قد يجد طلبة الفلسفة صعوبة في تصور ما يقرره عظماء الفلاسفة حين يتحدثون عن انهيار ثنائية الذات والموضوع. فالعقل الإنساني، في صورته اليومية، متشبع بفكرة المسافة بين "أنا" و"العالم"، بين المراقِب والمراقَب، بين الفاعل والمفعول به. منذ ديكارت، رسخ الفكر الغربي هذا الانقسام: ذات تفكر وموضوع تفكر فيه، عقل مستقل يقف في مواجهة الطبيعة كأنها مادة صامتة تنتظر أن تُفسَّر أو تُستغَل. غير أن الفلاسفة الذين جاءوا بعده، من هيغل إلى هايدغر وميرلو بونتي، حاولوا زعزعة هذه المسافة وإعادة الإنسان إلى العالم، لا باعتباره ناظرا إليه، بل كائنا منغمسا في نسيجه. فالوعي، في لحظته الأصيلة، لا يقوم على النظر من الخارج، بل على المشاركة من الداخل، لا على التمثيل، بل على الحضور.
غير أن هذه الفكرة، على رهافتها، لا تفهم تماما من خلال المفاهيم وحدها. فالتجربة الفلسفية هنا ليست برهانا ذهنيا، بل انكشاف وجودي يحدث حين نختبر بأنفسنا كيف يمكن أن تذوب الحدود بين الذات والموضوع. ولكي نتخيل هذا الانهيار، علينا أن ننتقل من لغة التحليل إلى لغة الخبرة، إلى تلك اللحظات التي نعيش فيها محو الفاصل بين من يفعل وما يفعل، بين من يسمع ومن يسمع.
تبدأ اللحظة قبل أن يمس الوتر بلحظة قصيرة لا تقاس بالزمن، كأنها تعليق بين الصمت والفيض. يقف العازف، كمن يستعد لعبور جسر لا يرى، يرفع الكمان إلى كتفه، وتلتصق الأداة بجسده التصاقا حميما، كأنها امتداد له لا أداة في يده. لا يفكر في أصابعه ولا في ترتيب النغمات، بل يتهيأ بباطنه كله لأن يتحول هو نفسه إلى صوت، إلى كمان. وعندما تنزلق الشعرة الأولى من القوس على الوتر، يخرج الصوت الأول، لا من الآلة فحسب، بل من أعماق العازف، من موضع لا يعرفه إلا من عاش تلك اللحظة التي تتقاطع فيها الروح مع الاهتزاز.
في البداية، يظن السامع أن الصوت يخرج من الكمان، لكن الحقيقة أن الكمان لا يصدر صوتا إلا بقدر ما يستثيره قلب العازف. إن اليد التي تضغط والذراع التي تسحب والقلب الذي يخفق، جميعها تتحول إلى إيقاع واحد، إلى حركة واحدة، إلى طاقة لا تعرف حدود الأعضاء. في اللحظة التي يتولد فيها الصوت، يتقاطع الخارج والداخل في نقطة لا ترى، هناك حيث تصبح الأذن امتدادا طبيعيا للوتر، والوتر امتدادا للروح، والروح امتدادا للوجود نفسه.
يصل الصوت إلى أذن العازف، لكنه لا يعود صوتا خارجيا. يدخل من القناة السمعية، فيرتد كصدى داخلي يوقظ شيئا أقدم من الوعي، شيئا يشبه ذاكرة ما قبل الكلام. يسمعه لا بوصفه نغمة ناجحة أو خاطئة، بل بوصفه حقيقة حية خرجت منه لتعود إليه في دورة كاملة. كأن العالم، للحظة، صار دائرة مغلقة بين الصدر والوتر والهواء والأذن، دائرة لا تترك مكانا للتمييز بين الذات والموضوع.
في اللحظة التي يتولد فيها الصوت، يتقاطع الخارج والداخل في نقطة لا ترى، هناك حيث تصبح الأذن امتدادا طبيعيا للوتر، والوتر امتدادا للروح، والروح امتدادا للوجود نفسه
كلما امتزج الصوت بالهواء، يتسع حضور العازف دون أن يتحرك من مكانه. كأنه يلمس بسمعه فضاءات لا تحد، ويعيد تشكيلها بيديه. لا يفكر في النغمة القادمة، ولا في الخطأ الممكن، فالتفكير في هذه اللحظة أشبه بتدخل غريب يفسد النقاء. إنه كمن يقف ليلقي خطبة تلهب الجماهير حماسا، وهو لا يدري في البداية ما سيقول. العازف الأصيل لا يخطط، بل ينساب؛ لا يؤدي، بل، فقط "يكون". إن الوعي هنا لا يختفي، لكنه يتحول من وعي مراقب إلى وعي صامت يتجلى في الفعل ذاته.
