صفقة "تيك توك" الجديدة... تطبيق بإدارة أميركية ورعاية صينية

بين النفوذ الرقمي والسيادة الوطنية

Sara Gironi Carnevale
Sara Gironi Carnevale
أعلن ترمب أن الرئيس الصيني شي جينبينغ قد أعطى موافقته على صفقة "تيك توك" الجديدة

صفقة "تيك توك" الجديدة... تطبيق بإدارة أميركية ورعاية صينية

مع بداية عهد دونالد ترمب الثاني في يناير/كانون الثاني 2025، عاد اسم "تيك توك" إلى واجهة السياسة الأميركية كما لو أنه لم يغادرها قط. منذ اللحظة الأولى لتنصيبه، بدا واضحا أن التطبيق الصيني الشهير لن يعامل كمجرد منصة ترفيهية تنتشر بين المراهقين، بل كرمز مكثف لصراع أوسع بين الولايات المتحدة والصين، تتداخل فيه التكنولوجيا بالأمن القومي، ويتقاطع فيه الاقتصاد مع السياسة الداخلية، وتستخدم فيه التطبيقات الذكية كأدوات نفوذ ودعاية لا تقل خطرا – في نظر واشنطن – عن الطائرات المسيرة أو الأقمار الصناعية.

غير أن الصراع على وشك الحسم بشكل نهائي. بعد أن وقع الرئيس الأميركي ترمب قبل أيام أمرا تنفيذيا أعلن فيه أن خطته لبيع عمليات "تيك توك" الأمريكية، المملوكة لشركة "بايت دانس" الصينية، لمستثمرين أميركيين ودوليين، ستلبي متطلبات الأمن القومي المنصوص عليها في قانون 2024. وأوضح نائب الرئيس جي دي فانس أن الشركة الأميركية الجديدة ستقدر قيمتها بنحو 14 مليار دولار، وهو رقم أقل بكثير من تقديرات بعض المحللين، رغم الشعبية الواسعة للتطبيق بين المستخدمين الأميركيين.

كما أجل ترمب تنفيذ القانون الذي يحظر التطبيق إذا لم يبع مالكوها الصينيون أصولها الأميركية، حتى 20 يناير/كانون الثاني، في وقت تواصل فيه محاولات استخراج الأصول الأميركية من المنصة العالمية، وتجميع المستثمرين الأميركيين والدوليين، والحصول على موافقة الحكومة الصينية.

ويظهر نشر الأمر التنفيذي أن الإدارة الأميركية أحرزت تقدما في صفقة بيع أصول "تيك توك" الأميركية، رغم أن العديد من التفاصيل المهمة لا تزال في حاجة إلى توضيح، أبرزها كيفية استخدام الكيان الأميركي للخوارزمية الأكثر أهمية في التطبيق، وهي خوارزمية التوصية.

في واشنطن اليوم، نادرا ما يذكر "تيك توك" من دون أن تذكر معه عبارة "تهديد للأمن القومي". هذه العبارة لم تعد شعارا انتخابيا كما كانت في حملة ترمب الأولى عام 2020، بل صارت عنوانا تشريعيا له قوة القانون، بعد إقرار الكونغرس في أبريل/نيسان 2024 ما يعرف بـ"قانون حماية الأميركيين من التطبيقات الخاضعة لسيطرة خصوم أجانب" والذي بموجبه يحظر على الكيانات الأميركية توزيع أو صيانة أو تحديث أي تطبيق مملوك أو خاضع لكيان أجنبي يعتبر خصما للولايات المتحدة، وعلى رأس القائمة الصين.

رويترز
صورة لصفحة ترمب على تيك توك""، في واشنطن، الولايات المتحدة الأميركية، في 19 يناير2025

وبدا القانون، في نصوصه، موجها إلى شركة واحدة فقط: "بايت دانس" المالكة لتطبيق "تيك توك"، ومقرها في بكين. فكل التفاصيل القانونية تقريبا صيغت على مقاسها، من تعريف "الخصم الأجنبي" إلى معايير "السيطرة" إلى شروط البيع أو الفصل بين العمليات الأميركية والصينية. ومع ذلك، فإن تطبيق القانون لم يكن بهذه السهولة، إذ سرعان ما دخل حيزا رماديا تتقاطع فيه السياسة الانتخابية مع مصالح الشركات العملاقة ومع توازنات العلاقة مع الصين.

