100 عام على اختراع التلفزيون... كيف يواجه التحديات الرقمية؟

المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي اعادت تعريف معنى الإعلام والتسلية

100 عام على اختراع التلفزيون... كيف يواجه التحديات الرقمية؟

قبل مئة عام، وتحديدا في 2 أكتوبر/تشرين الأول 1925، نجح المخترع الاسكتلندي جون لوجي بيرد في بث أول صورة لوجه عبر جهاز التلفزيون الميكانيكي الذي ابتكره. كانت الصورة لوجه دمية عرضها في متجر بلندن، ثم لاحقا استطاع أن ينقل صورة وجه مساعده البشري بشكل مباشر، لتكون تلك التجربة أول عرض عملي لفكرة نقل صور حية عبر موجات الراديو.

هذا الحدث اعتبر الشرارة الأولى لعصر التلفزيون، ومهد للتجارب الأكثر تطورا التي قدمها بيرد عام 1926 حين أجرى أول عرض تلفزيوني كامل أمام الجمهور. كانت تلك الصورة الشرارة الأولى لاختراع غيّر وجه العالم. خلال قرن من الزمن، تحول التلفزيون من جهاز ميكانيكي محدود الإمكانات إلى منصة رقمية متعددة الأوجه، لعبت دورا محوريا في صوغ السياسة والثقافة والرأي العام.

ورغم منافسة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في العقدين الأخيرين، لا تزال الشاشة الصغيرة تحافظ على مكانتها كإحدى أهم أدوات التواصل الجماعي وصناعة الوعي. وتعود جذور التلفزيون إلى أواخر القرن التاسع عشر مع ظهور محاولات لتحويل الضوء إلى صور يمكن عرضها على شاشة. ففي ثمانينات القرن التاسع عشر اخترع بول نيبكو قرصا ميكانيكيا مثقوبا يدور ليحول الضوء إلى صور أولية يمكن نقلها كهربائيا. وبعد سنوات، طور العلماء أنبوبا إلكترونيا قادرا على عرض هذه الصور بوضوح أكبر، ليصبح الأساس الذي بنيت عليه الشاشات اللاحقة.

وفي عام 1925، جاء المهندس الاسكتلندي جون لوجي بيرد ليعرض أول تلفزيون ميكانيكي عملي، حتى أنه تمكن عام 1928 من إرسال إشارة تجريبية بين لندن ونيويورك. في الوقت نفسه، قدّم الأميركي الشاب فيلو فارنسورث أول نظام تلفزيوني إلكتروني كامل، أوضح وأرخص إنتاجا، وهو ما جعل هذا النوع ينتصر سريعا ويصبح القاعدة التي بنيت عليها تكنولوجيا التلفزيون في ما بعد.

رغم أن التلفزيون كان اختراعا جديدا وقتها، بدأت أولى محاولات البث المباشر في أواخر العشرينات. ففي عام 1928 أسس المخترع الأميركي تشارلز فرنسيس جنكينز، وهو من رواد التلفزيون الميكانيكي، محطة تجريبية في ولاية ميريلاند اسمها W3X، هذه المحطة كانت تبث صورا بدائية بالأبيض والأسود، ولم يكن يستقبلها إلا عدد محدود جدا من الأجهزة.

عصر الشبكات التلفزيونية

بعدها بنحو عقد، دخلت الشبكة الوطنية للبث الأميركية (NBC)، كأول شبكة تلفزيونية كبرى في الولايات المتحدة، وبدأت البث المنتظم من نيويورك عام 1939. وكانت الأجهزة في ذلك الوقت صغيرة جدا - نحو خمس بوصات فقط- وغالية الثمن، لكن مع ذلك جذبت اهتمام النخب والمقتدرين.

AFP
صورة لطاقم تلفزيوني تابع لشركة الإذاعة الوطنية الأميركية، أثناء العمل، ١٢ ديسمبر ١٩٣٧، في أول محطة تلفزيونية متنقلة أميركية.

ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية، تراجع البث التلفزيوني المدني لصالح الاستخدامات العسكرية، ولم يبدأ التلفزيون في الانتشار الجماهيري إلا بعد انتهاء الحرب. عندها قامت لجنة الاتصالات الفيديرالية بتوحيد النظام المستخدم للبث، فاعتمدت معيارا موحدا للبث التناظري. هذا المعيار سمح بأن تستقبل جميع الأجهزة القنوات نفسها بالجودة نفسها، وظل مستخدما لعقود طويلة حتى توقف نهائيا عام 2009 مع الانتقال إلى البث الرقمي.

ومع نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة، انتقلت المعركة الإعلامية إلى مستوى جديد

لم يكن التلفزيون مجرد وسيلة للترفيه أو نقل الأخبار، بل تحول سريعا إلى أداة دعائية في يد الأنظمة الشمولية. ففي ألمانيا النازية، استخدم الراديو أساسا كمنصة جماهيرية للوصول إلى ملايين الألمان عبر ما عُرف بـ"راديو الشعب" الرخيص الذي وزع على نطاق واسع، بينما بقي التلفزيون مشروعا محدود الانتشار.

ومع ذلك، كشفت وثائق لاحقة عن خطط طموحة لإنشاء شبكة "تلفزيون الشعب" عبر الكابل، كان يفترض أن تنصب شاشاته في الأماكن العامة، وتعرض عليها برامج تظهر الحياة الآرية المثالية. كما تضمنت هذه التصورات بث مشاهد إعدامات خونة هتلر لترهيب الداخل وإبراز سطوة الحزب. وهكذا، حتى وإن ظل التلفزيون في طور الخطة أكثر من كونه واقعا ملموسا، فقد عكس إدراك جوزيف غوبلز، وزير الدعاية النازي، أن الصورة المباشرة تحمل قوة أكبر من الكلمة المكتوبة أو المسموعة، لأنها تفرض على المتلقي ما يريده النظام تحديدا. وقد تجلى ذلك أيضا في الاستخدام الدعائي المحدود للتلفزيون خلال أولمبياد برلين 1936، حين عرضت فعاليات وخطب عبر شاشات عامة.

AFP
نائب الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون (يسار) والسيناتور جون كينيدي يتبادلان وجهات النظر حول خلافاتهما في أول مناظرة تلفزيونية وطنية بين المرشحين الرئاسيين في 26 سبتمبر/أيلول 1960

ومع نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة، انتقلت المعركة الإعلامية إلى مستوى جديد. فبينما استخدم الاتحاد السوفياتي التلفزيون المحلي لتعزيز روايته الرسمية وترسيخ هيمنة الحزب الشيوعي، اعتمدت الولايات المتحدة على الإذاعات العابرة للحدود مثل "صوت أميركا"، التي بثت رسائل موجهة إلى شعوب الكتلة الشرقية. هكذا تحوّل الإعلام إلى ساحة مواجهة غير عسكرية، يتصارع فيها الخصوم على عقول الجماهير وقلوبهم.

ومع تطور التكنولوجيا في العقود اللاحقة، برز نموذج جديد لاستخدام التلفزيون في السياسة، تمثل في تغطية الأحداث الحية. فقد رسخت شبكة "سي أن أن" خلال حرب الخليج عام 1991 مفهوم الحرب المباشرة على الهواء، حين تابع العالم بأسره القصف على بغداد لحظة بلحظة، في مشهد لم يسبق له مثيل، وأظهر أن التلفزيون قادر على تحويل الحرب إلى تجربة يومية يعيشها المشاهدون وهم جالسون في بيوتهم.

محطات فارقة

أما على مستوى الديمقراطيات، فقد أثبت التلفزيون أن تأثيره لا يقل قوة في صناديق الاقتراع. فالمناظرة الرئاسية بين جون كينيدي وريتشارد نيكسون عام 1960 شكلت محطة فارقة، إذ بدا كينيدي واثقا وأنيقا أمام الكاميرا، بينما ظهر نيكسون متعبا ومرهقا، مما أثّر على انطباعات ملايين الناخبين. ومن هنا، تبيّن أن الصورة التلفزيونية قد تكون أحيانا أقوى من الخطاب السياسي ذاته، وأن السياسة الحديثة باتت تُصنع أمام عدسات الكاميرات بقدر ما تُصنع في أروقة البرلمانات.

