عندما ندخل المطار نشعر أننا دخلنا فضاء مختلفا عن المدينة التي جئنا منها، كأننا عبرنا فجوة في الزمن أو انقطعنا عن المكان. لا مقاهي الأحياء مألوفة هنا، ولا الوجوه، ولا للفضاء جذور يمكن أن نلمسها. فالمطار، بكل ما فيه من صالات مضاءة بمصابيح تتبعك، وتتفحص هويتك، وأوراقك، وسط أصوات نداءات آلية متكررة، ومقاعد متشابهة، يذكرنا هذا كله بما وصفه الأنثروبولوجي الفرنسي مارك أوجيه (1935-2023) بـ"اللامكان".
هذه الفضاءات ليست مدنا ولا قرى، ليست أماكن ذاكرة ولا مواقع انتماء، بل مساحات وظيفية عابرة صممت لتسهيل الحركة والتبادل والاستهلاك. يقول أوجيه في كتابه الشهير: "اللامكان هو الفضاء الذي لا يمكن تعريفه بالهوية أو العلاقات أو التاريخ"، إنه مكان بلا ذاكرة، بلا علاقة مع ماضيه أو مستقبله، مكان حيادي وظيفي محض.
لكن، أي غرابة أن يكون المطار في الوقت نفسه لامكان ومكانا عميق المعنى؟ إذ لا يمكن للذاكرة الإنسانية أن تظل محايدة أمامه، ولا يمكن للوجود البشري أن يمر فيه مرورا عابرا من غير أن يترك وراءه آثارا من الحنين أو القلق أو الانتظار أو الخوف أو الفرح. في المطار تلتقي كل مشاعر الإنسان المتناقضة: دموع الوداع، قبلات اللقاء، الأمل بلقاء بعيد، الخوف من الرحلة، نشوة الاكتشاف، حنين العودة. المطار– رغم كل حياده البارد– يصبح مسرحا صاخبا للذاكرة الفردية والجماعية. هنا يودع الأب ابنه المسافر، هنا تنتظر الأم عودة ابنتها الغائبة، هنا يُستقبل الحبيب بعد غياب، هنا يبدأ مغترب رحلة إلى بلد آخر. بهذا المعنى، يتحول المطار من لامكان إلى مكان ذاكرة (lieu de mémoire)، بالمعنى الذي استخدمه المؤرخ بيير نورا (1931-2025): فضاء يصبح وعاء لذكريات متراكمة، مهما كان مصمما ليكون محايدا.
هكذا يبدو المطار مكانا مزدوجا، يحمل في طياته تناقضا لا ينتهي: فهو بلا ذاكرة وفي الوقت نفسه مثقل بالذكريات، هو محايد وظيفي وفي الوقت نفسه مليء بالمشاعر. هذا التناقض هو ما يجعل المطار مثيرا للتأمل، لأنه لا يكتفي بكونه محطة عابرة، بل يغدو مختبرا للهويات في زمن الحداثة المتأخرة، وزمن الأوطان الطاردة.
يصف الفيلسوف البولندي زيغمونت باومان زمننا بأنه زمن "الحداثة السائلة"، حيث لم يعد الإنسان يعيش في أماكن مستقرة بل يعيش في مسارات، حيث الهوية ذاتها أصبحت عائمة، مؤقتة، متغيرة مع كل عبور. والمطار هو التعبير المكثف عن هذه الحداثة السائلة: فضاء يعكس انكسار الحدود بين الدول والثقافات، ولكنه أيضا يعكس هشاشة الانتماء نفسه. المسافر الذي ينتقل من صالة إلى صالة، ومن بوابة إلى بوابة، يعيش لحظة وجوده في ما يشبه "الزمن المعلق" الذي لا ينتمي فيه إلى مكان محدد. لكن في هذا التعليق بالذات تكمن التجربة العميقة للهوية المعاصرة: هوية التنقل، هوية العبور.
