التراث الثقافي غير المادي

التراث الثقافي غير المادي

استمع إلى المقال دقيقة

في عمق كل أمة هناك ذاكرة لا تُرى، لكنها تُحس وتُعاش، ذاكرة تتجاوز الحجارة والآثار لتستوطن الوجدان، وتمنح الإنسان معنى انتمائه وتفرده. ذلك هو التراث الثقافي غير المادي، الذاكرة الحية التي تُنسج من الأصوات والحكايات والعادات والمهارات والحِرف التي يصوغ بها الإنسان ملامحه عبر الزمن.

وينسب مصطلح "التراث غير المادي" إلى عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي مارسيل موس باعتباره أول من استخدمه في بدايات القرن العشرين الميلادي، مشيرا إلى أنه يتجاوز كل ما يُشيّد أو يُصنع إلى ما يُمارس ويُتداول ويُعاش. وفي عام 2003، تبنّت منظمة اليونسكو رسميا مصطلح "التراث الثقافي غير المادي" لتواصل ما تبناه موس، لتؤكد بذلك أن الهوية الإنسانية لا تختزل في آثارٍ مادية، بل تتمثل في القيم والفنون والمعتقدات والعلاقات الاجتماعية التي تتوارثها الأجيال، وتتسع لتوثيق الفنون الشفوية والطقوس الشعبية، وكل ما يعبّر عن روح المجتمع من عادات ومعارف وحرف تقليدية وأهازيج ومزامير وأساليب حياة.

في اليابان على سبيل المثال تحولت الفنون التقليدية مثل "الكيمونو" وحفلات الشاي وفن الزن إلى مدارس قائمة بذاتها، تُدرَّس وتُمارس وتُقدَّم كرموزٍ للهوية الوطنية، بل أصبحت جزءا من السياحة الثقافية التي تسهم في ناتجها المحلي. وتُدرج الحكومة اليابانية منذ عام 1950 قائمة تُسمّى "الكنوز الوطنية الحية" وهو برنامج لحماية الحرفيين والفنانين الذين يجسدون التراث غير المادي في أعمالهم، مما جعل من الحرفة التقليدية مصدر عزة ومكانة اجتماعية رفيعة.

وأدرجت فرنسا فن المطبخ الفرنسي على قائمة اليونسكو للتراث غير المادي عام 2010، تقديرا لتقاليد إعداد الطعام الجماعي وطقوس المائدة التي تعكس فلسفة العيش الفرنسي، وبذلك تحول المطبخ فيها من شأن منزلي خاص إلى هوية وطنية تُسوّق عالميا، وتُقام لأجلها المعارض والمهرجانات، وتُدرّ عوائد ثقافية واقتصادية ضخمة.

وفي المغرب، أصبح تراث موسيقى "كناوة" نموذجا ملهما لاستثمار الموروث الفني في التنمية الثقافية. فهذه الموسيقى التي ولدت في أحياء الصيادين، تحولت بفضل مهرجان "كناوة وموسيقى العالم" بمدينة الصويرة إلى تظاهرة عالمية تجمع الزوار من أكثر من خمسين دولة سنويا، ما جعلها أداة للتواصل الثقافي وبناء الجسور بين الحضارات. وكذلك كوريا الجنوبية التي دعمت "رقصة السامول نوري" كموروث وطني يروج له دوليا. وتحتفل المكسيك بيوم "الوفيات" كأحد أهم عناصرها الثقافية غير المادية المدرجة لدى اليونسكو.

