الشرع في موسكو... زيارة إعادة تعريف العلاقات

الشرع في موسكو... زيارة إعادة تعريف العلاقات

استمع إلى المقال دقيقة

لم تكن زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى موسكو حدثا بروتوكوليا أو عودة شكلية إلى دفاتر العلاقات القديمة للدولة السورية، بل محطة محورية في مسار التحول الذي تعيشه سوريا في عامها الأول بعد سقوط نظام الأسد، وتشكل لحظة سياسية عميقة المعنى، تضع على الطاولة العلاقة المعقدة مع روسيا، الدولة التي كانت لعقد ونصف اللاعب الأهم في الميدان السوري، وأصبحت اليوم مطالبة بإعادة تعريف دورها في مرحلة الدولة لا النظام، وفي زمن المؤسسات لا الأفراد.

الزيارة التي تخللها لقاء مطول مع الرئيس فلاديمير بوتين استمر لأكثر من ساعتين في الكرملين لم يكن جلسة مجاملة، بل مفاوضات دقيقة تناولت ملفات أساسية، على رأسها الضمانات الأمنية لمنع إعادة تسليح بقايا القوات التابعة للنظام السابق، والمساعدة في بناء الجيش السوري الجديد، بالإضافة إلى مناقشة مستقبل القواعد الروسية في حميميم وطرطوس، بحيث تصبح جزءا من ترتيبات الاستقرار الإقليمي لا أدوات نفوذ سياسي، وأن تتحول العلاقة بين البلدين في شكلها الجديد من الوصاية والتبعية، إلى تعاون يحافظ على المصالح المشتركة، دون أن يعيد إنتاج العلاقة القديمة التي استنزفت الطرفين.

الزيارة جاءت تتويجا لمسار سياسي ناضج رسم ملامحه الشرع منذ توليه الرئاسة، فدمشق التي عاشت عزلة طويلة بدأت في استعادة موقعها الإقليمي بسرعة لافتة، بدءا من عودتها إلى الجامعة العربية، ومرورا بإعادة العلاقات مع دول المنطقة، ووصولا إلى حضورها في الجمعية العامة للأمم المتحدة للمرة الأولى منذ ما يقارب ستة عقود، كما تمكنت من رفع جزء كبير من العقوبات الدولية، الأمر الذي أعاد دمشق إلى الخريطة الدبلوماسية بوصفها دولة في طريقها لأن تكون فاعلة وليست عبئا على محيطها.

هذا التوازن في السياسة الخارجية السورية لم يقتصر على الانفتاح العربي والدولي، بل شمل أيضا إعادة إحياء الملفات الأمنية الحساسة بطريقة واقعية، فقد أبدت دمشق استعدادا لتحديث اتفاقية فض الاشتباك لعام 1974 مع إسرائيل ضمن إطار جديد يضمن الاستقرار ويقلص احتمالات التصعيد، وهذا التوجه يعكس رغبة القيادة الجديدة في تحويل مناطق التوتر إلى مناطق استقرار، وإثبات أن سوريا قادرة على إدارة ملفاتها الأمنية بنفسها.

زيارة الرئيس السوري إلى موسكو، في جوهرها تعكس انتقال سوريا من مرحلة رد الفعل إلى صناعة الفعل، وترسيخ مبدأ "إن عقلية الثورة لا تبني الدولة"

وبالعودة إلى الزيارة، حملت المباحثات في موسكو طابعا عمليا وبرغماتيا، وفي الشق الاقتصادي ركزت على احتياجات سوريا العاجلة: القمح، الطاقة، إعادة الإعمار. أما على الصعيد السياسي، فإن دمشق تدرك أن المرحلة تتطلب توازنا دقيقا في العلاقات الدولية، وأن الانفتاح لا يعني التفريط، بل إدارة مصالح الدولة بعقلانية، فبعد أقل من عام على سقوط نظام الأسد، تعيد سوريا تعريف دورها في الإقليم والعالم، كدولة تحاول ترميم الداخل أولا، وإقامة علاقات مستقرة مع الخارج ثانيا، من دون أن تدخل في محاور مغلقة أو صراعات أيديولوجية، ولهذا تأتي زيارة موسكو بوصفها خطوة متقدمة في سياسة الانفتاح الواقعي التي تبناها الشرع منذ اليوم الأول.

وفي بعدها الاستراتيجي، تظهر الزيارة أن سوريا الجديدة تسعى إلى تحويل القوة الروسية من دور "الراعي" إلى دور "الضامن"، ومن وظيفة الحماية إلى وظيفة الشراكة، فروسيا تدرك أن نفوذها لن يدوم إلا عبر مؤسسات دولة مستقرة، وسوريا تدرك أن استقرارها يحتاج شركاء لا أوصياء، وبين هذين الإدراكين، تتشكل صيغة جديدة من العلاقات الثنائية قوامها المصالح المتبادلة لا المعادلات المفروضة.

زيارة الرئيس السوري إلى موسكو، في جوهرها تعكس انتقال سوريا من مرحلة رد الفعل إلى صناعة الفعل، وترسيخ مبدأ "إن عقلية الثورة لا تبني الدولة"، كما سبق وذكر الرئيس الشرع، وهو ما يعني أن السياسة الخارجية السورية لا تسعى خلف استمرار الأزمات، بل تحاول أن تصنع منها فرصا، وإذا استمر هذا النهج بثباته وهدوئه، فإن هذه الزيارة قد تسجل لاحقا كنقطة تحول حقيقية في تاريخ علاقات سوريا مع المجتمع الدولي، ونقطة انطلاق أكثر توازنا، وأكثر حضورا، وأكثر وعيا بمصالحها في عالم لا يرحم من يخطئ في قراءة موازين القوى.

font change