في مشهد يجسد امتداد البحر الأحمر، ويستحضر صوت البحارة القدامى، يبدو مهرجان البحر الأحمر السينمائي استمرارا حيا لإرث طويل من الحكاية والتبادل الثقافي والانفتاح. فكما حملت السفن قديما أصوات البحارة وهي تشد الحبال وترفع الأشرعة مرددين: "مد الشراع على موسى جا/ مد الشراع في أمان الله... إحنا مسافرين في أمان الله"، تحمل شاشات المهرجان اليوم تنوعا ثقافيا يأتي من جهات الأرض الأربع، متجها نحو مرفأ واحد يجمع العالم تحت رعاية وزارة الثقافة السعودية، لتكون المملكة بوابة للفن وهذا المهرجان حافظا أمينا لتلك الذاكرة المشتركة.
فلماذا البحر الأحمر بحمولته الثقافية التي غربت وأشرقت منها أجيال عديدة، هو بوابة السينما اليوم؟ لطالما كان البحر الأحمر منذ قرون ملتقى الثقافات، والأغنية تكثف هذا اللقاء. فصوت البحار الذي يصدح ليلا على ظهر السفينة، كما في الموال الشهير: "طال انتظاري وقلبي جريح/ يا مركب الشوق ليت الريح/ وقت السحاري تملا السواري"، لا يعبر عن فرد واحد، بل عن ذاكرة مشتركة تشكلت فوق الماء. تلك الذاكرة هي جوهر رسالة مهرجان البحر الأحمر السينمائي، فهو لا يعرض أفلاما فحسب، بل يوقظ صفحات من التاريخ الإنساني قد تكون منسية ويعيد إحياءها، حيث تتحول السينما إلى مركب شوق آخر، يسافر بالوجدان عبر ثقافات وشعوب وتجارب متباعدة.
لم تعد السينما مجرد شاشة تُشاهد، بل صارت قوة محركة للثقافة، تجمع المبدعين والجمهور في مكان واحد، وتمنح القصص المحلية حضورا عالميا عبر المهرجانات والجوائز ودعم الإنتاج السينمائي، يعيد تشكيل الذائقة، ويحفز الاقتصاد الإبداعي، ويجعل الاجتماع حول الفن جزءا من الحياة الثقافية اليومية.
يعيد المهرجان تشكيل المعنى القديم للعبور والاندماج. فما كانت تفعله الريح في رفع السواري تفعله الآن الكاميرا في رفع الوعي وبناء الجسور. وكما حفظت الأغاني البحرية هوية المجتمعات الساحلية وذاكرتها في مواجهة الغياب، تحفظ السينما اليوم الهويات الحديثة في مواجهة الانعزال الثقافي. إن كلتيهما، الأغنية والسينما، وسيلتان لإنقاذ الإنسان من الصمت، وملاذان يلتقي فيهما الفرد بالجماعة عبر إيقاع أو صورة أو قصة.
وهكذا لا يعود المهرجان مجرد حدث فني، بل حدث عالمي يعيد للبحر دوره التاريخي بوصفه جسرا يربط الثقافات المختلفة، ويحول الإرث الشفهي الذي حفظته أهازيج البحارة إلى إرث بصري حي، يتدفق من الشاشة كما كان يتدفق من حناجر البحارة.
مهرجان البحر الأحمر، بامتداده الثقافي وتنوع مشاركاته، ليست أقل من أن يكون استمرارا حديثا لذاكرة الملاحة القديمة التي يعبر بها الإنسان نحو الآخر
إن مهرجان البحر الأحمر، بامتداده الثقافي وتنوع مشاركاته، ليست أقل من أن تكون استمرارا حديثا لذاكرة الملاحة القديمة التي يعبر بها الإنسان نحو الآخر، محملا بالشوق نفسه، والرغبة نفسها في أن يرى ويفهم ويترك أثرا.
تتميز منطقة البحر الأحمر بكونها فضاء تاريخيا وثقافيا عابرا للقارات، ما يجعلها مكانا ثريا لاحتضان فعاليات كبرى مثل مهرجان البحر الأحمر السينمائي. فمنذ آلاف السنين كانت سواحله ممرا للتجارة والحج والهجرة والتبادل الثقافي بين أفريقيا والجزيرة العربية وبلاد الشام والبحر المتوسط، حتى صارت المنطقة أشبه بـمشهد يجسد التنوع الإنساني، وقد شكل هذا العبور المتواصل نسيجا اجتماعيا متعدد اللغات والخبرات والسرديات، وهو مما يمنح الفعاليات الثقافية اليوم عمقا تاريخيا فريدا.
كما يشكل مهرجان البحر الأحمر نقطة تحول في مشهد الثقافة العربية، ليس بوصفه حدثا سينمائيا فحسب، بل باعتباره مكانا حيا لإعادة تشكيل العلاقة بين المجتمع والفنون. حضور الشباب والمرأة السعودية المبدعة التي تحمل رسالة إنسانية حقيقية، هو تعبير عن تحول اجتماعي وثقافي عميق، فالأجيال الجديدة تدخل السينما كصانعة للمعنى، بينما تتقدم المرأة في قلب العملية الإبداعية، إنتاجا وتمثيلا وإخراجا، لتعيد كتابة الوعي البصري العربي من منظور جديد.
عالميا، ولدت السينما كحاجة للدهشة أولا، ثم تحولت إلى أداة لفهم الإنسان، تتجاوز مجرد فكرة الترفيه، كما قال جان لوك غودار: "السينما هي الحقيقة أربعا وعشرين مرة في الثانية". أما في العالم العربي، فكان ظهورها استجابة لرغبة المجتمعات في تسجيل التحولات، وتخزين الذاكرة، وصناعة حلم جماعي يتجاوز الحدود. واليوم، تأتي السينما السعودية لتستعيد هذا الدور، إنما بوعي مختلف يربط بين التطور الاجتماعي والاقتصادي وبين ضرورة امتلاك لغة بصرية تعبر عن الذات والهوية، يد قادرة على تحريك بوصلة الفن، يد تمد يدها للعالم.
هكذا يصبح المهرجان فاعلا ثقافيا لا يكتفي بعرض الأفلام، بل يعيد صياغة سؤال الهوية، ويمنح المجتمع أداة جديدة للتعبير عن ذاته وعن قصصه
إن التحول الحاصل اليوم في الثقافة السعودية يعيد قراءة تاريخ السينما بعيون معاصرة، من سينما كانت تعكس واقعا اجتماعيا مقولبا، إلى سينما تحرك الوعي وتحفز الحوار وتفتح النوافذ على العالم. وهكذا يصبح المهرجان فاعلا ثقافيا لا يكتفي بعرض الأفلام، بل يعيد صياغة سؤال الهوية، ويمنح المجتمع أداة جديدة للتعبير عن ذاته وعن قصصه، لأن السينما، في جوهرها، ليست فنا للعرض، بل فن للحلم والفهم والمعرفة.