من السهل أن نتصور أن "جيل زد"- الذي ولد بعد عام 1997- لا يهتم بالسياسة، وأن ما يشغله هو الترفيه، والتقنية، والمحتوى القصير، لكن الواقع أكثر تعقيدا من ذلك، فهذا الجيل الذي نشأ في عالم متسارع ومفتوح على كل الاتجاهات، لا ينفر من السياسة بقدر ما ينفر من لغتها القديمة، وشعاراتها القديمة، وتكرار وعودها التي لم تتحقق، إنه جيل السياسة غير المعلنة، التي تمارس على شكل مواقف رقمية، وحملات تضامن افتراضية تحدث أحيانا أثرا أكبر من بيانات الأحزاب والمنظمات.
في الشرق الأوسط، يراقب هذا الجيل التحولات الكبرى- من اتفاق غزة إلى سقوط النظام في دمشق وظهور سوريا الجديدة، ومن تغير خريطة التحالفات الإقليمية إلى تبدل الخطاب الدولي حول إسرائيل وفلسطين- لكنه لا يعيشها بذات الطريقة التي عاشتها الأجيال السابقة.
بالنسبة لهم، هذه الأحداث ليست معارك أيديولوجية، بل اختبارات إنسانية ومعايير للعدالة، يقيسون من خلالها صدقية الشعارات التي يسمعونها، فهم لا يميزون بين "الشرق الأوسط الجديد" أو "القديم"، بل بين ما يرونه صادقا ومؤثرا في واقع الناس، وما يرونه استعراضا سياسيا بلا روح.
تتغير اهتمامات هذا الجيل في الاتجاه الذي يعكس أولوياته: البيئة، الذكاء الاصطناعي، العدالة الاجتماعية، والحقوق الفردية، فالسياسة لديه ليست في البرلمان بل في "المجتمع الرقمي"
"جيل زد" العربي تحديدا لا ينتمي إلى تنظيمات أو تيارات، لكنه يتفاعل مع كل قضية عبر شبكة قيم جديدة: التعاطف، المساواة، احترام الخصوصية، ورفض السيطرة. وهذه القيم هي التي تحدد مواقفه من السياسة أكثر من الانتماءات الحزبية أو الجغرافية.
في غزة مثلا، لم يحتف هذا الجيل بخطابات الفصائل بقدر ما تفاعل مع صور الأطفال والدمار والجانب الإنساني، فكان موقفه وجدانيا قبل أن يكون سياسيا، وفي سوريا نظر إلى التحول هناك ليس بوصفه نصرا لطرف على آخر، بل بوصفه اختبارا لإمكانية بناء دولة طبيعية بعد حقبة من الانهيار.
أما الحرب الروسية-الأوكرانية، فقد كانت بالنسبة لكثير منهم درسا في ازدواجية المعايير العالمية، حيث شاهدوا كيف تحركت الحكومات الغربية بسرعة غير مسبوقة حين تعلق الأمر بأوروبا، بينما ظلت بطيئة أو صامتة تجاه معاناة شعوب الشرق الأوسط، وهذا الإدراك المبكر جعل "جيل زد" أكثر تشككا في الخطاب الغربي، وأكثر واقعية في تقييم موازين القوى.
في المقابل، تتغير اهتمامات هذا الجيل في الاتجاه الذي يعكس أولوياته: البيئة، الذكاء الاصطناعي، العدالة الاجتماعية، والحقوق الفردية، فالسياسة لديه ليست في البرلمان بل في "المجتمع الرقمي" ومع أن البعض يرى في ذلك انصرافا عن الوعي السياسي، إلا أنه في الحقيقة تحول في أدوات التعبير لا في جوهر الموقف.
ورغم الفجوة الظاهرة بين هذا الجيل وواقع السياسة الحالي، فإن تأثيره بدأ يتشكل ببطء لكن بثبات، فالشركات الكبرى تتبنى خطابا أخلاقيا لأنها تخشى غضب هذا الجيل، والحكومات تعيد التفكير في تواصلها العام لأنها تدرك أن الجمهور الجديد لا يصدق بسهولة، ولا يتأثر بالشعارات، ويقرأ ما وراء الصورة.
المزاج السياسي القادم في العالم العربي سيكون امتدادا لهذا الوعي، لأن "جيل زد" لا يرى السياسة بوصفها صراعا بين أنظمة أو تيارات، بل مسؤولية جماعية تنعكس على جودة الحياة، لذلك حين يدخلون المجال العام في العالم العربي بقوة خلال السنوات المقبلة، لن يكونوا ثوريين بالمفهوم التقليدي، بل على عكس ما يتوقع كثيرون يسعون للتطوير بطريقة هادئة، لكن فاعلة.
في النهاية، يمكن القول إن "جيل زد" هو أول جيل عربي يعيش العولمة لا كمفهوم اقتصادي بل كخبرة يومية، جيل يتعامل مع العالم بلغته وأدواته، لكنه لا يفقد إحساسه المحلي وهويته الخاصة، وبين الانفتاح والشك، وبين الحلم بالتطوير والحرص على الاستقرار، سيبقى هذا الجيل أحد أهم المؤشرات على شكل السياسة القادمة: أقل ضجيجا، لكن أكثر وعيا وإنسانية.