في عالم يشهد اضطرابا متزايدا وتغيرات متسارعة في موازين القوى، تبرز بعض الخطوات السياسية كعلامات فارقة، لا لأنها تحدث ضجيجا، بل لأنها تبنى على تراكم هادئ وعمل طويل الأمد. هكذا يمكن قراءة الاتفاقية الدفاعية الاستراتيجية التي وقعتها المملكة العربية السعودية وجمهورية باكستان الإسلامية في الرياض، والتي قد تبدو في ظاهرها مجرد اتفاقية دفاعية بين بلدين شقيقين، لكنها في حقيقتها تمثل منعطفا نوعيا في بنية الشراكة بين البلدين، وفي طريقة قراءة السعودية لتحديات الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي.
فالسعودية وباكستان ليستا غريبتين على بعضهما البعض، حيث إن العلاقة بينهما ليست وليدة ظرف سياسي طارئ أو تقاطع مؤقت في المصالح، ومنذ أكثر من ثمانية عقود والعلاقات الثنائية بين الرياض وإسلام آباد تتخذ طابعا استراتيجيا عميقا، تخللتها شراكات اقتصادية، ومساعدات تنموية، وتعاونات عسكرية، لكن الاتفاقية الجديدة- التي تحمل طابع الردع الدفاعي المشترك- تشكل تتويجا لتلك العلاقة التاريخية، وتفتح الباب أمام مستوى غير مسبوق من التكامل في البعد الأمني والعسكري.
الاتفاقية، كما ورد في بنودها المعلنة، تنص صراحة على أن أي هجوم خارجي مسلح على أي من البلدين يعد هجوما على كليهما، وهو ما يعكس بوضوح نضج العلاقة الدفاعية بين البلدين، وانتقالها من مرحلة التعاون العام إلى مرحلة التنسيق الاستراتيجي الكامل، بما يشمل توحيد الجاهزية، وتعزيز القدرات الدفاعية، وتكامل منظومات الردع، وهذا النوع من الاتفاقيات لا يبنى على المجاملة أو القرب الدبلوماسي، بل هو قرار سيادي يعبر عن مستوى الثقة السياسية والعسكرية بين الجانبين.
السعودية، بثقلها الاقتصادي والسياسي، وبخططها الطموحة في تعزيز مكانتها كقوة إقليمية مسؤولة، تملك القدرة والرؤية لتوظيف مثل هذه الشراكات بما يخدم الأمن والاستقرار
الأهم من كل ذلك، أن هذه الاتفاقية لا تأتي كرد فعل على تطورات معينة في الإقليم، كما قد يحاول البعض أن يربطها، بل هي ثمرة عمل طويل، وتخطيط مؤسسي مشترك امتد لسنوات، ولا يمكن بأي حال من الأحوال اختزالها في سياق إقليمي مؤقت أو أزمة آنية، مع الأخذ في الحسبان أن أحد أوجه القوة في هذه الاتفاقية هو أنها تعكس استقلالية القرار السيادي لكل من السعودية وباكستان في بناء تحالفاتهما الدفاعية بما يتفق مع مصالحهما الوطنية، بعيدا عن الاستقطابات والتفسيرات التآمرية التي قد يحاول البعض ترويجها.
وفي الوقت الذي تتعرض فيه المنطقة والعالم لمخاطر متزايدة، سواء في شكل تهديدات أو اضطرابات، أو تصاعد سباقات التسلح، فإن من حق الدول أن تبني شراكات تمكنها من حماية أراضيها، ورفع جاهزيتها، وتوسيع قدراتها في مواجهة أي طارئ، والاتفاقية الدفاعية السعودية-الباكستانية تأتي في هذا السياق، وتعد ممارسة مشروعة لحق سيادي مكفول في العلاقات الدولية، لا سيما أن البلدين يجمعهما وبشكل مستمر تدريبات عسكرية ومناورات مشتركة، وتعاون وثيق، ويشتركان في تحديات مشابهة.
ولا يخفى على أحد أن باكستان، بما تملكه من جيش، وقدرات نوعية، وتجربة طويلة في التحديات، تعد شريكا استراتيجيا ذا قيمة مضافة لأي دولة ترغب في بناء شراكة دفاعية متينة، ومن الجهة الأخرى فإن المملكة العربية السعودية، بثقلها الاقتصادي والسياسي، وبخططها الطموحة في تعزيز مكانتها كقوة إقليمية مسؤولة، تملك القدرة والرؤية لتوظيف مثل هذه الشراكات بما يخدم الأمن والاستقرار، ليس فقط لحدودها، بل لمجمل المحيط الإقليمي.
لا شك أن توقيع اتفاقية الدفاع الاستراتيجي المشترك بين السعودية وباكستان هو أكثر من مجرد تحالف دفاعي، بل هو مؤشر على أن السعودية تعيد رسم خرائط تحالفاتها
الاتفاقية وفي بعدها الرمزي، تقول الكثير، فهي تمثل رسالة واضحة بأن التعاون الدفاعي لا يعني الانحياز أو استعداء أحد، وإنما هو تعبير ناضج عن توجه دولة مسؤولة، ترى في التعدد والتنوع الاستراتيجي وسيلة لحماية سيادتها وتحقيق أمنها، بعيدا عن ارتهان الخيارات أو الارتهان للضغوط.
وفي ظل هذه الصورة العامة، فإن ما يمكن قراءته من توقيع هذه الاتفاقية هو أننا أمام شكل جديد من أشكال التعاون الاستراتيجي، القائم لا على ردود الأفعال، بل على رؤية طويلة المدى، ترى في الردع المشترك وسيلة لتعزيز السلام، وفي التكامل العسكري وسيلة لتقليل المخاطر، وفي تعدد الشراكات ضمانا للاستقرار.
لا شك أن توقيع اتفاقية الدفاع الاستراتيجي المشترك بين السعودية وباكستان هو أكثر من مجرد تحالف دفاعي، بل هو مؤشر على أن السعودية تعيد رسم خرائط تحالفاتها، ليس بديلا عن تحالف، ولا في وجه أحد، بل من منطلق سيادي يضع مصالح الدولة أولا، وفي مرحلة تتداخل فيها التهديدات وتتقلص فيها المسافات بين الأحداث، تثبت السياسة السعودية أنها تتصرف من موقع القوة، لا الحاجة، وأنها تبني شراكاتها على قاعدة الندية والاحترام، وليس التبعية أو الانفعال، وهذه الاتفاقية خطوة ضمن مسار أوسع، يعكس نضجا استراتيجيا سعوديا متصاعدا، وإدراكا متقدما لطبيعة التحديات المقبلة.