مهلة وتأجيل

خلال الشهور التي سبقت تنصيب ترمب، كانت إدارة بايدن السابقة تحاول تنفيذ القانون بخطوات حذرة. أعطت مهلة محددة لـ"بايت دانس" لبيع عملياتها الأميركية لمستثمرين أميركيين، لكن الشركة رفضت، وبدأت معركة قانونية شرسة أمام المحاكم الفيديرالية. وعندما تسلم ترمب السلطة في يناير/كانون الثاني 2025، أعلن فورا تأجيل التنفيذ 75 يوما، تبعها سلسلة من التمديدات (أبريل، يونيو، ثم سبتمبر) أوصلت الموعد النهائي إلى 16 ديسمبر/كانون الأول 2025، مانحا مزيدا من الوقت للتفاوض بدل المواجهة المباشرة.

في دوائر الاستخبارات الأميركية، لم يعد الجدل يدور حول ما إذا كانت الصين قادرة على جمع بيانات من خلال "تيك توك"، بل حول ما إذا كانت قد بدأت فعلا في استخدام هذه البيانات بطرق استراتيجية

وكانت إدارة بايدن قد فتحت الباب واسعا للنقاش حول "النفوذ الرقمي الأجنبي" وشكلت لجانا لدراسة أثر التطبيقات الصينية على الأمن القومي. لكن موقف ترمب خلال ولايته الثانية عكس تحولا لافتا في رؤيته تجاه التطبيق. ففي ولايته الأولى كان من أشد المعارضين لـ"تيك توك"، وأصدر أوامر تنفيذية بحظره معتبرا أنه تهديد مباشر للأمن القومي الأميركي. أما اليوم، فقد أصبح أكثر انفتاحا عليه، بل وصرح في أكثر من مناسبة أنه يحب التطبيق لأنه لعب دورا مهما في الانتخابات الأخيرة وساعده في الوصول إلى قاعدة شبابية واسعة لطالما عانت حملاته من ضعف التواصل معها عبر الوسائل التقليدية. في هذا المعنى، تحول "تيك توك" من خصم سياسي–أمني في 2020 إلى ورقة سياسية–انتخابية ثمينة في 2025.

في تلك الأثناء، كان ملايين الأميركيين يفتحون "تيك توك" كعادتهم يوميا، يصنعون المحتوى، ويشاركون المقاطع، ويعلقون على الجدل الدائر حول مصير التطبيق. لم يكن كثيرون منهم يدركون أن تطبيقا بدأ كمنصة للرقص والمقاطع الساخرة، صار الآن أداة في صراع جيوسياسي يعيد رسم مفهوم "السيادة الرقمية".

Brendan Smialowski / AFP
تجمع معارض لحظر "تيك توك" في الكابيتول هيل في واشنطن العاصمة، 22 مارس 2023

وكان الجدل في الكونغرس بدوره انعكاسا لهذه لثنائية الأمن مقابل الحرية. فبينما حذر البعض من "خطر التجسس الرقمي الصيني" تساءل آخرون عن حدود السلطة التنفيذية في حظر تطبيقات يستخدمها أكثر من 170 مليون أميركي، وما إذا كان الحظر سيشكل سابقة لتقييد حرية التعبير على الإنترنت. حتى أن بعض المشرعين المحافظين عبروا عن قلقهم من فكرة أن الحكومة يمكن أن تجبر شركة أجنبية على بيع أصولها تحت التهديد بالقانون، معتبرين أن ذلك يضرب مبدأ السوق الحرة الذي طالما دافعت عنه الولايات المتحدة.

في دوائر الاستخبارات الأميركية، لم يعد الجدل يدور حول ما إذا كانت الصين قادرة على جمع بيانات من خلال "تيك توك"، بل حول ما إذا كانت قد بدأت فعلا في استخدام هذه البيانات بطرق استراتيجية. فبحسب تقارير رفعت عنها السرية جزئيا في نهاية 2024، أعرب مسؤولون في وكالة الأمن القومي ومكتب التحقيقات الفيديرالي عن مخاوف من أن بيانات الموقع الجغرافي وأنماط السلوك والاستخدام التي يجمعها التطبيق يمكن أن تُستخدم لبناء خرائط اجتماعية دقيقة للمجتمع الأميركي، تحدد التوجهات السياسية والعمرية والثقافية لكل فئة. وهذه المعلومات، إذا وظفت في حملات دعائية ممنهجة، قد تصبح سلاحا ناعما يفوق في تأثيره أي دعاية تقليدية.

