أميركا ووعد الزحف... رسالة سقراط ولوثر كينغ لترمب

أميركا ووعد الزحف... رسالة سقراط ولوثر كينغ لترمب

استمع إلى المقال دقيقة

يرتب الرئيس دونالد ترمب مواعيد القمم، هذه المرة عينه مرة أخرى على لقاء مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي لم يقع في إغراء لقاء ألاسكا السابق.

استقبل الرئيس فولوديمير زيلينسكي مرتين عدا عن لقاءات عابرة قصيرة على هوامش القمم. وفي لقاء الجمعة الماضي لم يحسم معه ملف تزويد كييف بصواريخ توماهوك، التي يُمكنها ضرب أهداف في العمق الروسي، ملوحا لسيد الكرملين الذي يُمكن أن يلتقيه في الأسابيع القادمة في المجر، أن الباب مفتوح على نهاية الحرب التي طال أمدها.

زيلينسكي استبق اجتماعه بترمب بلقاء مصنعي الصواريخ، وكان مؤملا أن يحصل عليها. لكن، كان لترمب رأي آخر، متعللا بالحاجة المستقبلية لها، وهو اعتذار مبرر قبيل أن يكشف المزيد من مواقف بوتين في اللقاء المرتقب بالمجر، والذي قد لا يحسم أمر الحرب، لكنه قد يُقرب النهاية المأمولة لها، أوروبيا قبل أوكرانيا الخصم الذي تتآكل قوته كل يوم أكثر.

وبينما ينشغل الرئيس الأميركي بترتيب المواعيد المغرية له، لكي يُكرس قدراته في ضبط إيقاع الصراعات والحروب، وترتفع مكانته العالمية، فتحضره لموعد جديد لالتقاط الصور مجددا، بعد حفل توقيع اتفاق إنهاء حرب غزة في شرم الشيخ. يلوح الناشطون الأميركيون ومئات منظمات المجتمع المدني لسيد البيت الأبيض، بأن إغراءات السلطة وممارساته الاستبدادية التي قام بها في الداخل، يجب أن تقوده للتذكر بأنه ليس ملكا.

رد ترمب على مطلقي الدعوة للزحف: "إنكم تنصفوني ولكني لست ملكا"، وتشير التقديرات إلى أن جدول الفعاليات المُقدرة للحراك ضد سياسات الرئيس قد يشمل 2500 فعالية منظمة، تديرها حملة "لا ملوك" والتي بدأت في يونيو/حزيران الماضي، والتي قد تجد في يونيو المقبل الذي يصادف فيه بلوغ ترمب سن الثمانين، فرصة لردعه.

تريد حملة "لا ملوك" في أميركا، تذكير رجل البيت الأبيض بأنها دولة قامت على أساس رفض الحكم المطلق، والحقوق المدنية التي امتهنها في كل المناسبات والقرارات التي اعتبرت تحديا للقضاء والمؤسسات والحقوق المدنية والتي كان واضحا أن رجال وادي السليكون ومصنعيه وفي مقدمتهم إيلون ماسك مفوض التطهير الإداري وترشيق الأداء الحكومي، سوف يقودون ترمب للتمادي لأجل تقويض الديمقراطية الأميركية، واستثنائية البعد الحقوقي المدني فيها.

ولطالما حلم ممثلو وادي السليكون طويلا، بتقويض الحريات لصالح الاقتصاد، لكي تنتقل السياسة في الدولة إلى نمط إدارة الشركات التي تسيطر عليها التقنيات الجديدة. ولكي ينفرد الرئيس ترمب بأسلوبه وهي برأي الفيلسوف هابرماس في مقالته بجريدة "زيوريخ الجديدة" وبعنوان: "لأجل أوروبا" قال فيها إنها "سياسة تعسفية ارتجالية مباغتة خالية من أية معايير مناسبة. ليس فقط أسلوب صانع الصفقات الذي يصعب التنبؤ به ويتصرف من أجل المصلحة الوطنية قصيرة الأجل هو ما يثير الإزعاج والتشويش، بل إن اللاعقلانية المتعمدة ربما لهذا الشخص الذي لا يمكن التنبؤ بها، من الوارد أن تصطدم مع الخطط طويلة الأجل لنائب الرئيس أو أصدقائه من التكنوقراط الجدد".

