في زمنٍ كان فيه الفكر العربي يخطو أولى خطواته نحو التبلور العلمي والنظام المعرفي، بزغ نجم عالم ومفكر عربي لم يشأ أن يكون كغيره، بل اختار أن يسكن على هامش الحياة ليعيد ترتيبها من داخل وجدانه، هو الخليل بن أحمد الفراهيدي، المولود في عام 100هـ/718م في البصرة، وبعض الروايات تنسبه إلى عُمان، لكنه لم يكن ابن مكان بقدر ما كان ابن الفكرة واللغة والصوت.
الفراهيدي عالم لغوي ومؤسسة عقلية متكاملة طافت الأرض بعلمها، فكان أول من وضع معجما منهجيا للغة العربية، وأول مكتشف للنظام الإيقاعي للشعر العربي، هو "علم العروض" وأول من فتح الباب بين الشعر والموسيقى. وعلى الرغم من هذه الإنجازات الجليلة فقد انحاز للزهد والتقشف، وعاش أشعث الرأس، شاحب اللون، قشف الهيئة، ممزق الثياب، متقطع القدمين، مغمورا في الناس لا يُعرَف. وفي إحدى الروايات أنه عاش في كوخ بسيط من سعف النخل، لا يملك من المتاع أو المال شيئا، بينما يتناثر من حوله تلاميذه الذين أغناهم علمه وفكره.
ذات يوم وكأيّ عابر سبيل كان الفراهيدي يمشي في السوق، وحين شدّ سمعه وقع المطارق وهي تطرق الأواني النحاسية أوقف زمن الصوت وراح يكرره مستخرجا من الضجيج إيقاعا منتظما، يعلو وينخفض، يتكرر ويتوازن، وكأن فيه سرا ما. توقف لحظتها ثم أمال رأسه، وأصغى بعمق. كان الصوت أقرب إلى نظام خفي لا يشبه إلا نبض الشعر في صدر الشاعر. لحظتها انقدحت شرارة الفكرة ولخصها في قوله: "كما تُطرق الأوزان على الحديد، يمكن أن تُطرق على الشعر".
عاد الفراهيدي يومها إلى منزله متأثرا بما سمع، أغلق على نفسه، ودخل في خلوة إبداعية، بدأ فيها بإصدار نغماته الخاصة، ينقر بأصابعه، ويتمتم بالأوزان، ويقرأ القصائد القديمة بصوت مسموع، ثم يعيد ترتيبها لا بحسب معانيها، بل بحسب موسيقاها. وشيئا فشيئا، بدأ يتشكّل أمامه نظامٌ جديد، يضبط إيقاع الشعر كما تضبط النوتة إيقاع الموسيقى.
تحولت مطرقة الحداد إذن من أداة لصياغة النحاس، إلى المفتاح الذي طرق به الفراهيدي باب علم جديد. ومن خلال ذلك الإلهام السمعي المُنقّى، نجح في الجمع بين الصوت والمعنى، والوزن والفكر، والموسيقى والكلمة، فابتكر نظاما لغويا وأدبيا ما زال يُدهش الموسيقيين إلى اليوم.
لم يتوقف تأثير الفراهيدي عند العرب، بل امتدت نظريته الإيقاعية إلى آداب أخرى، خاصة الفارسية والتركية وأخرى من الأناضول المتفاعلة مع الثقافة العربية
تعد عروض الفراهيدي ابتكارا نظريا، وثمرة لإلهام أصيل، نابع من بيئة شعرية عربية غنية، وإدراك داخلي فريد لعلاقة اللغة بالصوت، ولحاجة الشعر إلى نظام يزنه كما توزن الأنغام الموسيقية. عاش الفراهيدي وفي صميمه موسيقارا لغويا، يرى الشعر بوصفه سيمفونية منطوقة، لا تضبط إلا بقوانين دقيقة تراعي الخفة والثقل، والسكون والحركة. ومن أشهر ما كتبه في هذا الباب كتابا "النغم" و"الإيقاع" تناول فيهما الموسيقى بوصفها علما له قواعد ومقاييس، يربط عالم الشعر بالموسيقى، تماما كارتباط اللغة بالنحو والصرف.
حين ضبط الفراهيدي بحور الشعر العربي الخمسة عشر، لم يكن يُحدد أوزان القصيدة، بل كان يرسم مخططا نغميا يمكن أن يُلحّن، ويُغنّى، ويُؤدّى. لقد منح الغناء العربي أرضية إيقاعية متينة، مكّنت المغنين والملحنين العرب حتى اليوم الانطلاقة منها دون فوضى لفظية، أو تكسير وزني، جاعلا الشعر الموزون مادة غنائية جاهزة ما منح الطرب العربي ازدهارا ونضجا.
لم يتوقف تأثير الفراهيدي عند العرب، بل امتدت نظريته الإيقاعية إلى آداب أخرى، خاصة الفارسية والتركية وأخرى من الأناضول المتفاعلة مع الثقافة العربية. فاقتبس الشعراء الفرس والترك نظام البحور العروضية الخاصة بهم، وبدأوا بوزن أشعارهم بأساليب تُحاكي النغم العربي، فبرزت علاقة جديدة بين الموسيقى والشعر في تلك الثقافات، وتكوّنت مدارس أدبية وموسيقية استلهمت النغمة من الوزن الفراهيدي.
وعلى الرغم من عظمة ما أنجزه الفراهيدي في ميدان اللغة والموسيقى والإيقاع، والأصوات، وأثره العميق الذي تركه في الثقافة العربية والفارسية والتركية، فإننا لا نجد في التراث الغربي دلائل صريحة أو إشارات مباشرة تُثبت أن تأثيره قد امتد إلى الفكر الموسيقي أو الأدبي الأوروبي، لا في العصور الوسطى، ولا حتى في بدايات العصور الحديثة مع أنه ثراء عربي يمكن استظهاره في جميع اللغات، والفنون الموسيقية باعتبارها أحد أهم مقاييس الشعر اللاتيني واليوناني التي تعتمد على الكمّ الصوتي لا على النبر والإيقاع.
توفي الفراهيدي عام 170 هـ 786م تاركا وراءه آثارا لا تُمحى في تاريخ الفكر العربي، أهمها في هذا الباب "النغم" و"الإيقاع" واللذان يعدان رابطا بين الفكر اللغوي والنظرية الموسيقية، ومنظومة علمية متكاملة تجمع بين جمال اللغة وسحر الصوت. وكتاب العروض الذي يعد حجر الزاوية من منظور موسيقي متفرد، ومرجعا أساسيا لمن يريد الغوص في أعماق الشعر العربي أو الموسيقى التقليدية. ولا ننسى كتابه "العين" المعجم الأهم الذي منح الغرب التبحر في المصطلحات اللسانية الحديثة والوصول إلى نظرية "الفونيم".