رغم مرور مئة عام على انطلاقه، لا يزال التلفزيون حاضرا بقوة في حياة البشر حول العالم

لم يكن التلفزيون مجرد اختراع تقني، بل تحوّل سريعا إلى أداة لتشكيل الوعي العام وصناعة الرأي. فمنذ الخمسينات، أصبح التلفزيون هو المصدر الرئيس للأخبار والأفلام والمسلسلات، وهذا ما جعله حاضرا في كل بيت تقريبا. وقد امتلك قوة خاصة لأنه يجمع بين الصورة الحية والصوت في وقت لم تكن فيه بدائل أخرى سريعة أو شاملة.

على المستوى العالمي، ارتبط التلفزيون بمحطات فارقة في التاريخ. فخلال حرب فيتنام في الستينات والسبعينات، نقلت الشاشات صور المعارك للمرة الأولى مباشرة إلى الجمهور الأميركي والعالمي، وهو ما غير موقف الرأي العام من الحرب وخلق ضغطا شعبيا على الساسة. وفي عام 1969، تابع أكثر من 600 مليون شخص حول العالم الهبوط على سطح القمر، لتصبح تلك اللحظة مثالا على قدرة التلفزيون على توحيد البشر حول حدث واحد. كما لعب التلفزيون دورا محوريا في تغطية الأحداث السياسية الكبرى، مثل اغتيال الرئيس جون كينيدي عام 1963، أو سقوط جدار برلين عام 1989، حيث كان الناس يرون التاريخ يُصنع أمام أعينهم مباشرة.

أما في الشرق الأوسط، فقد ارتبط التلفزيون بقضايا الحرب والسياسة والثقافة في آن واحد. خلال حرب أكتوبر/تشرين الاول 1973، كانت الشاشات تنقل صور الجنود على الجبهات، مما رفع الروح المعنوية ورسخ شعورا بالانتصار والفخر الوطني. وفي العقود اللاحقة، ساهمت الفضائيات في كسر احتكار الإعلام الرسمي وفتحت الباب أمام خطاب إعلامي أكثر تنوعا وتأثيرا على النقاش العام. وعلى الجانب الثقافي، أصبحت المسلسلات الرمضانية جزءا من الطقوس الاجتماعية، تجمع العائلات ليلا لمتابعة الدراما التي تناقش قضايا المجتمع وتعكس هويته.

AFP
فني ألماني يتفقد كاميرا التلفزيون التي وُضعت في الملعب الأولمبي، في الأول من أغسطس/آب 1936

من خلال ذلك كله، أصبح التلفزيون أكثر من مجرد وسيلة ترفيه، بل مصدرا مركزيا للأخبار والدراما والأفلام، وأداة لإعادة صوغ وعي الأفراد والمجتمعات. ورغم منافسة الإنترنت اليوم، يبقى التلفزيون حاضرا في تشكيل النقاشات الكبرى وصناعة اللحظات الجامعة.

رغم مرور مئة عام على انطلاقه، لا يزال التلفزيون حاضرا بقوة في حياة البشر حول العالم. تشير تقديرات دولية إلى أن عدد مشاهدي التلفزيون عالميا تجاوز خمسة مليارات وخمسمئة مليون شخص في عام 2024، فيما أمضى المشاهد الأميركي نحو ثلاث ساعات يوميا أمام الشاشة في العام نفسه. كما تكشف بيانات شركة "نيلسن" وهي مؤسسة أميركية متخصصة في أبحاث السوق وقياس نسب المشاهدة، أن عام 2025 شكل نقطة تحول تاريخية، إذ تخطت نسب المشاهدة عبر البث الرقمي مجتمعة نسب البث التقليدي والكابل للمرة الأولى. ومع ذلك، لا تزال لحظات التلفزيون الكبرى، مثل المباريات الرياضية العالمية أو الأحداث السياسية المباشرة، تحافظ على مكانتها كتجارب جماعية توحد الجمهور في وقت واحد.

