الجنون الخلاصي المقدس

الجنون الخلاصي المقدس

استمع إلى المقال دقيقة

منذ بدايات الفكر الفلسفي، ظل الإنسان مأخوذا بفكرة الحد الفاصل بين العقل والجنون، بين النظام والفوضى، بين ما يفهم بالعقل وما يدرك بالحدس أو النشوة أو الوجد. مراجعة ميشيل فوكو، قد تفتح نافذة وشاية بالشناعات التي فعلها العقل بالجنون.

غير أن الفلسفة القديمة لم تنظر إلى الجنون نظرة ازدراء مطلق، كما فعلت العصور المتأخرة، بل رأت فيه فيضا من عالم آخر، وانفتاحا مفاجئا على سر الوجود. هكذا قدم أفلاطون في محاورته الشهيرة "فيدروس" أحد أعمق المفاهيم التي وصل إليها العقل الإنساني: مفهوم "الجنون المقدس"، أو ما يمكن أن نسميه الجنون الخلاصي القدسي، ذلك الجنون الذي لا يُفقد المرء وعيه، بل يرفعه فوق حدود وعيه الحسي العقلي المعتاد ليذوق طعم الخلاص.

في نظر أفلاطون، ليست كل حالات الخروج عن المألوف جنونا مذموما، فثمة جنون سماوي يهبط على النفس من علٍ، يحركها نحو الجمال والحقيقة والقداسة. هذا الجنون، في جوهره، وحي من العالم الأعلى، يحرر النفس من أثقال الجسد ومن أسر العقل الأداتي الذي يحبسها في دائرة الضرورة. ولهذا قال إن "الجنون الذي يأتي من الله خير من التعقل الذي يأتي من الإنسان"، لأن الأول يطلق الروح من قيدها لتلامس المثل، بينما الثاني يبقيها حبيسة عالم الظلال.

يقسم أفلاطون هذا "الجنون المقدس" إلى أربعة أنواع: الكهنوتي، والطهراني، والشعري، والعشقي. أما الجنون الكهنوتي فهو الذي يصيب الكهنة والعرافين حين يزعمون أن الإله يتكلم على ألسنتهم، فينطقون بحكمة لا يعرفون مصدرها، وكأنهم أدوات بيد قوة علوية. والجنون الطهراني هو الذي يتجلى في طقوس ديونيسيوس، حين تفقد النفس اتزانها الظاهري لتتطهر بالوجد والانفعال وتتحرر من أدرانها. وأما الجنون الشعري فهو حال الإلهام الفني الذي يختص بالشاعر والذي يجعله يرى ما لا يراه الناس، فيغدو كأنه مملوك بقوة الشعر التي تهبه نفس الخلق. وأرفعها جميعا هو الجنون العشقي، حيث يصيب الحب الروح باضطرام يذكرها بعالم المثل الذي كانت منازلها الأولى قبل أن تهبط إلى الجسد، فتسعى، عبر العشق، إلى الصعود من جديد نحو الحقيقة الخالدة.

ولأن هذا الجنون العشقي هو أسمى درجات الوعي في فلسفة أفلاطون، فقد رآه ضربا من الجنون الخلاصي، أي الجنون الذي يخلص النفس من عبوديتها للعالم السفلي. إنه لحظة تفلت فيها الروح من حدود الزمان والمكان، من الذات والموضوع، من العقل والرغبة، وتغدو كأنها تشتعل بنار لا تطفأ، نار الرغبة في الدوران داخل دائرة الجمال المطلق واعتزال ما سواها. عندئذ لا يبقى للحسابات ولا للأفكار موضع، بل يحل مكانها نوع من الإدراك الحدسي الفوري، كأن القلب يبصر بعين الله.

 عندئذ لا يبقى للحسابات ولا للأفكار موضع، بل يحل مكانها نوع من الإدراك الحدسي الفوري، كأن القلب يبصر بعين الله

وقد التقط المتصوفة هذه الفكرة وأعطوها بعدا روحيا عميقا. فالحلاج مثلا حين صاح "أنا الحق" لم يكن في نوبة جنون بالمعنى المرضي، بل في حالة انخطاف تجاوز فيها ثنائية العابد والمعبود، وانمحى في الوجود الإلهي حتى لم يعد قادرا على رؤية أي شيء آخر. وكذلك قال المتصوفة المسيحيون إن السبيل إلى الله هو "التسليم الكامل"، أي الموت عن الذات والحياة بالكل. هذا الفناء في المحبوب هو الجنون الخلاصي بعينه، حيث تتحرر النفس من حدود الأنا، وتغدو نافذة مفتوحة على المطلق.

