حين وقف العالم الإيطالي غاليليو غاليلي عام 1633 أمام محكمة الكنيسة الكاثوليكية ليدافع عن فكرته بأن الأرض تدور حول الشمس، لم يكن يدافع عن نظرية فحسب، بل كان يخوض أول "مناقشة علمية" بالمعنى الحقيقي للكلمة، مناقشة يتواجه فيها العقل مع السلطة، والحقيقة مع المجاملة، والموضوعية مع الخوف. هذه الحادثة، رغم قدمها، ما زالت تتكرر في قاعاتنا الأكاديمية الحديثة بصور مختلفة.
منذ أن بدأ الإنسان يتساءل عن ذاته والعالم من حوله، وجدت المناقشة العلمية كشكل من أشكال التواصل في سبيل الوصول إلى الحقيقة. لم تكن يوما مجرد إجراء جامعي أو بروتوكول إداري، بل ممارسة فكرية تتقاطع فيها الفلسفة والمنهج والأخلاق. لكنها اليوم، في كثير من الأوساط، باتت تترنح بين قيمتين متناقضتين: قيمة البحث عن المعرفة وقيمة إرضاء الذات و"الآخر". إن فلسفة المناقشات العلمية ليست في ظاهرها عرضا لجهد بحثي، بل اختبار لثقافة مجتمع بأكمله، ومدى قدرته على الفصل بين الشخص والفكرة، وبين النقد البناء والمساس بالذات.
تاريخ المناقشة العلمية طويل ومتشعب، من المدارس الإغريقية القديمة، وأكاديمية أفلاطون، كانت المناظرة سيدة الفعل المعرفي، وكان الحوار هو الطريق الأوحد للوصول إلى الفكرة الباحثة عن الحقيقة. وفي الحضارة الإسلامية أيضا، تجلت روح النقاش العلمي في حلقات بغداد وقرطبة ودمشق، حيث كان العلماء يجتمعون تحت سقف واحد يناقشون دون خوف أو تزلف لإرضاء أحد، معتبرين المعرفة سلطة أعلى من أي سلطة أخرى. ومع ظهور الجامعات في أوروبا، تطور هذا الفعل إلى ما سمي "المناقشة العلنية" للأطروحات، وما زالت حتى اليوم وإن اختلفت تسمياتها وأشكالها.
في معناها الفلسفي العميق، المناقشة العلمية ليست مواجهة بين بشر، بل بين أفكار. هي حوار بين مناهج ومفاهيم، لا بين ذوات وألقاب. إنها حالة عقلية تختبر فيها الحجة لا مكانة القائل، ويقاس فيها الإبداع بقدر ما ينجح الباحث في الدفاع عن منهجه أمام نقد منصف وعقل ناقد. ومع ذلك، لا تخلو المناقشة من طابعها الإنساني، فهي تعكس مقدار النضج الأخلاقي والوعي الثقافي لدى المجتمع الأكاديمي.
تتخذ المناقشات العلمية حول العالم تسميات مختلفة لكنها تتفق في الغاية. تختلف المناقشات العلمية من بلد إلى آخر، لكنها تلتقي في جوهر واحد: اختبار صدق الباحث وقدرته على التفكير النقدي. فالمناقشة ليست طقسا جامعيا شكليا، بل لحظة حوار بين الفكرة ومنهجها، بين السؤال وجوابه، بين الباحث والعلم نفسه.
المناقشة العلمية حالة عقلية تختبر فيها الحجة لا مكانة القائل، ويقاس فيها الإبداع بقدر ما ينجح الباحث في الدفاع عن منهجه أمام نقد منصف وعقل ناقد
في بريطانيا والتي سبقت لي خبرة شخصية في طبيعة مناقشاتها، تعرف المناقشة باسم "Viva Voce"، وهي عبارة لاتينية تعني "الصوت الحي"، واستخدمت منذ القرون الوسطى في الجامعات الأوروبية للدلالة على الامتحان الشفهي المباشر الذي يتيح للباحث النقاش في حوار مغلق يمتد ساعات، بهدف التحقق من عمق الفهم وأصالة الفكرة، وفي الولايات المتحدة، تعرف المناقشة بـ"الدفاع" (Defense). فيقدم الباحث عرضا موجزا ثم يخوض نقاشا مفتوحا مع اللجنة، تطرح فيه أسئلة حول المنهج والنتائج، ويتوقع من الطالب أن يدافع بعقلانية عن عمله. هنا تعد المناقشة تدريبا على الثقة والجدل العلمي، وتتميز بمرونتها وتعددية تخصصات اللجنة.