أعلن ترمب أن الرئيس الصيني شي جينبينغ قد أعطى موافقته على صفقة "تيك توك" الجديدة، وهي صفقة تسمح لتحالف من المستثمرين الأميركيين بالتحكم في المنصة

غير أن هذه المخاوف الأمنية لم تقنع الجميع. فشركات التكنولوجيا الأميركية الكبرى — وفي مقدمها "ميتا" و"غوغل" و"سناب" — وجدت في الحملة على "تيك توك" فرصة مزدوجة تتمثل في التخلص من منافس شرس يلتهم حصة الإعلانات بسرعة مذهلة، وفي الوقت نفسه الظهور بمظهر المدافع عن "القيم الأميركية" في مواجهة الصين. لم يكن الأمر مصادفة أن ترتفع نبرة هذه الشركات في التحذير من "الخطر الصيني" بينما هي نفسها تواجه اتهامات مستمرة بانتهاك خصوصية المستخدمين واحتكار السوق. الصحافة الاقتصادية وصفت هذا التناقض بـ"الغيرة الوطنية الرقمية"، حيث تتقاطع المصالح التجارية مع الخطاب القومي بطريقة يصعب الفصل بينها.

إلا أن ذلك الجدل حسم بالصفقة الكبيرة الهادفة لإعادة هيكلة ملكية "تيك توك"، تهدف في الأساس إلى الحفاظ على خصوصية ملايين الأميركيين وضمان بقاء بياناتهم داخل قواعد بيانات أميركية. لكن الأهم من ذلك هو الوصول إلى الخلطة السرية للتطبيق، الخوارزميات التي جعلت من "تيك توك" ينتشر بسرعة البرق بين الشباب ويصبح أشهر منصات التواصل الاجتماعي. هذه الخوارزميات الصينية قادرة على جعل مقطع فيديو بسيط يحصد ملايين المشاهدات في ساعات، بينما يظل مقطع آخر حبيس العشرات فقط.

سيطرة أميركية

وأعلن ترمب أن الرئيس الصيني شي جينبينغ قد أعطى موافقته على صفقة "تيك توك" الجديدة، وهي صفقة تسمح لتحالف من المستثمرين الأميركيين بالتحكم في المنصة. وفي الوقت نفسه، أكدت "بايت دانس" علنا أنها ستضمن بقاء التطبيق متاحا للمستخدمين الأميركيين. وقد فتح هذا التطور الباب للحديث عن تفاصيل الصفقة المطروحة الآن، التي تجمع بين أهداف متناقضة، حماية الأمن القومي الأميركي من جهة، والحفاظ على منصة أصبحت أداة سياسية واجتماعية لا غنى عنها من جهة أخرى.

وقد أكد فانس في مؤتمر صحافي بمكتب البيت الأبيض أن هناك بعض المقاومة من الجانب الصيني، لكن الهدف الأساس كان الحفاظ على تشغيل "تيك توك" مع ضمان حماية خصوصية بيانات الأمريكيين وفقا للقانون. وذكر الأمر التنفيذي أن الخوارزمية ستعاد تدريبها وتراقب من قبل شركاء الأمن في الشركة الأميركية، كما سيكون تشغيلها تحت سيطرة المشروع المشترك الجديد.

الصفقة التي تبلورت لاحقا، والتي تمنح المستثمرين الأميركيين السيطرة على الكيان الجديد، لم تكن مجرد حل تقني، بل إعادة رسم لخريطة القوة داخل النظام الرأسمالي الأميركي نفسه. فقد اجتمعت في صفوف المستثمرين مجموعة من رموز وادي السيليكون إلى جانب أقطاب الإعلام التقليدي، في مشهد جمع بين القديم والجديد، بين رأس المال الرقمي ورأس المال الكلاسيكي. هذه التركيبة لم تكن بريئة، بل عكست توازنات دقيقة داخل السلطة الاقتصادية الأميركية، حيث يسعى كل طرف إلى حجز مقعده في مستقبل المنصات الاجتماعية التي أصبحت الآن البنية التحتية غير الرسمية للخطاب العام.

