أكتب اليوم مقالا آخر عن التصوف، لأن ما يُقال عنه لا يُحيط به، ولأن كل محاولة للفهم تكشف طبقة جديدة من سره. فالتصوف ليس موضوعا يُستنفَد، بل تجربة تتجدد في كل قلبٍ يذوقها. إننا نعود إليه لأن فيه المرآة الأصدق لما يمكن أن تكونه الروح حين تتعرى من المألوف وتواجه الوجود وجها لوجه.
يبدأ التصوف من النقطة التي يقف عندها الإيمان العادي. فالمؤمن يعيش في عالم من العقائد والعبادات التي تضعه في علاقة آمنة مع الله، علاقة قائمة على التصديق والاتباع والطاعة. لكن هذه العلاقة، مهما كانت صادقة، تبقى في حدود الظاهر، محصورة في الفكر والقول والسلوك. أما الصوفي، فيسعى إلى أن تتحول هذه العلاقة إلى تجربة حيةٍ في القلب، وإلى حضور مباشر يذوب فيه الحجاب. إنه لا يكتفي بأن يعرف الله من خلال النصوص، بل يريد أن يذوق حضوره في الوجدان، وأن يشهد تجليه في كل ذرة من الوجود. ومن هنا، تنفتح له أبعاد للحياة لا يدركها المؤمن العادي، لأنها لا تُنال بالسمع والتصديق، بل بالمعاناة من الحب.
أول هذه الأبعاد هو البعد العميق للذات الإنسانية. فالمؤمن العادي يرى نفسه مخلوقا مكلفا، يطيع الأوامر ويجتنب النواهي، ويعيش بين الأمل والخوف. أما الصوفي، فيرى أن ذاته ليست مجرد نفس محدودة، بل هي مرآة تتجلى فيها أنوار الوجود الإلهي. هو لا يسعى إلى النجاة فقط، بل إلى التحول، إلى أن يصبح كيانه شفافا للحق. وعندما يبلغ لحظة الصفاء الباطني، يدرك أن في أعماقه شيئا من الأبد، وفي داخله شرارة من الوجود الذي لا يزول. وأن الحياة التي تسري فيه ظل للحياة الكبرى التي منها وُلد. في تلك اللحظة، يزول الشعور بالغربة، ويعرف أنه لم يكن مفصولا عن الله قط، بل كان غافلا عن وجهه فيه.
الإدراك يجعل الصوفي يعيش في وحدةٍ عميقةٍ مع العالم، فلا يرى الأشياء مجرد أشياء، بل يرى الله يعمل فيها ويضيئها من داخلها
وثاني هذه الأبعاد هو البعد الباطن للعالم. فالمؤمن العادي يتعامل مع الكون بوصفه مسرحا لمشيئة الله ودليلا على قدرته. أما الصوفي، فيراه جسدا حيا تتنفس فيه الروح الإلهية. كل شيء عنده آية، وكل مشهد له معنى روحي. في انفتاح الزهرة يرى صلاة، وفي انحناءة الغصن تسبيحا، وفي جريان الماء صورة للفيض الإلهي الذي لا ينقطع. وبذلك يزول الانقسام بين المقدس والدنيوي، بين المعبد والسوق، لأن الوجود كله يتحول إلى معبدٍ كبيرٍ لا تُطفأ أنواره. هذا الإدراك يجعل الصوفي يعيش في وحدة عميقة مع العالم، فلا يرى الأشياء مجرد أشياء، بل يرى الله يعمل فيها ويضيئها من داخلها.
والبعد الثالث هو البعد الوجداني للعلاقة بالله. فالمؤمن يخاطب إلها بعيدا يسمع عنه ويعبده طاعة وإخلاصا، لكنه يظل في المسافة التي تفصل بين العبد والمعبود. أما الصوفي، فيخترق هذه المسافة، ويتذوق معنى القرب الذي يظل في الكتب رمزا أكثر منه تجربة. يصبح الله عنده حاضرا في كل نبضة، لا يُدرك بالعقل بل يُعانق بالحب. وهنا تتحول العبادة إلى عشق، والدعاء إلى نجوى، والمعرفة إلى ذوبان. ومن هذا الحب يتولد نوع من الطمأنينة لا يعرفه الإيمان العادي، لأنه لا يقوم على رجاء الثواب ولا على الخوف من العقاب، بل على الامتلاء بحضور المحبوب.
