أصبحت العقوبات "الثقافية" من الأدوات التي تستخدمها الأنظمة السياسية في إدارة صراعاتها وحروبها الساخنة والباردة، إن كان على شكل حظر أو منع أو مقاطعة محددة الأجل أو تقييد وغيرها. ودائما ما يتوافر حدث راهن يثير سجالا تنشغل به وسائل الإعلام بأنواعها، فيعيد إلى الأذهان أحداثا مشابهة ويستدعي قرائن عن مواقف بعض الأنظمة، كثير منها يكون متناقضا بحسب الظرف التاريخي، وأحيانا تظهر مدى قدرة السياسة على الكيل بمكيالين، وربما أكثر.
آخر هذه الأحداث كان إلغاء منظمي "مهرجان فلاندر"، وهو حدث موسيقي سنوي يقام في غينت، بلجيكا، عرض أوركسترا فيلهارمونيا من ميونيخ، يقوده المايسترو الإسرائيلي لاهاف شاني، يوم الأربعاء 10 سبتمبر/ أيلول الماضي، مشيرين إلى "الوضع غير الإنساني الحالي" في غزة، مؤكدين أن "هذا يؤدي أيضا إلى ردود فعل عاطفية في مجتمعنا".
اعتبر المنظمون أن إقامة الحفل "غير مرغوب فيه"، كما رأوا أن قائد الأوركسترا، على الرغم من دعوته إلى "السلام والتهدئة"، لم يوضح "بما فيه الكفاية" موقفه تجاه "النظام الإبادي" الإسرائيلي. دافع المنظمون عن قرارهم بالقول إن شاني، قائد الأوركسترا الفيلهارمونية الإسرائيلية، يتحرك في "منطقة رمادية". ولم يتضح "أين يقف في هذا الصراع"، كما أكد مجلس المهرجان أن لا علاقة للقرار بآراء شاني الشخصية أو حتى هويته اليهودية، بل يتعلق حصريا بوظيفته كقائد للأوركسترا الفيلهارمونية الإسرائيلية، المؤسسة التي لم يكن موقفها مفارقا لموقف الحكومة بشكل واضح، "والإبادة الجماعية لا تترك أي مجال للغموض من وجهة نظرنا"، كما قال جان فان دن بوسش، المدير الفني للمهرجان، بحسب عدد من الصحف والمواقع الألمانية.
بين بلجيكا وألمانيا
كان سبق ذلك إعلان بلجيكا، بعد مناقشات طويلة داخل الائتلاف الحكومي، أنها ستفرض "عقوبات صارمة" ضد إسرائيل بسبب الوضع الإنساني في قطاع غزة وستعترف بدولة فلسطينية. لكن بالنسبة إلى إلغاء عرض أوركسترا شاني، فإن موقف الحكومة كان منددا، فقد انتقد قرار المهرجان بشدة من قبل رئيس الوزراء الفيديرالي، بارتي دي ويفر الذي عد القرار "غير مسؤول". ورئيس وزراء المنطقة الفلمنكية أيضا، ماتياس ديبندائيل. كتب رئيس الوزراء على منصة "إكس": "إن قرار المهرجان وصف بشكل صحيح بأنه معاد للسامية وبأنه ألحق ضررا بالغا بسمعة بلجيكا".
أثار إلغاء الدعوة ردود فعل حادة في ألمانيا، فقد اتهم المهرجان البلجيكي بمعاداة السامية وأنهت السفارة الألمانية في بلجيكا تعاونها مع المهرجان، وعبر وزير الثقافة فولفرام فايمر عن رأيه بهذا القرار بقوله إنه "عار على أوروبا"، بينما وصف وزير الثقافة البافاري ماركوس بلوم ذلك بأنه "فضيحة". ووجه عازف البيانو الشهير إيغور ليفيت اتهاما للمهرجان بـ"معاداة السامية الكلاسيكية المقززة"، بحسب موقع "شبيغل".
وقال السفير الإسرائيلي في ألمانيا، رون بروسور، لصحف "مجموعة فنكه" الإعلامية: "الموسيقيون والزوار والرعاة في المهرجان يأتون من جميع أنحاء العالم. لكن يستبعد قائد الأوركسترا من إسرائيل - هذه هي معاداة السامية الصريحة". وأكد أنه أصبح واضحا أن "اليهود غير مرحب بهم هناك"، ووجه اتهاما للمنظمين "بالهجوم العلني على حرية الفن" الذي أخفي تحت "عباءة نقد إسرائيل".