فقد انضم مايكل ديل، رئيس شركة "ديل" العملاقة، إلى جانب روبرت مردوخ وابنه اللذين يسعيان لتوسيع نفوذ إمبراطوريتهما الإعلامية في المجال الرقمي. كما يشارك لاري إليسون، مؤسس "اوراكل"، مع ابنه، في استثمار مباشر يعكس الطابع العائلي للنفوذ الاقتصادي في هذه الصفقة. ويضاف إلى ذلك رجال أعمال آخرون مثل بيتر هوفريتزس ممن يراهنون على إعادة صوغ هيكل المنصة عالميا.

ومن ناحية الملكية، ستستحوذ مجموعة من المستثمرين، بينهم "أوراكل" و"سيلفر ليك"، على نحو 50% من "تيك توك" الأميركية، بينما يحتفظ المساهمون الحاليون في "بايت دانس" بنحو 30%، مع احتمال تعديل هذه النسب نظرا للاهتمام الكبير من المستثمرين. ويشارك صندوق MGX من أبو ظبي، مع "أوراكل" و"سيلفر ليك"، بنسبة 45% مجتمعة، وفقا لتقارير سابقة.

وذكرت بعض الأصوات الجمهورية في مجلس النواب أنها تريد الاطلاع على تفاصيل إضافية لضمان انفصال واضح عن الصين، مشددين على ضرورة حماية المستخدمين الأميركيين من أي تأثير أو مراقبة من مجموعات مرتبطة بالحزب الشيوعي الصيني.

تسعى واشنطن بهذه الخطوة إلى تحقيق ما لم تستطع العقوبات ولا التهديدات أن تحققه، وهو السيطرة على آلية عمل الخوارزمية ذاتها، تلك التي شكلت على مدى سنوات محور الجدل الأمني حول التطبيق

في خلفية هذا المشهد، كانت الصين تتابع بدقة كل تفصيل. فشركة "بايت دانس"، رغم موافقتها العلنية على شروط الصفقة، كانت تدرك أن فقدان السيطرة الكاملة على خوارزميات "تيك توك" يعني تسليم مفاتيح القوة إلى واشنطن. ولهذا، حافظت الشركة على بنية معقدة من العقود والاتفاقيات تضمن لها نفوذا غير مباشر من خلال ملكيتها الفكرية المستمرة للخوارزمية الأصلية. بمعنى آخر، لم يكن في إمكان المستثمرين الأميركيين تشغيل "تيك توك" إلا من خلال ترخيص دائم من الشركة الأم في بكين. وهذا الترخيص يمكن أن يصبح أداة ضغط في أي لحظة.

رويترز
شعار تطبيق "تيك توك"، 22 أغسطس 2022

في أروقة وزارة التجارة الأميركية، دار نقاش حاد حول ما إذا كان هذا الترتيب مقبولا أم لا. فبعض المستشارين رأى أنه لا يحقق السيادة الكاملة المنشودة، لأن الترخيص يعني بقاء الخوارزمية تحت سلطة الصين من الناحية القانونية. بينما رأى آخرون أن المسألة عملية أكثر منها رمزية: المهم هو أين تخزن البيانات، ومن يملك القدرة على الوصول إليها فعليا، لا من يملك الشفرة الأصلية على الورق. وهكذا جرى التوصل إلى صيغة وسطية وهو إنشاء نسخة أميركية من الخوارزمية تتدرب محليا على بيانات المستخدمين داخل البلاد، مع الاحتفاظ بالنسخة الأصلية في الصين لاستخدامها في الأسواق الأخرى.

صفقة في رعاية "أوراكل"

نقلت ملكية عمليات "تيك توك" في الولايات المتحدة إلى كيان أميركي جديد بغالبية استثمارية محلية، مع احتفاظ الشركة الأم الصينية "بايت دانس" بحصة تقل عن عشرين في المئة. يؤكد مسؤول رفيع في البيت الأبيض أن الاتفاق، في حال إتمامه، سيجعل الخوارزمية — قلب التطبيق النابض وسر جاذبيته — تدار داخل الأراضي الأميركية وتخضع لإشراف مباشر من شركة "أوراكل".

