منذ أن ولد الشعر العربي وهو أشبه بنبوءة تتكلم بلسان الصحراء، تصوغ وجدان الإنسان العربي وتكشف عمق روحه قبل أن تُعرف الحروف أو تدون الصفحات. لم تكن القصيدة آنذاك مجرد فن أدبي، بل منظومة حياة تحفظ الذاكرة، وتؤرخ للأيام، وتوثق الفخر والعشق والفقد. وفي مثل هذا الفضاء الشاسع من البلاغة الفطرية، تجلت المعلقات السبع أو العشر بوصفها قمة هذا الفن ومجد العربية في أصفى صورها.
وإذا ما أردنا تحديد عمر أول معلقة اُعتمِدت سنتوصل إلى أن تاريخ مولدها لا يقاس بالقرون بقدر ما يقاس بوهج اللغة وتحرر الوعي العربي المتمثل في قصيدة امرئ القيس، المتداولة منذ منتصف القرن السادس الميلادي، أواخر العصر الجاهلي الذي شكل ذروة النضج الفكري للعرب ما جعل شبه الجزيرة العربية في أوج حراكها الثقافي، وأيقظ تجاهها أطماع كبرى الإمبراطوريات: الرومان والفرس.
وحين بدأت أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر تتفتح على الشرق بعيون الباحثين والمستكشفين والرحالة، ظلت الأساطير المشتركة تلفت انتباههم ثم ما لبثت أن تتسيد المعلقات على أذهانهم لتغدو بذلك من أوائل النصوص العربية التي تشد انتباههم لما حملته من قيمة أدبية وإنسانية وحضارية، ما دفع ببعضهم إلى تدوين ما رأوه في الشعر الجاهلي من تأثير ليس على العرب وحدهم بل عليهم أيضا، وأنه مرآة لروح العرب قبل الإسلام، ووثائق شعرية كشفت عن فطرة اللغة العربية وثرائها، وعمق العلاقة بين الإنسان والصحراء والمصير، والأخلاق الفاضلة والكرم الدائم مع نضوب المورد، وقلة الموارد.
ومن أوائل المتصدرين لترجمة أجزاء من المعلقات إلى اللغة الإنكليزية جاء القاضي واللغوي الإنكليزي وليم جونز عام 1782، معتبرا أن شعر امرئ القيس، ولبيد، وطرفة هو "أدب الفطرة الأولى" وأنه يشبه في نقائه شعر الإغريق القدماء ليفتح بهذا الباب أمام نظرة تقارب جديدة بين التراث العربي واليوناني في الأهمية الأدبية والأقدمية الزمنية.
وفي القرن التاسع عشر قدم الألماني تيودور نولدكه إلى شبه الجزيرة العربية من أجل دراسة المعلقات ضمن مشروعه لفهم اللغات السامية وعلاقتها بالجذور التاريخية للفكر العربي. وربط بين الشعر الجاهلي والنظام الاجتماعي للقبيلة والبيئة الصحراوية. ولم يكتف نولدكه بالترجمة، بل وضع إلى جوار ذلك تعليقات تحليلية دقيقة، تناولت البنية الإيقاعية والرمزية في مضامين قصائدها، ما جعل من دراسته مرجعا رئيسا للمستشرقين اللاحقين.
تتابع بعد ذلك الاهتمام في جامعات أوروبا، خصوصا فرنسا وألمانيا حيث صدرت ترجمات أخرى أكثر اكتمالا في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، من أبرزها أعمال المستشرقين البريطانيين آرثر آربري وريتشارد بيل اللذين نظرا إلى المعلقات بوصفها جسرا بين الحضارات، يرسم ملامح الحس الإنساني المشترك، ويبرز عبقرية اللغة العربية التي استطاعت أن تجسد عبر الشعر تجربة العربي الأول مع العشق والحنين والبطولة والرحيل.
