الثقافة العربية وأزمة البرامج

الثقافة العربية وأزمة البرامج

استمع إلى المقال دقيقة

لا شيء يقتل الثقافة مثل التكرار، ولا شيء ينهض بها مثل الجرأة على إعادة اكتشافها وتجديدها باستمرار، والعرب بشكل عام، والسعوديون بشكل خاص يرون اليوم في الثقافة قيمة تصون مكتنزاتهم، وتمنحهم معايير ذات جودة محلية وعالمية، ترقى بهم إلى التفرد، ليقينهم بأنها تحولت من كونها حدثا عابرا، أو مهرجانات موسمية، إلى بنية ذهنية وروحية تسكن المجتمع، وتشكل هويته، وتحدد طريقة نظره للعالم، أو نظرة العالم إليه، وأنها الماضي والمستقبل، والمرآة التي تعكس ازدهار المجتمع وتقدمه الهائل.

لهذا يلزم القائمون على المؤسسات الثقافية العربية التجديد البرامجي ليس عبر تغيير الشكل أو أسماء الضيوف، بل عبر عملية فكرية عميقة تعيد تعريفها وأساليب ممارساتها وطرائق تخاطب الأجيال الجديدة بلغتها الخاصة، والتفاعل مع أسئلتها الحاضرة والوجودية، لتتمكن بدورها من مواكبة التطور العالمي في الفنون والمعارف، وتمنحهم فرصهم في خلق نماذج جديدة للإبداع والحوار يجعل من الثقافة إرثا مفتوحا قابلا للابتكار والتطوير.

ولخلق هذا التجديد الكبير في الممارسات والبرامج الثقافية علينا في البدء تكوين أسئلة حية قابلة للتغير مع الزمن، وقادرة على كسر الأنماط والملل الثقافي، لأن الثقافة أسلوب ناعم لذلك هي بحاجة إلى أساليب أكثر نعومة، وجذب وتأثير تحول المتاحف الجامدة إلى مواد خام صالحة للتأويل والإبداع والإقبال المرغوب للأجيال الناشئة التي يُخشى عليها من فهم الثقافات الموروثة بشكل خاطئ أو ضار.

إن دولا كاليابان وكوريا الجنوبية والصين وفرنسا وإيطاليا لم تتمكن من الحفاظ على قوتها الثقافية إلا عبر عقلية التجديد والتحول المستمر، والجمع بين الأصالة والحداثة بطرق مبتكرة، لهذا بات ملحا على المشاهد الثقافية العربية التحول من مرحلة الفعاليات الناجحة إلى مرحلة المنظومة الثقافية المتصاعدة القائمة على ركائز متطورة وخطط مرنة، متكيفة مع التغيرات، خالية من الجمود. ولإتمام ذلك بجودة عالية ودقة متناهية يتوجب تأسيس لجان ثقافية مستقلة تقيّم نسبة التكرار، وجودة المحتوى، ورضا الجمهور، والأثر الثقافي الملموس على المجتمع، والمؤشرات الميدانية. وإضافة إلى هذه اللجان لا بد من إعادة الهيكلة الثقافية سنويا ابتداء بالهوية والثيمات والمسارات والضيوف والجمهور، وانتهاء بالتجارب التفاعلية.

لا بد من إعادة الهيكلة الثقافية سنويا ابتداء بالهوية والثيمات والمسارات والضيوف والجمهور، وانتهاء بالتجارب التفاعلية

وفي ظل بناء هذه المنظومات الثقافية علينا أن نعي جيدا أن ما يصلح للعالم ليس بالضرورة يصلح لنا، وما يلهمهم قد لا يلهمنا، ولكن لا يمنع الاستفادة من معايير تقييمه وأساليب حفاظهم على النجاح المستدام لتجاربهم مثل "مهرجان كان السينمائي" المستمر منذ سبعين عاما دون توقف، ومهرجان "إدنبرة الدولي" الذي نشأ في الأساس لتوفير منبر لازدهار روح الإنسان، وإثراء الحياة الثقافية، ثم لاحقا بني على قاعدة صارمة تمنع إعادة تقديم أعمال أي دورة من دوراته السابقة، أو أماكن إقامته، مع اشتراطه لاكتشاف وجوه شابة جديدة في كل عام. ومهرجان "بينالي البندقية" الذي تأسس في 1895، والمعتمد على خلق سؤال فلسفي جديد في كل مرة، وتغيير الفنانين والمسارات لخلق تجربة فنية مبتكرة. هذه النماذج العالمية والدولية الحية وغيرها بإمكاننا بناء ما هو أجود منها بكثير.