هكذا يبدو المطار مكانا مزدوجا، يحمل في طياته تناقضا لا ينتهي: فهو بلا ذاكرة وفي الوقت نفسه مثقل بالذكريات، هو محايد وظيفي وفي الوقت نفسه مليء بالمشاعر
لا ترى بعض الفئات البشر في المطارات لا أماكن، بل ترى فيها بيوتا رمزية. من يسمون بـ"أبناء الثقافة الثالثة"، وهم الذين نشأوا متنقلين بين دول عدة، يرون في المطارات نقاط رسوخ أكثر من المدن نفسها. فحياتهم التي تشكلت عبر انتقالات لا تنتهي جعلت المطار فضاء مألوفا، بل أقرب إلى "الوطن". تقول الباحثة الأميركية روث فان ريكن: "الوطن بالنسبة لأبناء الثقافة الثالثة ليس جغرافيا ثابتة، بل شبكة من المطارات وذاكرة من العبور". هنا يصبح المطار هوية قائمة بذاتها، مكانا للراحة والانتماء، حيث يلتقي العابرون الذين لا يعرفون وطنا ثابتا. إنه، بالنسبة لهم، البيت المؤقت لكنه الأعمق من أي بيت آخر، لأنه يستحضر مشاعر الطفولة، وحكايات الرحيل، ولحظات اللقاء المعلقة في فضاء البين–بين.
ولأن المطار يختزن هذه التناقضات، فقد جذب خيال المفكرين والفنانين على حد سواء. يكتب جون بيرغر (1926-2017) عن السفر قائلا: "إن الانتظار في المطارات يكشف عن هشاشتنا الوجودية، إذ إننا لسنا في مكان ولا خارج المكان، بل في زمن مؤقت بين ما كان وما سيكون". هذه الازدواجية بين الانتظار والحركة، بين الثبات والرحيل، تجعل من المطار مكانا وجوديا بامتياز، حيث يختبر معنى الغربة والانتماء في آن واحد.
حتى العمارة لم تعد محايدة في هذا السياق. لقد أصبح تصميم المطار نفسه تعبيرا عن الهوية. فمطار كيرتاجاتي في جاوة الغربية، على سبيل المثال، تبنى صورة الطاووس رمزا للفخر والانتماء، ليحول المطار إلى معمار استعاري. وهنا نجد صدى لما قاله المنظّر الثقافي الأميركي تشارلز جنكس (1939-2019): "العمارة ليست حجرا صامتا بل لغة ورمز واستعارة". لقد أصبحت المطارات منابر ثقافية، لا مجرد بنايات وظيفية، إنها تعكس صورة الأمة التي تنتمي إليها وتقدمها للمسافر العابر.
تجسد المطارات التناقض الإنساني ذاته: نحن كائنات تبحث عن بيت، لكننا في الوقت ذاته كائنات لا تتوقف عن العبور
ولعل أجمل ما في المطار أنه يختصر في فضاء واحد تجارب متباينة إلى أقصى حد: عائلة في عطلة، رجل أعمال متعجل، لاجئ يبحث عن ملجأ، مهاجر يعود إلى وطنه، مغترب يحمل ذاكرته على كتفيه. كل هؤلاء يجتمعون في قاعة واحدة، لكن لكل منهم قصة مختلفة، وكل واحد منهم يرى المطار بعين مختلفة. وهنا يتجسد قول إدوارد سعيد حين كتب عن المنفى: "المنفى ليس مجرد فقدان للمكان، بل هو تملك لعوالم متعددة في وقت واحد". المطار هو مسرح المنفى والعودة، هو نقطة اللقاء بين القصص الإنسانية التي لا تتشابه.
إن النظر إلى المطارات فقط بوصفها "لا أمكنة" لا يكفي لفهم عمقها، لأنها بالنسبة للبعض أماكن اغتراب وقلق، لكنها بالنسبة لآخرين مواقع انتماء وذاكرة. هي مساحة تحيا في التوتر المستمر بين "المكان" و"اللامكان"، بين الوظيفة الباردة والمعنى الحي. وربما يكمن جمالها في أنها تجسد التناقض الإنساني ذاته: نحن كائنات تبحث عن بيت، لكننا في الوقت ذاته كائنات لا تتوقف عن العبور.