إسرائيل واستجداء التطبيع مع السعودية

إسرائيل واستجداء التطبيع مع السعودية

استمع إلى المقال دقيقة

لم تكن تصريحات وزير المالية الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموتريتش حادثة عابرة في زحمة الأخبار، بل مرآة لحالة سياسية متوترة داخل إسرائيل. فالرجل الذي هاجم السعودية بعبارات عنصرية ثم اعتذر عنها، وعاد بعدها بأيام قليلة ليكرر الهجوم ذاته في اجتماع حزبه، مؤكدا أنه "لا أحد يقدم لإسرائيل خدمة بتطبيع العلاقات معها" ولم يتراجع، بل كرس موقفه، وما بين الهجوم والاعتذار والعودة للهجوم، لم تصدر عن الرياض كلمة واحدة، وصمتها لم يكن غيابا، بل موقف متكامل: ثقة لا تستفز، وثبات لا يتأثر بانفعالات من اعتادوا خلط التطرف بالسياسة.

منذ سنوات، كانت إسرائيل هي من تملي شروط التطبيع، وتتحكم في إيقاعه، وتتصرف كما لو أن العالم ينتظر منها "القبول". أما اليوم، فالمشهد انقلب تماما، أصبحت إسرائيل الطرف الذي يتمنى، والسعودية الطرف الذي يضع الشروط، ومنذ أن أعلنت السعودية موقفها الواضح بأن أي تطبيع لن يتم إلا عبر مسار سياسي حقيقي نحو قيام دولة فلسطينية مستقلة، باتت تل أبيب تدرك أن الطريق إلى الرياض مغلق أمام الخطاب العنصري، وأن السلام لا ينتزع بالمناورة بل يبنى بتنفيذ الشروط.

اللافت في موجة تصريحات سموتريتش أنها كشفت حجم القلق داخل اليمين الإسرائيلي من استمرار صعود الموقف السعودي إلى موقع القيادة السياسية والأخلاقية في المنطقة، فبينما يتحدث الوزير بلغة التهكم، كانت السعودية ترد بالفعل والعمل، عبر تحركات دبلوماسية واسعة نجحت في حشد العالم للاعتراف بدولة فلسطين، عشرات الدول أعلنت اعترافها رسميا خلال الأشهر الماضية، واللغة الدولية تغيرت من "حل الدولتين" كشعار، إلى "ضرورة الاعتراف" كمسار. كل ذلك تم دون ضجيج، ودون مؤتمر استعراضي، بل عبر دبلوماسية سعودية هادئة أعادت صياغة النقاش العالمي من جديد.

ولعل ما يزيد من توتر المتطرفين في إسرائيل أن الرياض لا تطلب لنفسها شيئا، بل تضع شروطها باسم فلسطين لا باسمها، شروطها ليست ثمنا سياسيا، بل معيار أخلاقي يتمثل في دولة فلسطينية على حدود 1967، ووقف للاستيطان، وضمان للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، لا أكثر ولا أقل.

يبقى الفارق واضحا بين من يسعى خلف الاعتراف ومن يصنعه، إسرائيل تحلم بتطبيع يعيد إليها شرعيتها المتآكلة، أما السعودية فتقود مشروعا يعيد للشرعية الفلسطينية معناها

وفي عالم السياسة المليء بالمقايضات، تبدو هذه المعادلة نادرة، أن تستخدم دولة وزنها الدبلوماسي لا لتحصيل مكاسب ذاتية، بل لفرض معيار من العدالة الإقليمية، ولذلك حين يتحدث سموتريتش بازدراء أو "اعتذار متردد" فهو في الواقع يعبر عن خوفٍ من فقدان السيطرة على المشهد، فالسعودية لم تعد مجرد طرف إقليمي كبير، بل أصبحت العنوان الدولي للاتزان السياسي، وموقفها الثابت من التطبيع لا يثير الغضب في واشنطن، ولا الريبة في العواصم الأوروبية، بل العكس تماما، ينظر إليه بوصفه ضمانة لاستقرار الشرق الأوسط، والنتيجة أن إسرائيل تجد نفسها اليوم أمام جدار من الوعي العربي والدولي صاغته السعودية بهدوء وواقعية.
في هذا السياق، لا تحمل تصريحات سموتريتش أي قيمة حقيقية، فإساءة وزير متطرف لا تنقص من مكانة السعودية، واعتذاره لا يضيف إليها شيئا، ومواقف السعودية لا تقاس بانفعالات السياسيين، بل بموقعها في صياغة التوازنات، وكيف جعلت العالم يدرك أن الاستقرار لا يتحقق بتجاوز القضية الفلسطينية بل بمعالجتها من جذورها.
ولعل المفارقة الأهم أن كل هجوم إسرائيلي جديد لا يضعف الموقف السعودي، بل يزيده صلابة، لأن من يهاجمك خوفا من تأثيرك، إنما يعترف ضمنا بذلك التأثير، وتل أبيب اليوم تعرف أن تجاهل الرياض لها أخطر عليها من أي رد، فالصمت هنا ليس ضعفا، بل لغة قوية، لا تُستفز بالتصريحات، بل تمضي بثقة نحو هدف واحد أن تكون فلسطين دولة حقيقية، وأن يكون السلام خيارا صادقا لا غطاء لمشروع استيطاني جديد.
في النهاية، يبقى الفارق واضحا بين من يسعى خلف الاعتراف ومن يصنعه، إسرائيل تحلم بتطبيع يعيد إليها شرعيتها المتآكلة، أما السعودية فتقود مشروعا يعيد للشرعية الفلسطينية معناها، وبين الحلم والموقف، يتحدد شكل الشرق الأوسط القادم. 

font change