وأثناء بناء هذه المنظومة أيضا لا بد من التنبه إلى ضرورة توسيع دور الإعلام الثقافي كمؤثر عالمي، وربطه بمنصات رقمية تصل إلى ملايين المتابعين حول العالم عبر إطلاق مبادرات دعم لإعادة دور المجلات والصحف والبرامج الثقافية، وإخراجها من الإطار الكلاسيكي الثابت لإحداث حراك دائم، ومنحها فرصا مفتوحة خالية من البيروقراطية لتنطلق في تصوير ميداني تخرج فيه من جمود الاستوديوهات المغلقة إلى الأسواق والمتاحف، والمواسم السنوية، مشاركا بدوره في إحياء الأصوات الأدبية، وتاريخ المدن، والفنون التراثية القديمة والحديثة، مقدما بذلك برامج نقدية وتحليلية تقيّم جودة المهرجانات وأداء المؤسسات، وأثرها في الإثراء المعرفي العام.

العالم العربي يملك إرثا ثقافيا غنيا يمتد لآلاف السنين كالأسواق التقليدية القائمة على صناعة الحرف اليدوية، والأحياء التراثية، والمدن الأثرية التي بات من الضروري ملؤها بالحكّائين ورواة القصص، والأساطير الشعبية التي تسهم في تنمية وعي المجتمع والحفاظ على هويته، وتذكيره بأن التراث ليس ماضيا محفوظا في الكتب والصور، بل قاعدة صلبة يمكن أن تبنى عليها برامج تفاعلية توازن بين الأصالة والمعاصرة، وتعتمد على الفنون التراثية، والطهي، والنقش، والحفر.. وبنجاحها يمكن تحويلها لمعارض فنية على مدار العام تجذب جمهورا دوليا يضاف للجمهور المحلي.

التجديد أمر حتمي لا مجرد خيار، لأن المستقبل لن يكون إلا للأفكار المتطورة، والنجاح لا يُقاس بقيمة الفعالية وتأثيرها، بل بقدرتها على بناء مشهد ثقافي حي متجدد

التكرار غير المطوّر يؤدي إلى الملل والرتابة، وتراجع الجمهور وتشبعه، ويمكن أن ينتقل هذا الملل إلى المثقف ذاته مقررا العزوف عن التفاعل والمشاركة، بل ويضعف الثقة، وفقدان الإحساس بالثقافة كتجربة حيّة، فيما يحافظ التجديد على الروح والحيوية، ويجعل كل فعالية أو مهرجان، أو تجربة إضافة مفيدة. لذلك، نحن في حاجة إلى تأسيس مراكز ثقافية في المدن مهمتها اكتشاف المواهب الإبداعية وتصنيف الممارسين للثقافة كل فيما يجيده، للحفاظ على جودة الأثر والتأثير، كما يمكن لهذه المراكز أن تتولى تصميم الفعاليات بناء على دراسات ترتكز على الاتجاهات الحديثة لتخلق خارطة ثقافية وطنية متكاملة من خلال ربط المدن بمواسم تخصها تمنع التكرار.

إن التكرار الثقافي وعلى الرغم من سلبياته، فإنه ليس النهاية، بل بداية وعي جديد يوقظ الحلول والفرص المتاحة قبل زوالها. والتجديد أمر حتمي لا مجرد خيار، لأن المستقبل لن يكون إلا للأفكار المتطورة، والنجاح لا يُقاس بقيمة الفعالية وتأثيرها، بل بقدرتها على بناء مشهد ثقافي حي، متجدد، يليق بطموح الأوطان وذاكرة أجيالها، عبر مشهد يقدم الثقافة العربية كوسيلة جذب عالمي.

font change