أما في الشرق الأوسط، فالصورة تعكس مزيجا من استمرارية التقليدي وصعود الرقمي. فقد أظهر مسح إقليمي أن نسبة مشاهدة التلفزيون اليومي انخفضت من نحو 69٪ عام 2014 إلى نحو 54٪ عام 2018، في حين ارتفع الاعتماد على البث عبر الإنترنت خصوصا بين الشباب. وفي السعودية، مثلا، بلغ متوسط المشاهدة اليومية نحو خمس ساعات وعشر دقائق في عامي 2020 و2021، بزيادة عن السنوات السابقة. وعلى مستوى السوق، يُتوقع أن ينمو قطاع البث والفيديو في المنطقة بمعدل سنوي مركب يصل إلى سبعة ونصف في المئة بين عامي 2025 و2033، مع استحواذ المنصات الرقمية على أكثر من ستين في المئة من سوق الإعلام والترفيه.

اللافت أن المواسم الرمضانية تظل ذروة استثنائية للمشاهدة في العالم العربي، حيث ترتفع ساعات المشاهدة بما يصل إلى ثمانين في المئة مقارنة بالأشهر العادية. هذا يعكس أن التلفزيون، حتى في ظل المنافسة من الهواتف والمنصات الرقمية، لا يزال يحافظ على دوره المركزي في تشكيل عادات الجمهور، سواء عبر نشرات الأخبار أو الدراما الاجتماعية.

مع أن التلفزيون لا يزال يفرض نفسه في اللحظات الكبرى مثل كأس العالم أو المناظرات السياسية، فإن منافساته من المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي استطاعت إعادة تعريف معنى الإعلام والتسلية.

تكشف الأرقام العالمية والإقليمية أن التلفزيون لا يزال يحتفظ بجمهور واسع يصل إلى مليارات المشاهدين، لكنه في الوقت نفسه يواجه منافسة غير مسبوقة من المنصات الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي. فبيانات "نيلسن" في 2025 توضح أن البث عبر الإنترنت تجاوز لأول مرة مجموع البث الأرضي والكابل، مما يعني أن المشاهد لم يعد مرتبطا بجدول المحطات، بل أصبح يختار ما يشاهده ومتى يشاهده. وفي الشرق الأوسط أيضا، فإن انخفاض نسبة المشاهدة اليومية للتلفزيون التقليدي من 69٪ إلى 54٪ خلال أقل من خمس سنوات، يعكس انتقال الجمهور، خاصة الشباب، نحو الهواتف والتطبيقات.

AFP
عائلة فرنسية تشاهد خطاب الرئيس شارل ديغول التلفزيون في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 1960

التحول الأهم أن الجهاز الكبير الذي كان يحتل مكان الصدارة في غرفة المعيشة، تحول إلى شاشة صغيرة تُحمل في الجيب. فالهواتف الذكية والألواح الرقمية باتت تقوم بالدور نفسه وأكثر: مشاهدة الأخبار، متابعة المباريات، وحتى مشاهدة المسلسلات والأفلام حسب الطلب. هذا التغيير الجذري لم يقلل فقط سطوة التلفزيون كمنصة وحيدة، بل غيّر أيضا طبيعة التلقي، إذ أصبح المشاهد فرديا ومتنقلا بدلا من أن يكون جماعيا وثابتا كما في الماضي.

ومع أن التلفزيون لا يزال يفرض نفسه في اللحظات الكبرى مثل كأس العالم أو المناظرات السياسية، فإن منافساته من المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي استطاعت إعادة تعريف معنى الإعلام والتسلية. وبات السؤال اليوم ليس عمّا يُعرض على "التلفزيون" فقط، بل على أي شاشة يختار المشاهد أن يتابع محتواه.

font change

مقالات ذات صلة