من كهوف إدلب إلى الكرملين

من كهوف إدلب إلى الكرملين

استمع إلى المقال دقيقة

خلال عشرين عاما، تنقّل أحمد الشرع بين أكثر من خمسين منزلا وسجنا وكهفا، وارتدى أسماء مستعارة كثيرة، قبل أن يستقر رئيسا في القصر الرئاسي في دمشق وخطيبا في الأمم المتحدة وضيفا في الكرملين.

قبل عقدين، كان "أمجد مظفر" يقاتل الجنرال الأميركي ديفيد بترايوس في الموصل بعد غزو العراق في 2003. وفي سبتمبر/أيلول الماضي، جلس رئيسا يحاوره بترايوس جنرالا متقاعدا إلى طاولة في أروقة نيويورك، قبل أن يزور قائد القيادة المركزية الأميركية، براد كوبر، دمشق للبحث مع الشرع في سبل التعاون لمحاربة "داعش" وبقية التنظيمات الإرهابية.

وكما كان لقاء الشرع مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب في 14 مايو/أيار الماضي حدثا استثنائيا، حصل بعد عشرين عاما من اليوم نفسه الذي اعتُقل فيه "أمجد مظفر" لأنه قاتل الأميركيين في العراق، فإن استقبال الرئيس فلاديمير بوتين للشرع في الكرملين، بعد مرور عقدٍ على التدخل الروسي في سوريا عام 2015 لإنقاذ نظام الأسد، لا يقل أهمية أو رمزية.

فعلى مدى عقدٍ من الزمن، كانت طائرات بوتين تلاحق عناصر "هيئة تحرير الشام" وقائدها "أبو محمد الجولاني" في مغارات إدلب وكهوفها. أما اليوم، فقد جلس "القيصر" و"الرئيس" في الكرملين، يتباحثان حول مستقبل العلاقات الروسية-السورية، في مشهدٍ يلخّص تبدّل الأزمنة وتغيّر الأسماء والأدوار وثبات الوجوه وتغيرها.

زيارة الشرع إلى موسكو ليست مجرد محطة بروتوكولية عابرة، بل عودة إلى مشهدٍ قديم-جديد، وإلى علاقةٍ صاغت عقودا من التاريخ بين دمشق وموسكو، وتُرسم اليوم في ضوء معادلاتٍ مغايرة في البلدين والإقليم والعالم.

موسكو لم تكن يوما وفيّةً إلى حدّ العمى، فقد أدركت أن في سوريا لاعبا آخر لا يمكن تجاوزه هو رجب طيب أردوغان، وأن في الشمال الغربي صاعدا لا يمكن محوه، هو "أبو محمد الجولاني"

فالذاكرة السورية ما زالت تحفظ كيف كانت روسيا، يوم كانت تُدعى الاتحاد السوفياتي، حاضرة في كل زاوية من القرار السوري: في التسليح والتعليم والسياسة والأيديولوجيا والطموحات. كانت موسكو الحليف البعيد القريب، تحاول أن تنافس واشنطن بندّية، ما منح دمشق شعورا دائما بأن في ظهرها قوة كبرى تحميها ومجالا للمناورة بين لاعبين كبيرين: الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي.
لكن تلك العلاقة تراجعت مع تفكك الاتحاد السوفياتي وانشغالات روسيا وخيارات سوريا، قبل أن تعيد الحرب السورية فتح أبواب التاريخ مجددا. وحين خرج السوريون إلى الشوارع في ربيع عام 2011 مطالبين بالحرية، اختار بوتين أن يقف في الجهة المقابلة، معتبرا الثورة مؤامرة غربية، ورأى في بقاء بشار الأسد ونظامه ضمانة لمصالح روسيا ولمفهوم الدولة، بل لمفهوم النظام الدولي الذي يسعى إلى ترميمه.
هكذا، تحوّل الدعم السياسي إلى "فيتو" في مجلس الأمن، ثم إلى طائراتٍ وقواعدَ عسكرية غيّرت وجه الحرب ومصير النظام. ومنذ ذلك الحين، صار الأسد مدينا لبوتين بالبقاء، وصارت سوريا بوابة روسيا إلى المتوسط، ومفتاح حضورها في الشرق الأوسط وأفريقيا.
لكن موسكو لم تكن يوما وفيّةً إلى حدّ العمى، فقد أدركت أن في سوريا لاعبا آخر لا يمكن تجاوزه هو رجب طيب أردوغان، وأن في الشمال الغربي صاعدا لا يمكن محوه، هو "أبو محمد الجولاني". في شمال غربي سوريا، نسجت شبكة تفاهماتٍ معقدة جمعت بين التصادم والتقاطع. من آستانه إلى سوتشي، ومن موسكو إلى أنقرة ومن إدلب إلى حميميم، كانت الجغرافيا تُرسم وفق موازين الطائرات والمصالح.
تركيا ضمنت حدودها وأمنها، وروسيا ضمنت قواعدها ومناطق نفوذها، أما سوريا فكانت في انتظار الزلزال، بسقوط الأسد وانتصار الشرع.

سوريا تبحث عن توازنٍ يحميها، وروسيا تبحث عن نفوذٍ يكرّس حضورها. وبينهما، تتقاطع الذاكرة مع المصالح، والتاريخ مع الجغرافيا، في لحظةٍ يبدو فيها أن الشرق الأوسط يُعاد تشكيله

اليوم، وبعد سقوط النظام السابق، تعود موسكو ودمشق لتفتحا باب السياسة مجددا بوجهٍ جديد. الشرع في الكرملين ليس زائرا عابرا، بل حامل فكرة: أن تستعيد سوريا موقعها في لعبة التوازنات الدولية، لا في اصطفافاتها القديمة.
يدرك الرئيس السوري أن إعادة ترميم العلاقة مع روسيا ليست ترفا، بل ضرورة لتخفيف وطأة الحضور الأميركي والتوغّل الإسرائيلي، ولإحياء مساحة المناورة التي فقدتها دمشق طويلا ولاستعادة الجغرافيا السورية.
أما القيصر الروسي، فيرى في العلاقة مع سوريا رصيدا إضافيا في معادلة الشرق الأوسط: يفاوض بها إسرائيل، ويوازن بها تركيا، ويواجه بها واشنطن من موقعٍ متقدم على المياه الدافئة، من المتوسط إلى أفريقيا.
هكذا يلتقي الخصمان مجددا، لكن من موقعين مختلفين: في الكرملين لا في الميدان. في الحوارات لا في الغارات. في العقود لا في الكهوف. سوريا تبحث عن توازنٍ يحميها، وروسيا تبحث عن نفوذٍ يكرّس حضورها. وبينهما، تتقاطع الذاكرة مع المصالح، والتاريخ مع الجغرافيا، في لحظةٍ يبدو فيها أن الشرق الأوسط يُعاد تشكيله مرة أخرى، من بواباتٍ كثيرة... ودمشق إحداها.

font change