اتخذ هذا النوع من التراث في المملكة العربية السعودية بعدا آخرا تقاطعت فيه روح البادية، ونبض البحر، وعبق الجبال، وأناقة المدن القديمة

فيما اتخذ هذا النوع من التراث في المملكة العربية السعودية بعدا آخر تقاطعت فيه روح البادية، ونبض البحر، وعبق الجبال، وأناقة المدن القديمة، ليتعدى فنون الحداء التي تشق الصحراء بأنغامها، إلى زخارف القط العسيري التي تلوّن الجدران بأمل وبهجة، ومن رائحة البن الخولاني إلى فخامة الخط العربي، ونقوش الحنّاء في صورة تثبت أن كل تفصيلة من هذا الموروث ترسخ أصالة الإنسان، وتعيد تعريف العلاقة بين ماضيه وحاضره مكونة بذلك مشهدا تتشاركه مع العالم.

ولم تغب الجمعيات السعودية عن أداء أدوارها كجمعية المحافظة على التراث "نحن تراث"، وجمعية الثقافة والفنون بفروعها المنتشرة في مختلف المناطق السعودية التي عرفت بجهودها الواسعة في إحياء الفنون الشعبية، وتنظيم الورش والفعاليات التي تُعيد التراث إلى فضائه الطبيعي بين الناس. كما جاءت مبادرة التراث الثقافي غير المادي الوطنية بالتعاون بين وزارتي الثقافة والتعليم والهادفة لتثقيف الطلاب والطالبات بالتراث الثقافي غير المادي للمملكة من أجل صونه والحفاظ عليه. ولا تنسى إسهامات المؤسسات الناشئة الحديثة، ومنها "تليد" التي اضطلعت بدورٍ جوهري في توثيق الموروثات، وجمع الروايات الشفهية، والحفاظ على الفنون الشعبية، وتدريب الأجيال على الحرف اليدوية والفنون التقليدية في محاولات حثيثة منها باستمرار المهارات والحفاظ على الموروث.

إضافة إلى جميع الجهات التي اعتنت بالتراث الثقافي غير المادي برز في هذا الجانب مركز الملك عبدالعزيز الثقافي (إثراء) الذي اعتاد تقديم البرامج التثقيفية والاحتفاءات السنوية بالموروث، جاء آخرها معرض "الباسقات" وهو جزء من "مبادرة الخوص" المتكاملة الهادفة لإعادة ابتكار حرفة الخوص وقيمتها في التراث السعودي. وركز المعرض بأكمله على النخلة باعتبارها مصدرا للحرف اليدوية، وعددا من مهن الخوص المحلية، وعنصرا رئيسا في العادات والتقاليد والممارسات الاجتماعية والثقافية، ولاعتبارات كثيرة أخرى، يكفي أنها أحد رموز الجزيرة العربية منذ أكثر من ستة آلاف عام. ولربما نجح مركز "إثراء" في القيام بدوره العالمي حينما جمع في معرضه هذا أعمالا لـ25 من نخبة الفنانين والفنانات من السعودية والعالم.

التراث المادي وغير المادي إذن هو قوة الأمم الناعمة التي تُجسّد هويتها، ولهذا فإن التسويق العالمي للتراث السعودي غير المادي يمكن أن يبدأ من السرد القصصي الإنساني للعالم عبر حكايات مرتبطة بصدق الصحراء، ودفء المجالس، وبهجة ألوان الجنوب، وكرم الشمال، وعمق الحجاز. أو بتصميم ثوب عالمي مستوحى من حياكة "السدو" أو عبر تقديم ألحان الحداء بإيقاعٍ معاصر، أو بترويج عبق "الورد الطائفي" داخل أروقة أرقى دور العطور العالمية.

يجب أن لا تكتفي الفعاليات بالاحتفاء بالموروث، بل عليها إعادة تشكيله وتقديمه بوصفه عنصرا من عناصر التنمية الاقتصادية والثقافية

يمكننا القول إن السعودية قد بدأت عمليا في هذا الطريق عندما أطلقت مبادرات نوعية مثل "عام القهوة السعودية-2022"، ومشاركة الحرفيين والفنانين السعوديين في معارض دولية من باريس إلى شنغهاي، إلا أن هذه الخطوات ليست ترفا ثقافيا، بل استثمار في الذات، يجب استمرارها وتوسعها وتنوعها.

font change