المآل الحزين للكتاب الورقي

المآل الحزين للكتاب الورقي

أمست رؤية الكتاب الورقي نادرة حدّ العدم، في القطارات والطائرات والحافلات، والمحطات والمطارات، الحدائق والمقاهي، وهلم فضاءات يحتشد فيها الناس منهوبي اليقظة خلف شاشات الهواتف الذكية على نحو جارف.

حريٌّ باللحظة التاريخية أن تتألق بالتحولات النوعية لإبداعية الإنسان المتفاقمة، مع أن الطفرة الرقمية آلت إلى قدر جبّار إذا جازت استعارة توصيف هايدغر حينما بكّر بالحديث عن التقنية كميتافيزقا العصر، وها قد تشعبت بشكل أفدح، مع القفزات الخارقة لحذاقة آليات التواصل، ورقمنة المعرفة، حدّا بات معه الكائن يراوح الدرج الأخير في سلم قيمته الإنسانية، وقد صار في ذمة ذكاء اصطناعي كاسح.

بالمقابل، يتراجع الكتاب الورقي في هذا المعترك الصاخب، لائذا بالظل، بالصمت الرمادي، منذورا للهوامش والظلال والحواشي، في غمرة الزحف الهائل لخوارزميات الشاشات المستأسدة.

يغدو الكتاب الورقيّ متحفيّا في هذا المحفل السوداوي، يكاد يصير شبهة أو جريمة رمزية بصورة من الصور، إذا ما قورن حضوره في الفضاءات العامة بالوسائط الأخرى، الطارئ منها والمستجد، وكأن صاحب الكتاب الورقي إن وجد متلبسا يقرأ هذه المستحاثة الورقية وسط قيامة الرقميات، هو نفسه بطل رواية ري برادري الموسومة بـ"فهرنهايت-451"، وهو رجل إطفاء يدعى جاي مونتاج، الذي يصدح بالقول: "لا بدّ أن في الكتب أشياء لا نستطيع تخيلها، تدفع امرأة إلى أن تبقى في بيت يحترق".

أكثر من ذلك، ينتاب قارئ الكتاب الورقي في هذه اللحظة الفارقة، بأنه محض كائن ينتمي لزمن الديناصورات، إذ العصر ومآلاته، أضحى عنكبوتيّا سائلا بضراوة. ومع ذلك، فإن التمسك بالكتب ليس مناقضا لوتيرة اللحظة التاريخية، واستشرافات غدها، كما ليس منفصما عن المنحى الثقافي والمعرفي الذي تسلكه الإنسانية في انفتاح غير مشروط على الآتي، المستقبل، الما بعد، بل يظل المصدر الأعظم، الذي لا غنى عنه، لهذه التشعّبات الرقمية، كيفما كانت نزعات استفحالها في التجاوز والتخطي.

هذا ليس بيانا ضد استشراء السيبرانية، أو اكتساح المعطى الشبكي للمشهد، وسطوة الافتراضي في كلّ المحافل... إذ إن التحول الهائل للأنظمة الذكية ضرورة لتقدم علمي إنساني لا محيد عنه، لكن في المقابل لا يمكن التنكر لتاريخ حافل، إحدى بداياته بزغت مع اختراع الورق الصيني 105 سنوات قبل الميلاد، وثانيها مع اختراع غوتنبرغ للطباعة حوالي 1450 ميلادية، وقبلهما أشكال أولية من الرق إلى البردي، وهكذا دواليك، تاريخ متشعب، شيدت أمجاد حضاراته على مصاطب الكتب الورقية.