لم يأتِ ترمب للسلطة في 2016 عبثا، بل جاء نتيجة للخيبات والصفقات والضعف، مضافا إليها التعهدات التي قطعها للمجتمع العسكري والقوى اليهودية التي تحكم الاقتصاد

إذن، فالقلق ليس عند المجتمع الأميركي وحسب، بل عند نخب أوروبا وقادتها، ولا سبيل إلا إلى إعادة العقلانية للسياسة الأميركية، وإعادة ترتيب مقولات العدالة. إذ لم يُفد الرئيس السابق باراك أوباما القبض على أسامة بن لادن وقتله، كما فعل ترمب مع قاسم سليماني ومع تأييده لقائمة القتل التي أنجزها نتنياهو بحق قادة "حماس" و"حزب الله" وضرب اليمن وحرب إيران وقصفها بطائرات أميركية. بل زادت صورة الإمبراطورية ضعفا منذ زمن أوباما بصعود الدب الروسي فلاديمير بوتين، الذي استعاد شبه جزيرة القرم على مرأى التراجع الأميركي وصدى عقوبات أميركا وأوروبا له، وتعزز الضعف بظهور "داعش" في 2014 وتسليم الموصل لها وانهيار الجيش العراقي، ثم جاء اجتياح أوكرانيا وإرهاب أوروبا من جديد بحرب طويلة.
لم يأتِ ترمب للسلطة في 2016 عبثا، بل جاء نتيجة للخيبات والصفقات والضعف، مضافا إليها التعهدات التي قطعها للمجتمع العسكري والقوى اليهودية التي تحكم الاقتصاد، فجاء بوعد استعادة الهيبة. قال الكثير من التصريحات صباحا، وتراجع ليلا، وأمطر العالم بوعود، وكان عليه أن ينجز واحدا منها وهو وعد نقل السفارة الأميركية للقدس، وذات الأسلوب كرره بعد انتخابه للمرة الثانية ضد منافسَيه بايدن وكامالا هاريس، وجاء بدورة ثانية مستمرا بإمطار سلفه بايدن وجماعته بالنقد والتوبيخ على الضعف وهدر المال.
في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2017 أعلن الرئيس ترمب أن قوة أميركية اعتقلت في طرابلس الليبية مصطفى الإمام، أحد الضالعين في مقتل السفير كريستوفر ستيفنز. انتشى الرجل كما انتشى بعد مقتل سليماني وبعد مقتل يحيى السنوار وحسن نصرالله. وذكّر جمهوره بخيبات أوباما وبايدن في الحالتين، وبأنه جاء ليستعيد وجه أميركا القوي، وفي الدورة الثانية غيّر الكثير، واستحدث اسما جديدا لوزارة الدفاع بعنوان وزارة الحرب، وامتهن الحقوق، ونشر الحرس الوطني بعدة مدن، وقوّضَ العدالة وتدخل في المحاكم.
كان مارتن لوثر كينغ يقول: "دعونا ندرك أن قوس الكون الأخلاقي طويل، لكنه يتجه نحو العدالة"، وراهنا ليس من الممكن أن يعود ترمب عن مساره، ولن تخضعه تهديدات جماعة "لا ملوك"، بل قد يتمادى به، ليحيل الديمقراطية إلى فوضى. ففي زمن سقراط، انتهت أثينا بفعل الديمقراطية إلى العبودية والطاعة والرشوة، وتحول نظام الحكم فيها إلى "نظام فوضوي" يسيطر عليه رعاع باسم الاستحقاق الديمقراطي والمواطنة الحرة، فما كان من سقراط إلا نقد النظام السياسي الديمقراطي، وما كان من المحكمة العليا (الديكاستيرا) إلا أن حكمت عليه بتجرع السم والموت عقابا له.

font change