تبدأ الأصوات في التفاعل، النغمة الأولى تجيبها الثانية، والثانية تتشابك مع الثالثة، والعازف لا يدير هذا الحوار بقراره، بل يعيشه كأحد أطرافه. كأن الموسيقى نفسها هي التي تعزف من خلاله، وكأن اللغة تتحدث بلسانه، وكأنهما كائنان حيان استعارتا جسده لتعبرا عن ذاتيهما. إن التمييز بين "من يعزف وما يعزف" ينهار تماما، كما ينهار التمييز بين "من يسمع وما يسمع". في تلك اللحظة، يصبح العازف الموضوع الذي يعزف ذاته، ويصبح الصوت هو مرآة الوجود في أصفى تجلياته.
ثم يحدث ما هو أعمق، يصغي العازف إلى صوته كأنه يسمعه لأول مرة، وكأنه كائن آخر. وكل نغمة تولد في الخارج توقظ نغمة مقابلة في الداخل. تتحد الأذنان والقلب في فعل واحد من الإصغاء. لا يعود الصوت وسيلة للتعبير، بل طريقة في الوجود، كأن الوجود نفسه قد وجد في الكمان وسيلة ليبوح بأسراره. هنا تبلغ التجربة أقصى تماهيها، فالعازف يسمع ذاته في العالم، ويسمع العالم في ذاته. وما بين الأنين الخافت والاهتزاز الرقيق، تتجلى حقيقة لا يعبر عنها المنطق ولا اللغة، بل تعاش كوميض لا يدوم، لكنه يغير الوعي إلى الأبد.
يتحول الزمن نفسه. الدقيقة تمتد لتصير فضاء بلا حدود. لا ماضي ولا مستقبل في تلك اللحظة، بل حاضر مطلق يتجدد مع كل ارتعاشة على الوتر. وحتى لو أخطأ العازف نغمة، فإن الخطأ لا يفسد التجربة، لأن العزف في تلك الحالة ليس أداء تقنيا بل كشف عن حضور إنساني كامل. لا يوجد خطأ. فالصوت الذي يخرج مترددا هو أيضا جزء من الصدق، جزء من هذا الامتزاج الذي لا يفرق بين العيب والكمال.
وعندما يتوقف الصوت، ويرفع القوس عن الوتر، لا يعود الصمت كما كان. فالصمت بعد الموسيقى ليس غيابا للصوت، بل امتداد له في شكل آخر. تظل النغمة الأخيرة عالقة في الهواء، تتردد في أذن العازف كأنها لم تغادر بعد، إذ لا يزال قلبه يرقص. عندها يدرك أن ما حدث لم يكن مجرد عزف، بل تجربة تحول للذات في موضوعها، تجربة ألغت المسافة بين العازف والآلة، بين الوعي والوجود، بين الإنسان والعالم.
بهذا المعنى، يصبح صوت الكمان لحظة صدق كونية، فيها تلتقي الروح بالمادة، والنية بالحركة، والفكر بالإحساس، حتى يغدو كل منهما الآخر. إنها لحظة لا يحدث فيها شيء جديد في الخارج، بل يحدث كل شيء في الداخل، انهيار تام للحواجز، وذوبان للحدود، وتجل للوحدة التي تحدث عنها الفلاسفة بوصفها انكشاف الوجود في صفائه الأول.
الصمت بعد الموسيقى ليس غيابا للصوت، بل امتداد له في شكل آخر. تظل النغمة الأخيرة عالقة في الهواء، تتردد في أذن العازف كأنها لم تغادر بعد، إذ لا يزال قلبه يرقص
وحين يعيد العازف القوس إلى مكانه، ويصحو من سكر اللحن، يبقى في داخله أثر لا يزول. ذكرى تلك اللحظة التي التقت فيها النغمة بالأذن، لا كصوت يُسمع، بل كحقيقة تُعاش. هناك فقط، في تلك اللحظة التي تلتقي فيها ذبذبة الوتر بخفقة القلب، يمكن لطالب الفلسفة أن يفهم ما قصده الفلاسفة بانهيار ثنائية الذات والموضوع، لا بوصفها فكرة ميتافيزيقية، بل كتجربة موسيقية حية، هي الوجود ذاته وهو يعزف نفسه.