعودية ممثلي الطرفين في أكثر من جولة، وثبتت هدنا إنسانية محدودة، وأتاحت للمجتمع الدولي منصة حوار واقعية في وقت كانت فيه معظم العواصم تكتفي بالبيانات.

 لكن المشكلة السودانية أعمق من أن تحل بجلسة واحدة، فالحرب هناك متشعبة، تمتد من طموحات عسكرية إلى حسابات خارجية، ومن إرث سياسي متكلس إلى مأساة إنسانية تراكمت عبر العقود، ومع ذلك لا يمكن إنكار أن "منبر جدة" أعاد صياغة السؤال المركزي في السودان: هل الحل ممكن؟ فبينما يراهن بعض الأطراف على الحسم العسكري، تظل التجربة تؤكد أن السلاح لم يحقق يوما سلاما في السودان، وأن كل انتصار ميداني يولد هزيمة إنسانية أعمق.
الفاشر اليوم تمثل رمزا للنتائج الكارثية عندما تترك الحروب دون حسم سياسي، مدينة كانت صامدة منذ بداية الصراع، تحولت إلى مسرح لعمليات تطهير وتهجير ودمار واسع، وهذه ليست مفاجأة، إنما نتيجة منطقية لتراكم التجاهل.
السودان اليوم أمام مفترق تاريخي… إما أن يجد طريقا نحو مصالحة وطنية تضع السلاح جانبا وتعيد الاعتبار لمفهوم الدولة، وإما أن يستمر في الانهيار البطيء الذي يجعل من كل مدينة سودانية "فاشرا" جديدة.
 

font change