التصوف والحداثة الأوروبية

التصوف والحداثة الأوروبية

استمع إلى المقال دقيقة

هل يمكن أن نفهم الفلسفة الحديثة إذا أزلنا منها جذورها الصوفية؟ وهل يظل العقل الغربي عقلا خالصا إذا تجاهل الأصوات التي تغذت عليها تأملاته من الهرمسية والقبالة والثيوصوفية؟

بهذا السؤال يفتتح غلين ألكسندر ماغي مشروعه الفكري الكبير، الذي يرى فيه أن الفلسفة الغربية، في مسارها الطويل من أفلاطون إلى هيغل، لم تكن يوما معزولة عن التصوف، بل كانت تستمد منه غذاءها الخفي، وتعيد صوغه في لغة مفهومية صارمة. الغضب الذي يعبر عنه ماغي من العادة الأكاديمية التي تفصل التصوف عن الفلسفة ليس انفعالا، بل موقف علمي مدروس يقوم على حجج نصية وتاريخية متماسكة، ويهدف إلى إعادة وصل ما قطعته المناهج الجامعية بين العقل والروح.

تبدأ حجته من النصوص نفسها. فالفكر الهرمسي القديم، كما يبين ماغي، لا يرى المطلق كجوهر مكتف بذاته في سماء مغلقة، بل ككائن لا يكتمل إلا حين يعرف. فالمعرفة البشرية بالمطلق ليست عملا من خارج، بل شرط في وعيه بنفسه. الخلق، إذن، ليس فعلا عرضيا، بل ضرورة ميتافيزيقية لكي يدرك المطلق ذاته عبر الإنسان العارف. هذا التصور هو عين ما نجده، في مستوى فلسفي أرفع، في نسق هيغل الذي يرى أن "الروح المطلق" لا يصير فعلا إلا حين يبلغ وعيه بذاته في الجماعة البشرية، وأن معرفة المطلق ليست نزهة فكرية بل واجب أعلى، لأنه لا يكون مطلقا إلا حين يدرك إدراكا تاما في وعي البشر. هنا يذوب الفاصل بين اللاهوت والفلسفة، ويظهر جوهر صوفي في قلب العقل الجدلي.

الحجة الثانية تاريخية الطابع. يتتبع ماغي خيوط التأثير الصوفي على هيغل وسائر المحدثين، فيكشف عن شبكة فكرية تمتد من يعقوب بوهمه وفرانتس بادر إلى برونو وباراسلسوس، وتضم موضوعات الكيمياء الخفية والقبالة المسيحية والعلوم الكونية الجامعة. هذه ليست مصادفات أو استعارات زخرفية، بل شواهد على تواصل عميق بين التصوف والعقل الفلسفي. ففكر هيغل، كما يثبت ماغي، تشكل في بيئة مفعمة بالرموز السرانية التي كانت تشكل المناخ الروحي لأوروبا الحديثة.

ثم تأتي حجته البنيوية، حيث يقرأ نصوص هيغل قراءة تحليلية كأنها مرايا هرمسية في بنية النسق نفسه. ففينومينولوجيا الروح، عنده، ليست مجرد مقدمة معرفية، بل طقس عبور، يمهد للمريد طريق التجلي الذهني. وعلم المنطق الهيغلي يبدو كأنه شجرة قبالية تتفرع فيها المقولات كما تتفرع تجليات الواحد في العالم. أما فلسفة الطبيعة فهي إعادة صوغ لمقولات الكيمياء القديمة التي رأت في العناصر الأربعة مظاهر لتجلي المطلق. لا يتعامل ماغي مع هذه القرائن بوصفها مجرد تزيينات بل مفاتيح تفسيرية تكشف البنية الباطنة للفكر الهيغلي.

هذه ليست مصادفات أو استعارات زخرفية، بل شواهد على تواصل عميق بين التصوف والعقل الفلسفي

الحجة الرابعة لاهوتية تأويلية، وفيها تظهر مقاطع صريحة من هيغل يقول فيها إن التعرف على المطلق يتم في جماعة المؤمنين، في عبادة حية يغدو فيها الاتحاد الصوفي جوهر الدين الحق. فمعرفة الله ليست جريمة فكرية بل تكليف، لأن كمال الإله لا يتم خارج وعي البشر به. عند هذه النقطة يختفي الخط المدرسي الفاصل بين الفلسفة والتصوف، ويغدو العقل والذوق وجهان لبحث واحد في طبيعة المطلق.

أما حجته الخامسة فتقوم على أن مبادئ مثل تلاقي الأضداد، التي صاغها  الصوفي نيكولا الكوزي، أو علاقة العالم الأكبر بالعالم الأصغر، التي تكررت في التقاليد الهرمسية، تتمركز وتصعد في فلسفة هيغل العقلانية بصيغ فلسفية دقيقة. الواحد، عنده، يجمع كل التناقضات في ذاته من غير أن يختزل فيها، والروح تسير من الإجمال إلى التفصيل ثم تعود إلى الوحدة. هذه المفاهيم الهرمسية القديمة صارت في النسق المثالي أدوات لفهم حركة الفكر نفسه، وبذلك تفسر الجاذبية التي تمارسها نصوص الهرمسية على البناء المفهومي لهيغل.

ومن هذه الحجج كلها يصوغ ماغي نقده الجوهري للمؤسسة الأكاديمية التي تصر على فصل العقلانية عن التجربة الباطنية. فالتاريخ، كما يقول، لا يقدم لنا فلاسفة خالصين منزهين عن النزعة الصوفية، ولا متصوفة بلا أدوات عقلية. بل كان الفكر الغربي على الدوام حوارا بين منطق البرهان ولغة الكشف، بين الشرح الجدلي والرمز الإشراقي. لذلك فإن محاولات تطهير الفلسفة من جذورها الصوفية لا تنتج معرفة أدق، بل تفقدنا مفاتيح ضرورية لفهم النصوص الكبرى في تاريخ الفكر.

ويصل ماغي إلى أثر هذا التصحيح المنهجي في قراءة الحداثة كلها. فإذا كان هيغل يمثل ذروة الفلسفة الحديثة، فإن اكتشاف قلبه الهرمسي يغير صورة الحداثة نفسها. فالمفاهيم التي بدت لنا من نتاج العقل المحض تتكشف عن ذاكرة تصوفية عميقة، واللغة التي اعتبرت تجريدا صارما تفضح طموحا قديما نحو العلم الكلي الذي حلم به الهرامسة. عندئذ لا يعود السؤال: هل التصوف دخيل على الفلسفة؟ بل يصبح: لماذا أخفي هذا الأصل كل هذا الزمن، وكيف يمكن استعادته في قراءة علمية رزينة لا تسقط ولا تؤدلج؟

محاولات تطهير الفلسفة من جذورها الصوفية لا تنتج معرفة أدق، بل تفقدنا مفاتيح ضرورية لفهم النصوص الكبرى في تاريخ الفكر

في النهاية، لا يمجد ماغي السرانية ولا يذيب الحدود بين الحقول، بل يدعو إلى تاريخ للأفكار أكثر أمانة، يعترف بأن العقل الأوروبي تكون وهو يصغي إلى صوتين معا، صوت البرهان وصوت الكشف. وإذا استعدنا هذا التواقت بين الفيلسوف والعارف، بين الجدل والإلهام، أدركنا لماذا تتوهج نصوص هيغل بوهج لا تفسره المقولات المنطقية وحدها، ولماذا يظل التصوف، في عمق الفكر الغربي، شريكا للفلسفة لا ظلا لها ولا خصما.

font change