التمسك بالكتب ليس مناقضا لوتيرة اللحظة التاريخية، واستشرافات غدها، كما ليس منفصما عن المنحى الثقافي والمعرفي الذي تسلكه الإنسانية

وإذ نتمسك كأقلية بسحرية الكتاب، بجماله البكر، بفضيلة الحب المفردة له على نحو خاص جدا، ملمسه الجليل، كما يشدو بذلك بابلو نيرودا: "أحب الأشياء التي تلمسها اليد وتحتفظ بذاكرة حية... بما فيها الكتب"، كذلك صداقته المنذورة لكل الأمكنة والأزمنة، حلا وترحالا، وفق سيرة اليومي لكل واحد منّا، فلأكثر من سبب جمالي ووجودي، بداية بطبيعة العلاقة الحميمة مع ألق الورق، بحسب التفاعل الآسر بين كيمياء اليد الإنسانية، وكيمياء الشجرة التي قُدَّ منها الكتاب، يا للتحول العجيب، للشيء من صورة إلى أخرى، أن تؤول شجرة إلى كتاب، لعله من أبدع أحلام النّبات عن بكرة غابته، وَقِسْ على ذلك، غابة بأكملها تتحوّل إلى مكتبة كونية.

الإجهاز على حياة شجرة لا مبرّر له في كل الأحوال، ولكن إن حدث ذلك، امتثالا لضرورة أو عدمها، فحيوات رمزية، تخييلية، يمنحها الكتاب لها كأصل، حيوات مضاعفة، مستمرة ودائمة، منذورة للخلود، تتجدد من قارئ إلى آخر.

يبدو هذا الصنف من النظر رومانسيا، ولكنه ظل من ظلاله لا يمكن صرف الرؤية عنه، وغير العلاقة الحسية الدامغة بالكتاب الورقي، ما عسى تكون الحاجة إليه في غمرة هذه المتغيرات الماحقة؟

"الكتاب شجرة اللغة

وإذا يبست الشجرة،

يبست الحضارة"

يفصح أدونيس في مزج جدلي بين مصير الكتاب ومصير الثقافة ككل، وهو لذلك، لا يفتأ أن يتجسد أثرا ماديا للتاريخ نفسه، بالنظر إلى أن امتلاك كتاب هو ذاته امتلاك لجزء من الزمن وفق فالتر بنيامين في نصه "تفريغ مكتبتي"، وأما بورخيس فيستغور فيرى المسألة بشكل جينالوجي تقديرا لابتكار الكتاب المبهر: "من بين جميع أدوات الإنسان، يظل الكتاب أدهشها، فجميع الأدوات الأخرى امتداد لجسده، أما الكتاب فشيء آخر تماما، إنه امتداد للذاكرة والخيال"، فيما يتقصى إيتالو كالفينو الوجه الآخر لأثر الكتاب الكلاسيكي، موجزا جدواه ومعناه: "الكتاب الكلاسيكي هو كتاب لم ينته بعد من قول ما لديه"، ولا يني الكتاب أيضا يهبنا مكانا حميما، آمنا، بحسب عبد الفتاح كيليطو: "الكتاب بيت نعود إليه كلما ضللنا الطريق".

من بين جميع أدوات الإنسان، يظل الكتاب هو الذي أدهشها، فجميع الأدوات الأخرى امتداد لجسده، أما الكتاب فشيء آخر تماما: إنه امتداد للذاكرة والخيال

التنكر للكتاب الورقي إذن، هو بشكل من الأشكال محض حكم بإحراقه، وفي هذا التجني نسف لذاكرة إنسانية استغرقت قرونا، مع أن تدمير ثقافة ما لا يحتاج إلى حرق الكتب، بل يكفي أن تجعل الناس يتوقفون عن قراءتها، كما يصدح لسان جاي مونتاج، بطل رواية "فهرنهايت 451"، وهذا ما جعل كاتبا أريبا كالجاحظ يفرد رسالة في مدح الكتب والحث على جمعها، يستهلها بـ: "نعم الذخيرة والعقدة، ونعم الجليس والعمدة، وإن شئت كان أبين من سحبان وائل، وإن شئت كان أعيا من باقل، ومن لك بشيء يجمع لك الأول والآخر والناقص والوافر والشاهد والغائب والحسن وضده، يجمع التدابير العجيبة والعلوم الغريبة، صامت ما أسكتّه، بليغ ما استنطقته". وقد اختارتها جامعة وارسو كوثيقة عربية وحيدة ضمن منقوشات على ألواح عملاقة، من اقتراح بروفيسورة قسم الدراسات العربية هناك.

font change