تسعى واشنطن بهذه الخطوة إلى تحقيق ما لم تستطع العقوبات ولا التهديدات أن تحققه، وهو السيطرة على آلية عمل الخوارزمية ذاتها، تلك التي شكلت على مدى سنوات محور الجدل الأمني حول التطبيق. فقد خشي مسؤولون أميركيون من أن تجبر "بايت دانس" على التلاعب بالخوارزمية لخدمة أهداف الدعاية الصينية أو لتأجيج الانقسام في الداخل الأميركي، وهو ما جعل مصير هذا المكوّن البرمجي أهم من مصير الشركة نفسها.

ينص الاتفاق على أن يتسلم الكيان الأميركي نسخة من الشفرة البرمجية للخوارزمية، ويعيد تدريبها على بيانات المستخدمين الأميركيين فقط، فيما تتولى "أوراكل" مراقبة كيفية توجيه المحتوى على نحو متواصل. وهكذا تضمن واشنطن أن تبقى دائرة التأثير مغلقة داخل حدودها الرقمية، وألا يمتد أي "ظل صيني" إلى ما يراه الأميركيون أو يتفاعلون معه. لكن هذا الترتيب يثير سؤالا جديدا، فهل سيضطر المستخدمون إلى تنزيل نسخة مختلفة من التطبيق بعد إتمام الصفقة، أم سيفصل الجمهور الأميركي فعليا عن باقي مستخدمي "تيك توك" في العالم؟

وفي مفارقة لافتة، تتزامن المفاوضات مع تغييرات مفاجئة داخل شركة "أوراكل" نفسها، إذ أعلنت استقالة الرئيسة التنفيذية سافرا كاتز من منصبها لتتحول إلى نائبة لرئيس مجلس الإدارة، فيما سيتقاسم قيادة الشركة كل من كلي ماجويرك ومايك سيليكا ولم يربط البيت الأبيض علنا بين الحدثين، لكن المراقبين يرون أن الخطوة قد تتيح لكاتز، المعروفة بقربها من ترمب، لعب دور محوري في إدارة الكيان الجديد الذي سيُنشأ لتشغيل التطبيق داخل أميركا.

الإدارة الأميركية رأت في المشروع خطوة تاريخية نحو تحقيق "السيادة الرقمية"

من الناحية التقنية، ستبدأ "أوراكل" بإنشاء نسخة مستقلة من خوارزمية "تيك توك" عبر جمع إشارات التفاعل اليومية من المستخدمين الأميركيين: مدة المشاهدة، نسب الإكمال، الإعجابات، التعليقات، المشاركات، وسرعة التمرير. هذه البيانات تُنقّى أولا من أي ضجيج أو أنماط غير طبيعية مثل نشاط الحسابات الوهمية، ثم تحوَل إلى سمات منظمة تغذي نموذج التوصية. بعد ذلك يعاد تدريب النموذج بشكل دوري في ما يُعرف بالتدريب المستمر، بحيث يُحدَّث أسبوعيا أو شهريا لمواكبة تغير سلوك الجمهور.

الفرق هنا أن الخوارزمية الصينية الأصلية بنيت على بيانات عالمية هائلة ومتنوعة، مما منحها قوة استثنائية في التنبؤ والتوصية. بينما النسخة الأميركية سيعاد صوغها من البداية باستخدام بيانات محلية فقط، مع مراقبة حكومية صارمة لضمان الشفافية والأمن. هذا يعزز استقلاليتها لكنه قد يجعلها أكثر عرضة لما يُعرف بـانجراف النموذج، أي فقدان الدقة مع مرور الوقت إذا لم يتم تحديثها باستمرار. ولهذا السبب، ستخضع الخوارزمية لاختبارات أداء متواصلة، وتجرى لها تحسينات أو إعادة تدريب إضافية عند ظهور أي انحياز أو تراجع في الكفاءة.

ليست مجرد أكواد

لكن الخوارزميات، كما يصفها أحد الباحثين في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ليست مجرد أكواد جامدة، بل "كائنات تتعلم من البيئة التي تربى فيها". وهذا يعني أن نقلها من بيئة إلى أخرى يغير سلوكها بشكل لا يمكن التنبؤ به بالكامل. لذلك، فإن الخوارزمية الأميركية الجديدة، حتى لو بدأت بنسخة مرخص لها من الأصل الصيني، ستتحول بمرور الوقت إلى كيان مختلف تماما. هذا التحول قد يجعل تجربة المستخدم الأميركي أقل إثارة أو أقل دقة في التوصية بالمحتوى، على الأقل في المراحل الأولى.