أما البعد الرابع فهو البعد الكوني للمصير الإنساني. فالمؤمن يرى أن غايته دخول الجنة في الحياة الأخرى، دار النعيم والرضا، أما الصوفي فيرى أن غايته الاتحاد بالحقيقة ذاتها، والرجوع إلى أصله الأول في الله. هو لا يطلب الراحة بل الفناء في المطلق، لا يبحث عن مكان بل عن مقام، لأن الجنة مجاز وليست موضعا بل حال من الاتحاد والسكينة. هناك تنتهي كل ثنائية بين الفاعل والمفعول، بين العبد وربه، ليبقى السر الأبدي، أن الإنسان مظهر للحقيقة الإلهية، وأن وجوده الأرضي ليس إلا رحلة عودة إلى منبع النور.
والتصوف، في جوهره، لا يضيف دينا جديدا ولا عقيدة خارجة عن الأديان، بل يكشف البعد المخفي في الدين نفسه. هو يقلب الإيمان من ظاهر إلى باطن، ومن فكر إلى حياة. فبينما يقف المؤمن عند حدود الشريعة، يعبر الصوفي إلى روحها. وبينما يكتفي الأول بظاهر النص، يغوص الثاني في أعماق المعنى. وبهذا يصبح التصوف طريقا إلى تجديد الوعي الديني من الداخل، لأنه لا يطلب من الإنسان أن يتخلى عن معتقده، بل أن يعيش معناه في أعمق أعماق قلبه.
يكشف التصوف الأبعاد المستورة في حياتنا: عمق الذات، وسر العالم، وحرارة الحب، وأبدية المصير
إن التصوف يعيد إلينا الشعور بالدهشة أمام الوجود، ويعلمنا أن وراء كل حركة في الحياة سرا من أسرار الله. هو لا يبدل العالم، بل يبدل نظرتنا إليه، فيجعلنا نرى فيه ما كان خفيا على أبصارنا. فالمؤمن العادي يسير إلى الله، أما الصوفي فيسكن فيه، والمؤمن يتحدث عن الله، أما الصوفي فيتكلم بالله. وهكذا يكشف التصوف الأبعاد المستورة في حياتنا: عمق الذات، وسر العالم، وحرارة الحب، وأبدية المصير، وكلها وجوهٌ للحقيقة الواحدة التي لا تُدرك إلا حين يتحول الإيمان إلى رؤية، والعقيدة إلى حياة.
لكن وراء هذه الأبعاد كلها يظل بعدٌ خامس لا يمكن وصفه، لأنه ليس تجربة تُضاف إلى التجارب، بل نفي لها جميعا في حضرة لا يبقى فيها سوى الواحد. في هذا المقام، يتلاشى كل تمييز بين العارف والمعروف، بين النظر والرؤية، بين الطريق والمقصد. هنالك يتوقف اللسان، لأن اللغة وُجدت للعالم، لا لما وراءه، ويصمت العقل لأن منطقه لا يبلغ ما يتجاوز الفكر. هذه هي اللحظة التي يتكلم فيها الصمت، وتنكشف فيها الحقيقة لا في صورة، بل كوجود خالص يغمر الكيان كله. من هنا يفهم الصوفي أن الغاية من كل معرفةٍ هي أن تُسلم إلى عدمها، ومن كل عبادة أن تُنهي المسافة بينها وبين معبودها. فالحياة التي يكشفها التصوف ليست أعمق من حياة المؤمن فحسب، بل هي أصل الحياة نفسها قبل أن تنقسم إلى ظاهر وباطن، وإيمان وتجربة. إنها عودة الوعي إلى منبعه الأول، حيث لا فرق بين السكون والحركة، بين الله والعالم إلا كاختلاف وجه في مرآة واحدة.