سوريا الجديدة بعد عام من سقوط الاسد

لم يكن أحد يتوقع أن تتمكن دمشق، في غضون اثني عشر شهرا، من تجاوز مرحلة الانهيار التي كانت حتمية

سوريا الجديدة بعد عام من سقوط الاسد

استمع إلى المقال دقيقة

في قراءة المشهد السياسي يتم الاستناد إلى القواعد التاريخية التي لا تتغير كثيرا، وإحدى هذه القواعد تقول إن الدول التي تمر بثورات عنيفة وسقوط مفاجئ للأنظمة، غالبا ما تنجرف نحو الفوضى والانهيار الاقتصادي والتقسيم، فهذا هو الدرس الذي استوعبناه من تجارب عديدة في المنطقة والعالم.

ولكن التجربة السورية الجديدة، بعد مرور عام على سقوط نظام الأسد وصعود الدولة الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، تقدم نموذجا برغماتيا يكسر هذه القاعدة.

لم يكن أحد يتوقع أن تتمكن دمشق، في غضون اثني عشر شهرا، من تجاوز مرحلة الانهيار التي كانت حتمية، وقد راهن الكثيرون على أن الدولة السورية ستتحول إلى مجموعة من الكانتونات المتناحرة، أو أنها ستغرق في مستنقع الديون والفقر، ولكن القيادة الجديدة أثبتت أن الإرادة السياسية القادرة على اتخاذ القرارات الصعبة هي المفتاح.

لقد تجلت هذه الإرادة أولا في المنجزات الداخلية التي مست حياة المواطن مباشرة، ففي الجانب الاقتصادي، شهدت البلاد ضخ الاستثمارات وبدأ العمل على إعادة تأهيل البنية التحتية المدمرة، وهذا العمل لم يقتصر على الوعود بل ترجم إلى نتائج ملموسة، منها عودة الكهرباء إلى معظم المدن، ورفع رواتب الموظفين، وهو ما يمثل رسالة واضحة بأن الدولة الجديدة تضع الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في صدارة أولوياتها.

أما على الصعيد السياسي والدولي، فقد حققت دمشق قفزات نوعية، ففي الوقت الذي كانت فيه سوريا معزولة تماما، استطاع الرئيس أحمد الشرع أن يعيدها إلى قلب المعادلة الدولية، وقد كان حضور سوريا الجديدة في الأمم المتحدة، وإلقاء الشرع لخطابه هناك، بمثابة إعلان عن عودة الدولة إلى الساحة العالمية.

التحدي الأبرز، فهو ملف التدخلات الإسرائيلية المتكررة الذي أظهرت فيه الدولة السورية الجديدة حكمة في التعامل مع هذه التدخلات، الأمر الذي جنبها الانجرار إلى مواجهة شاملة

هذا الحضور تعزز بزيارات رفيعة المستوى، حيث زار الشرع عواصم دولية مؤثرة مثل باريس وموسكو والرياض وأنقرة، بل واستُقبل في البيت الأبيض، وهو ما يمثل تحولا دراماتيكيا في المواقف الدولية تجاه دمشق، وهذه التحركات تؤكد أن القيادة الجديدة تتبنى سياسة تصفير المشاكل، وتحافظ على علاقة متوازنة مع دول المحيط الإقليمي والدول الكبرى، بما في ذلك الصين وروسيا، وهو نهج يضمن لسوريا الجديدة مصالحها بعيدا عن الاستقطاب الحاد.
ولكن هذا النجاح لا يعني أن المشهد يخلو من تحديات معقدة، فالقيادة الجديدة تدرك أن بناء الدولة يتطلب نفسا طويلا في التعامل مع الملفات الشائكة، ومنها في الشمال الشرقي حيث لا يزال ملف قوات "قسد" يمثل تحديا يتطلب حلا سياسيا يضمن وحدة الأراضي السورية، وفي الجنوب لا تزال هناك تحديات في السويداء تتطلب معالجة اجتماعية وسياسية وأمنية.
أما التحدي الأبرز، فهو ملف التدخلات الإسرائيلية المتكررة الذي أظهرت فيه الدولة السورية الجديدة حكمة في التعامل مع هذه التدخلات، الأمر الذي جنبها الانجرار إلى مواجهة شاملة قد تقوض جهود الاستقرار وإعادة الإعمار، وهذا التعامل هو دليل على أن القيادة الجديدة تضع مصلحة الدولة العليا فوق أي حسابات عاطفية أو ردود فعل متسرعة.
في الختام، يمكن القول إن التجربة السورية الجديدة في عامها الأول قدمت دليلا قويا على أن التحول من عقلية الثورة إلى عقلية الدولة هو التوجه الصائب، حيث نجحت القيادة الجديدة في تحويل سوريا من دولة فاشلة ومعزولة إلى دولة تستعيد مكانتها وتفرض احترامها على الساحة الدولية، أما التحديات المتبقية فهي تحديات دولة في طريقها نحو استعادة عافيتها وليست تحديات دولة منهارة، ويمكن اعتبار الاستثمارات التي تتدفق، وعودة العلاقات لطبيعتها مع الدول المؤثرة، والتحسن الملموس في حياة المواطن، وطريقة التعامل مع التحديات القائمة، كلها مؤشرات تدفعنا إلى التفاؤل بأن سوريا تسير على طريق التعافي حتى تستعيد مكانتها في المنطقة.

font change