أما في ألمانيا، فالمناقشة تسمى "المناظرة" وهي تقليد أكاديمي صارم يجمع بين الدقة الفلسفية والانضباط المنهجي، حيث يطالب الباحث بالدفاع المنطقي عن فرضياته في جلسة علنية. وفي فرنسا، تعرف بـ"Soutenance de these"، وتأخذ طابعا حواريا مفتوحا أقرب إلى المسرح الفكري، يتبادل فيه الباحث والمناقشون النقد والردود في جو من الحرية الأكاديمية، أما في اليابان، فالمناقشة موضع تقديس وإجلال بوصفها لحظة نضج فكري، تسودها روح الاحترام والتواضع، وينظر إلى الحوار بوصفه مساحة للتعلم المتبادل لا للمواجهة. الأسئلة دقيقة لكنها مهذبة، والنقد غير مباشر لكنه عميق. فالمناقشة هناك تعبير عن الفلسفة اليابانية التي ترى في الصمت والتأمل طريقا للمعرفة.
وفي عالمنا العربي، تسمى "المناقشة العلمية"، وغالبا ما تكون علنية، ما يغلّب عليها الطابع الاحتفالي والشكلي، إذ تعامل في كثير من الأحيان، بوصفها محطة إجرائية- للأسف- أكثر منها فعلا معرفيا أصيلا.
إن أزمة المناقشات العلمية في كثير من البيئات الأكاديمية لا تكمن في نقص الإمكانات أو ضعف الكفاءات، بل في هيمنة الذاتية على الموضوعية. فبدل أن تكون المناقشة حوارا لتقويم الفكرة، تتحول أحيانا إلى ميدان للمجاملات المتبادلة. يغلب على الجلسة طابع المدح أكثر من طابع النقد، وتغيب الأسئلة الجادة خشية الإحراج أو سوء الفهم. ويغادر الجميع القاعة مبتسمين، وتظل القيمة العلمية حبيسة الورق. المشكلة هنا ليست في الأفراد، بل في البنية الثقافية التي ترى في النقد تقليلا من الشأن، وفي المواجهة مساسا بالهيبة، فتختار الصمت المجامل على الصراحة البناءة.
إن غياب النموذج الموضوعي المنظم للمناقشات العلمية يمثل أحد أبرز تحديات مؤسسات التعليم العالي في العالم العربي. فالقوانين الجامعية تحدد آليات التشكيل والإجراءات الشكلية، لكنها لا تضع معايير دقيقة تقيس جودة النقاش أو مدى ارتباطه بجوهر البحث. والنتيجة أن التقييم يصبح متأثرا بالعلاقات الشخصية والانطباعات الفردية أكثر من استناده إلى تحليل علمي صارم. لذلك، تبرز الحاجة إلى صياغة نموذج جديد، يقوم على توازن بين التحكيم البشري واستثمار الذكاء الاصطناعي بحيث يقيم العمل العلمي على أسس معيارية قبل أن يخضع للأحكام الذاتية. لا يعني هذا نزع الإنسانية من المناقشة، بل إعادة توجيهها نحو هدفها الأساسي.
غياب النموذج الموضوعي المنظم للمناقشات العلمية يمثل أحد أبرز تحديات مؤسسات التعليم العالي في العالم العربي
ولأن المناقشة ليست مجرد تقييم أكاديمي بل فعل ثقافي وأخلاقي، فإن إصلاحها لا يبدأ باللوائح بل بالضمير العلمي. فالموضوعية ليست قانونا يفرض من الخارج، بل فضيلة تزرع في الوعي الأكاديمي منذ مراحل التعليم الأولى. حين يتربى الباحث على أن النقد ليس خصومة، وأن الاعتراف بالخطأ لا ينتقص من مكانته، يتحول النقاش إلى مدرسة فكرية لا إلى محكمة. لا بد أن تصبح المناقشة فرصة للنضج الفكري، لا مناسبة للمديح أو تزيين القصور. فالعلم لا يترسخ إلا في بيئة تسمح بالاختلاف وتحتفي بالأسئلة أكثر من الإجابات.
فكلما اقتربت المناقشة من الصدق والصرامة، اقتربت الجامعة من رسالتها الكبرى في بناء الوعي، وكلما خضعت للمجاملة والمحاباة، تحولت إلى مجرد طقس اجتماعي يخدم المظاهر لا المعرفة. نحن بحاجة إلى أن نعيد للمناقشة معناها الأول: لحظة مواجهة مع الذات الجديدة، والبناء الفكري الذي خاض لسنوات رحلة بحثية لينضج وصولا للمناقشة، وهو ليس وصولا بالمعنى الحرفي إنما هو اكتشاف الأسئلة وهو أهم بكثير من الوصول لأجوبة، وأن عجلة العلم تدور تدور وليس لها نقطة انتهاء، وأن العلم يبدأ بالشك وينتهى إليه.