ورغم هذه المخاوف، فإن الإدارة الأميركية رأت في المشروع خطوة تاريخية نحو تحقيق "السيادة الرقمية". فقد قدمه ترمب في خطاب له بوصفه "استعادة للعقل الأميركي من الخوادم الصينية" مؤكدا أن الولايات المتحدة لن تسمح بأن تكون عقول أبنائها ساحة لتجارب خصومها. لكن المثير أن هذه اللغة الحماسية لم تقنع كل الناخبين، خاصة الشباب الذين رأوا أن الحكومة تفرض عليهم وصاية رقمية تحت ذريعة الأمن القومي. وبدأت تظهر على "تيك توك" نفسه مقاطع تسخر من فكرة النسخة الأميركية، وتصفها بأنها محاولة لجعل المنصة مملة ومراقبة.

في المقابل، تلقى المستثمرون الأميركيون الخبر بترحيب واسع. فالقيمة السوقية للكيان الجديد وصلت في التقديرات الأولية إلى أكثر من 14 مليار دولار، ممما اعتبر بداية عصر جديد للاستثمار في المحتوى الاجتماعي الوطني. وللمفارقة، كانت بعض هذه الأموال تأتي من صناديق خليجية وآسيوية، ما جعل شعار "الملكية الأميركية الخالصة" يبدو أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع.

ورغم أن البيت الأبيض لم يكشف عن آلية التوصل لتقييم 14 مليار دولار، فإن الشركة الأم "بايت دانس" تقدر قيمتها حاليا بأكثر من 330 مليار دولار وفق خطة إعادة شراء الأسهم الخاصة بالموظفين، مع مساهمة "تيك توك" بجزء صغير من إيراداتها الكلية. وقد قدر محللون قيمة "تيك توك" بين 30 و40 مليار دولار بدون الخوارزمية حتى أبريل/نيسان 2025. ومع ذلك، يبقى السؤال القانوني مفتوحا حول ما إذا كانت "بايت دانس" ستواصل التحكم بالخوارزمية بعد الصفقة، بحسب ألان روزنشتيين، أستاذ القانون في جامعة مينيسوتا.

ومع اقتراب نهاية الصيف، بدأ البعض التحدث عن "تيك توك" بعبارات جديدة. لم يعد مجرد تطبيق صيني مثير للجدل، بل تحول إلى رمز لعصر "التفاوض المستحيل" بين قوى العولمة والسيادة. فكل طرف يحاول أن يثبت أنه يستطيع السيطرة على عالم لا يعرف الحدود. الصين تريد أن تظهر أن شركاتها أصبحت جزءا لا يمكن تجاوزه من النظام الرقمي العالمي، والولايات المتحدة تريد أن تؤكد أن في مقدورها احتواء هذا التمدد من دون أن تخسر حرية السوق.

أظهرت هذه المقاربة الأميركية مرونة تكتيكية. فبدلا من التصعيد المباشر مع بكين، تم إرسال رسائل سياسية واضحة مفادها أن السيطرة على البيانات والخوارزميات لن تتحقق إلا من خلال تعاون محدود، وليس بصدام كامل

في هذه الأثناء، أخذ بعض المراقبين الدوليين يشيرون إلى أن قضية "تيك توك" قد تشكل نموذجا يحتذى به في دول أخرى. فالاتحاد الأوروبي، الذي يعاني بدوره من تسرب البيانات إلى الخارج، بدأ يدرس إنشاء إطار قانوني مشابه يفرض على المنصات الأجنبية الاحتفاظ ببيانات المستخدمين داخل القارة. كما بدأت الهند وكندا وأوستراليا في مراجعة تشريعاتها في ضوء ما يحدث في واشنطن، إدراكا منها أن السيطرة على البيانات باتت مسألة سيادة لا تقل أهمية عن السيطرة على الحدود البرية أو البحرية.

