تعيش غزة لحظة فارقة، بعد حرب أنهكت سكانها ووضعت المنطقة بأكملها أمام أزمة إنسانية متفاقمة. جاءت خطة الرئيس الأميركي دونالد ترمب لتعلن عن مسار جديد من عشرين بندا، يعد بوقف النار، وانسحاب إسرائيلي تدريجي، وتبادل أسرى ورهائن، وإدارة انتقالية للقطاع عبر لجنة تكنوقراط فلسطينية بإشراف دولي. في ظاهرها تبدو الخطة مشروعا طموحا لإنهاء الحرب، وفي جوهرها هي اختبار معقد تتقاطع فيه حسابات السياسة، والواقع الميداني، والمصالح الإقليمية والدولية.
اللافت أن الترحيب بالخطة جاء من أطراف عربية وإسلامية وغربية في آن واحد، السعودية، مصر، قطر، وتركيا انضمت إلى أربع دول عربية وإسلامية أعلنت دعمها، معتبرة أن ما طرحه ترمب يمثل خطوة عملية نحو وقف النزيف وتثبيت أفق سياسي. والاتحاد الأوروبي وبريطانيا وفرنسا وألمانيا بدورها باركت الخطة، ووصفتها بأنها فرصة نادرة لإنهاء المأساة، هذا الزخم السياسي أعطى الخطة ثقلا لم تحظ به مبادرات سابقة، وأعاد التأكيد على أن غزة ليست قضية محلية فحسب، بل ملف إقليمي ودولي يتطلب إدارة مشتركة.
لكن على الأرض، المعضلة أشد تعقيدا، فـ"حماس" لم تعلن قبولها بعد، وتسريبات من داخل الحركة تشير إلى نقاشات محتدمة حول بنود نزع السلاح وخروج المقاتلين، هناك تيار يميل إلى القبول المشروط مقابل ضمانات دولية، وآخر يرى أن الخطة تمثل تهديدا وجوديا لا يمكن التساهل معه ويسعى إلى تعديلات على البنود.
في المقابل، يجد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نفسه أمام معادلة صعبة. فالقبول بالخطة يعني التخلي عن شعارات الحسم العسكري، لكنه أيضا يمنحه مخرجا من حرب مكلفة عسكريا وسياسيا، ويحد من استمرار العزلة الدولية التي طوقت حكومته.
الخطة لم تكتف بالشق الأمني، بل ذهبت أبعد، لتتحدث عن إعادة إعمار واسعة، وآلية مالية محايدة بإشراف دولي، ومشاريع اقتصادية تقودها هيئة استثمار وتنمية في غزة، كما وضعت خطوطا لإصلاح السلطة الفلسطينية، وتعزيز مؤسساتها لتكون قادرة على استعادة دورها، بما يشمل خدمات التعليم والصحة والأمن.
الخطة الأميركية اختبار للجميع. لـ"حماس" التي تواجه لحظة الحقيقة بين السلاح والسياسة. ولنتنياهو الذي يوازن بين بقائه السياسي وتحديات الداخل الإسرائيلي. ولواشنطن لكي تبرهن على قدرتها في ضمان التنفيذ والمتابعة
غير أن سكان غزة لا يبحثون عن تفاصيل البند العشرين... أو صياغة الفقرة الرابعة، هم ببساطة يريدون سلاما يتيح لهم أن يعيشوا حياة طبيعية بعد سنوات من الدمار، وهذا البعد الإنساني هو الأهم في جوهر أي خطة، مهما تعقدت نصوصها.
الجديد أيضا أن الخطة لا تمنح إسرائيل ما كانت تطمح إليه من تهجير أو سيطرة مفتوحة، وتنص بوضوح على منع الطرد القسري، وعلى ضمان حق العودة الطوعي لمن يغادر مؤقتا، مع حماية الممتلكات، وهو ما يفسر حذر نتنياهو وارتباكه في تبرير موافقته، لأنه يدرك أن بنود الخطة ستفرض على إسرائيل تنازلات لم يكن مستعدا لمنحها دون ضغط دولي مباشر.
في المحصلة، تقف غزة أمام مفترق طرق، الخيار الأول أن تتحول الخطة إلى أساس لبناء سلام تدريجي، يوقف الحرب ويعيد الإعمار ويفتح نافذة نحو دولة فلسطينية. الخيار الثاني أن تغرق في دوامة المماطلة، إذا ما رفضت الأطراف المعنية أو أضافت شروطا تعجيزية، أما الخيار الثالث، وهو الأخطر، فهو أن تتحول الخطة إلى غطاء سياسي لإدارة أزمة قد تستمر لسنوات طويلة، دون حلول جذرية.
في نهاية المطاف، تبقى الخطة الأميركية اختبارا للجميع. لـ"حماس" التي تواجه لحظة الحقيقة بين السلاح والسياسة. لنتنياهو الذي يوازن بين بقائه السياسي وتحديات الداخل الإسرائيلي. ولواشنطن التي ينتظر منها أن تبرهن بالفعل على قدرتها في ضمان التنفيذ والمتابعة. وبين هذه الحسابات المتشابكة، يظل الأمل الوحيد عند سكان غزة البسطاء، أن تتحول الوعود هذه المرة إلى واقع ملموس، لأن البديل ببساطة لم يعد محتملا.