إن هذا الجنون ليس رفضا للعقل، بل تجاوز له. فالعقل عند أفلاطون، كما عند هنري برغسون والمتصوفة من بعده، أداة نافعة للتمييز والتخطيط، لكنه عاجز عن إدراك ما هو أبعد من الحدود المرسومة للحس والمنطق. إنه يعمل في مجال الثابت والمحدود، في حين أن الحقيقة المطلقة حيوية خلاقة، متغيرة، تتجاوز كل صورة. ومن هنا، كان لا بد من أداة أخرى غير العقل، أداة "إلهية" تنبع من القلب أو الحدس أو الوجد، لتدرك الوجود في جوهره المتحول، الصيروري، إن صح التعبير. تلك الأداة هي الجنون المقدس الذي يسمو على الفكر ويضيء به.

في هذا المعنى، يصبح "الجنون الخلاصي" طريق معرفة عليا، يتوقف فيها التفكير التحليلي، ليحل محله نوع من الرؤية المباشرة. إنها حالة الوعي الصافي التي تتكلم عنها الأديان الشرقية أيضا، حين تذوب الحدود بين الذات والعالم، ويشعر المرء بأنه "في الكل والكل فيه". هذا هو الخلاص من الانفصال والوهم، الخلاص من شعور الاغتراب الذي يحاصر الإنسان العاقل المحدود في إطار الزمان والمكان. ولعل سر عظمة هذا المفهوم أنه يجمع بين الجنون والفهم، وبين الحرية والنظام، وبين الفناء والخلود. إنه يذكرنا بأن الطريق إلى المطلق لا يمر عبر الانضباط وحده، بل عبر الانخطاف أيضا، وأن الإنسان لا يبلغ ذروة وعيه إلا حين يتجاوز نفسه. وفي هذا التناقض الظاهر يكمن جوهر التجربة الروحية الكبرى، أن نضيع لنوجد، أن نجهل لنعرف، أن نغيب لنحضر.

هذا في جوهره من أعمق ما يمكن أن يقال عن العلاقة بين العقل والوجد، أو بين الفكر والجنون بمعناه الخلاصي. إنه يذكرنا بأن الإنسان لا يقاس بقدر ما يعرف فقط، بل بقدر ما يتجاوز نفسه أيضا. فالجنون الخلاصي الذي تحدث عنه أفلاطون والمتصوفة من بعده، ليس خروجا عن المنطق بل توسيع لأفق الوعي، إذ لا يتحقق الخلاص ما لم ننفصل عن وعينا العادي الذي يحبسنا في شبكة الأسباب والمفاهيم.


 لا يتحقق الخلاص ما لم ننفصل عن وعينا العادي الذي يحبسنا في شبكة الأسباب والمفاهيم

لا بد من وضع هذا "الجنون" في مكانه الصحيح، كقوة تحرر لا كاضطراب. فهو لا يحتفي بفقدان التوازن، بل بتجاوز التوازن البارد إلى حرارة الرؤية التي تلمس أصل الحياة. في هذا المعنى، الجنون الخلاصي ليس مرضا بل ولادة ثانية. ورأيي أن الفلسفة الحديثة، بانغماسها في العقلانية العلمية، فقدت هذا البعد العجيب من التجربة الإنسانية. إذ صارت تنظر إلى الوعي كوظيفة عصبية، وإلى الحدس كخطأ في الحساب. لكن الجنون الخلاصي يعيد إلينا المجهول المفقود، ذلك المجال الذي فيه تتكلم الحياة من تلقاء نفسها. هو لحظة صمت عقلي يشتعل فيها القلب.

هذا الجنون المقدس لا يعني إنكار العقل، بل مجرد تذكيره بحدوده، وبأن فوقه دائما ما هو أوسع وأعمق. إنه يذكر الإنسان بأنه ليس آلة للتفكير بل كائن للشعور والدهشة، وأن العقل إذا لم يغذَّ بالحب وبالإلهام، يتحول إلى مغارة باردة خالية من الروح في عالم لا يرحم.

font change