تأثير دولي

فالأمر لا يتوقف عند حدود السياسة الداخلية الأميركية، بل يتجاوزها إلى ساحة السياسة الدولية. فقد صرّح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 27 سبتمبر/أيلول 2025 خلال لقاء مع مؤثرين أميركيين في نيويورك، بأن وسائل التواصل الاجتماعي مثل "تيك توك" و"X" أصبحت أسلحة جديدة في الصراع على الرأي العام، مؤكدا أن السيطرة على هذه المنصات هي أهم عملية شراء جارية في الوقت الراهن. هذه التصريحات تعكس بوضوح أن ما نتحدث عنه ليس مجرد صفقة تجارية أو تقنية، بل معركة عالمية على النفوذ الرقمي والتأثير في عقول الشعوب. فالنفوذ اليوم لا يُقاس فقط بالقوة العسكرية أو الاقتصادية، بل أيضا بالقدرة على توجيه الخوارزميات وصوغ المحتوى الذي يستهلكه الملايين.

نيقولا فيراريس

دوليا أيضا، أظهرت هذه المقاربة الأميركية مرونة تكتيكية. فبدلا من التصعيد المباشر مع بكين، تم إرسال رسائل سياسية واضحة مفادها أن السيطرة على البيانات والخوارزميات لن تتحقق إلا من خلال تعاون محدود، وليس بصدام كامل. وبذلك حافظت الولايات المتحدة على موقف قوي دون تهديد العلاقات التجارية أو التقنية بشكل مباشر، في حين أظهرت الصين أنها قادرة على التكيف مع تغييرات جزئية دون خسارة كبيرة في نفوذها العالمي.

كما أتاح التوازن بين الأمن والحرية، فرصة لإبراز دور الاستثمار الأميركي الخاص في الصفقة. فقد جعلت المشاركة الفعالة لشركات مثل "أوراكل" وصندوق "سيلفر ليك" وصناديق استثمارية أخرى القضية مسألة اقتصادية بقدر ما هي مسألة أمنية، مما أعطى الصفقة شرعية إضافية أمام الرأي العام. وأكد ذلك خطاب ترمب في إحدى الفعاليات، حين صرح بأن المستثمرين الأميركيين ليسوا مجرد مستفيدين ماليين، بل حماة للسيادة الرقمية، وهو طرح قلل الانتقادات السياسية وخلق دعما أوسع بين الطبقات الوسطى والشرائح التقنية من الشباب.

كما ساهم الإعلام الرقمي في تعزيز هذا التوازن، إذ بدأ بعض المؤثرين في تصوير النسخة الأميركية من "تيك توك" كخطوة متقدمة نحو حماية الخصوصية مع الاحتفاظ بالترفيه والتواصل الاجتماعي. ونشأت بذلك حالة من التعاون غير المعلن بين صانعي المحتوى والإدارة الأميركية، حيث أصبح للمنصة دور مزدوج: أداة تواصل اجتماعي وتجربة تفاعلية، وفي الوقت نفسه اختبار حي لمستوى الحرية الرقمية والأمن القومي.

بهذا الشكل، استطاعت إدارة ترمب تحويل قضية معقدة ومشحونة سياسيا إلى نموذج عملي لإدارة الأزمات الرقمية يشمل موازنة بين الأمن وحماية البيانات، وبين الحرية والسيادة، وبين المصالح الاقتصادية والتأثير الاجتماعي. ومع استمرار متابعة الكونغرس للقضية وإشراف الإعلام والمجتمع المدني، بدا أن الصفقة تمثل أكثر من مجرد اتفاق تجاري. فهي دراسة حية لكيفية إدارة المنصات الرقمية الكبرى في عصر تتداخل فيه السياسة، والاقتصاد، والتكنولوجيا بلا فواصل واضحة.

الآن، لم يعد "تيك توك" مجرد منصة للتسلية أو التواصل، بل مرآة لعصر جديد، يعكس قدرة الحكومات على حماية مصالحها دون فرض قيود مفرطة على حرية المستخدمين، ويظهر أن القوة الرقمية لم تعد تقاس بعدد الأجهزة أو الخوادم، بل بمدى قدرة الدولة على التأثير على الخوارزميات نفسها وضبط توازنها بين الحرية والأمن. وبذلك، تتضح الصورة النهائية، فالتوازن بين الضغط الأمني والحفاظ على حرية المنصة هو أكثر من خطوة سياسية، إنه تجربة عملية لإعادة تعريف مفهوم السيادة الرقمية في عالم لم يعد يعرف الحدود التقليدية.

font change