أطلق مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي مبادرة "المعلقات لجيل الألفية" ضمن خطة ثقافية هدفت إلى جعل التراث العربي جزءا من الحوار الإنساني العالمي
وفي عام 2019 أطلق مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء) مبادرة "المعلقات لجيل الألفية" ضمن خطة ثقافية هدفت إلى جعل التراث العربي جزءا من الحوار الإنساني العالمي، بمشاركة نخبة من الباحثين والمترجمين العرب والغربيين. هدف المشروع إلى إحياء المعلقات وإعادة تقديمها للأجيال الحديثة، من خلال إصدار فني مترجم إلى الإنكليزية بعناية، يتضمن شروحات لغوية رصينة تعبر عن روح الشعر العربي دون أن تفقد تأثيره الأصيل، كما ضمن الإصدار مقدمة تمهيدية تضع القارئ أمام سيرة الشاعر وظروف عصره، تليها معلقته مشروحة وموثقة بلغة علمية وأسلوب أدبي روعي فيه روح القصيدة وقدمها للقراء الغربيين بلغة صادقة مفهومة.
ولقي مشروع "المعلقات لجيل الألفية" قبولا واسعا لدى عدد من النقاد والأدباء العرب والغربيين ما دفع ببعضهم إلى وصفه بجسر حي بين الماضي والحاضر، أعاد للمعلقات قيمتها وبريقها بعد قرون من بقائها حبيسة في كتب التراث. وبحسب بعض النقاد، فالمشروع "لا يترجم المعلقات بقدر ما يعيد ولادتها" في وعي حديث يجمع بين اللغة الأصيلة وروح العصرنة الرقمي.
لم يتوقف المشروع عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى ترجمة جديدة شملت لغات إضافية، لتتسع الدائرة وتصل رسالة الشعر العربي إلى قارئين من ثقافات متعددة وقارات مختلفة. في عام 2024 مثلا أعلن عن إطلاق الترجمة الصينية للمعلقات، في خطوة تعكس الرغبة في تعزيز حوار ثقافي- عربي آسيوي- حيث لاقت الترجمة اهتماما كبيرا من المؤسسات الأدبية في بكين وشنغهاي، وعند صدورها اعتبرها النقاد الصينيون "نافذة على فلسفة الصحراء وبلاغة الوجدان العربي" وفي العام نفسه أطلقت النسخة الكورية خلال معرض "سيول الدولي للكتاب" لتكون جزءا من جهود المملكة في مد الجسور مع الثقافات الآسيوية عبر الأدب والفكر والإبداع.
يمكن القول إن هذه المبادرات والمشاريع المهمة حول التراث العربي تمكنت من تحويل المعلقات من الوقوف على الأطلال إلى رسالة إنسانية شاملة، تعبر عن المشاعر الفطرية المشتركة التي يتقاسمها البشر في كل زمان ومكان، معتبرين إياها نصوصا مكافئة للملاحم الكبرى مثل الإلياذة والأوديسة في الأدب الإغريقي، أو المهابهاراتا في الأدب الهندي. وتعد المعلقات بحق "الملحمة العربية الأولى" لما حملته من مزيج فريد جمع الشعر والفكر والتاريخ، وكشف عن رؤية إنسانية عميقة لا تقل شأنا عن أعظم النصوص التي شكلت الوعي الأدبي العالمي.
هذه المبادرات والمشاريع المهمة حول التراث العربي تمكنت من تحويل المعلقات من الوقوف على الأطلال إلى رسالة إنسانية شاملة
واليوم ومع وصول المعلقات إلى لغات عالمية عديدة يسهل فتح الباب أمام مشاريع مشابهة لا تقل عنها قيمة وأهمية في صياغة العلاقة بين التراث العربي والعالم، منها: "البداية والنهاية" لابن كثير، و"نهج البلاغة" للإمام علي بن أبي طالب، الذي حوى الحكمة والعدل والتسامح والمسؤولية الاجتماعية، أو مختارات من شعر المتنبي. والكثير من كتب التراث يمكن ترجمتها ترجمة لائقة يراعى فيها الحس الأدبي للقارئ العالمي لتسهم في رفع الفكر العربي إلى موضعه الطبيعي ضمن الخريطة الثقافية الإنسانية الكبرى.