* بعيداً عن حالة الجدل، يمكن القول إن روسيا الفيدرالية تمكنت بالفعل من إحراز نجاحات على الصعد كافة، داخلياً وخارجياً
* رؤية بوتين نحو تمكين سلطة الدولة على المؤسسات الاقتصادية الرئيسية وخاصة تلك العاملة في مجالات النفط والغاز، كانت نقطة الانطلاق الأولى لاستعادة الاقتصاد الروسي نموه وتطوره
* شهد العام الحالي (2019) تنظيم أول قمة روسية أفريقية في العاصمة الروسية في أكتوبر 2019 وكان من أهم مخرجاتها تدشين المنتدى الاقتصادي الروسي الأفريقي كمنصة للحوار المباشر بين الطرفين، فضلا عن توقيع أكثر من 30 عقداً ومذكرة تعاون مع دول القارة الأفريقية.
* ثمة صعوبات كثيرة تواجهها روسيا في ظل سعيها للخروج من أزمتها الاقتصادية بصورة نهائية، ليمكنها ذلك من استكمال توسعاتها الدولية والإقليمية، وهو ما يتطلب أن تعيد روسيا النظر في بعض ملفات سياستها الخارجية التي تلقي بأعبائها على اقتصادها الوطني
* حرصت روسيا على التطوير المستمر لقدراتها العسكرية ليصبح الجيش الروسي ثاني أقوى جيش في العالم، وإن احتل المرتبة الأولى كأضخم قوة دبابات في العالم، إضافة إلى امتلاكه 7 آلاف قنبلة نووية و4 آلاف طائرة حربية
* شهد العام الحالي (2019) سعياً روسياً لتحديث بنيتها التحتية وقدراتها العسكرية خاصة في المناطق الحدودية
* تعددية المقومات أو المحددات الداخلية مكنت الدولة الروسية من استعادة دورها إقليمياً ودولياً، وهي مقومات رغم أهميتها إلا أنها ليست ضمانات ثابتة أو أوراق مضمونة في يد الدولة الروسية ترتكن إلى عملها بشكل آلي
* التحولات العالمية القادمة التي تشهد الصعود الصيني المرتقب يربك الكثير من الحسابات الروسية
باكو: تفكك وانهيار ثم عودة واستعادة للدور... ذلك هو ملخص المعادلة التي عاشتها روسيا الفيدرالية منذ بداية تسعينات القرن المنصرم وحتى اليوم، إذ إنه في الحقبة التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، وإعلان جمهورية روسيا الفيدرالية واستقلال دول الكومنولث الواحدة تلو الأخرى، واجهت الدولة الروسية تدهورا داخلياً (اقتصاديا، اجتماعيا، أمنيا... إلخ) وخارجياً (تقلص دوائر تحركات سياستها الخارجية، وتراجع مكانتها الدولية... إلخ)، حتى أطلق البعض على روسيا خلال العقد الأخير من القرن العشرين تحت رئاسة الرئيس الروسي الراحل بوريس يلتسن لقب «الرجل المريض».
ولكن لم يستمر الأمر طويلا، فمع وصول «فلاديمير بوتين» إلى السلطة في أبريل (نيسان) 2000. اعتمد استراتيجية تهدف إلى دعم سلطة الدولة المركزية، متبنيا في سبيل ذلك مجموعة من الإجراءات، منها: تشديد قبضة الدولة على المؤسسات الاقتصادية والسياسية في مواجهة بعض رجال الأعمال والسياسة الذين تمكنوا خلال الفترة السابقة من إدارة هذين الملفين وفقا لمصالحهم خاصة في مجال النفط والغاز، كما اتجه إلى تعيين حكام الأقاليم الروسية بدلاً من انتخابهم، وهو ما منحه الفرصة لاختيار من يعرفهم ويثق في قدراتهم للحد من الفساد المستشري في مختلف مفاصل الدولة، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، ساعده ذلك على تقوية المركز في مواجهة الأطراف المكونة للاتحاد الفيدرالي من خلال إنهاء النزاعات الانفصالية لدى بعض الأقاليم تحت شعار «ضرورة الحفاظ على الدولة الروسية» والمثال الأبرز على ذلك تسويته المعضلة الشيشانية.
وقد منح نجاح «فلاديمير بوتين» في تسوية كثير من ملفاته الداخلية الشائكة اقتصاديا وسياسيا وأمنيا، الفرصة للبدء في استعادة دور دولته خارجيا من خلال لعب دور مهم في بعض الملفات والقضايا الإقليمية والدولية.
ومن ثم، يبرز تساؤل مهم حول مستقبل هذا الدور، فإذا كانت السياسة الخارجية الروسية في العهد السوفياتي قد استندت في تحركاتها إلى منطلقات آيديولوجية ومصالح القوى العظمى، فإن الأمر قد تغير مع التفكك والانهيار، حيث تحولت هذه المنطلقات إلى نزعة برغماتية سيطرت على التحركات الخارجية، فإلى أى مدى يمكن للسياسة الخارجية الروسية الاستمرار في هذا المنحى؟ بمعنى أكثر وضوحا، كيف يمكن فهم أو تفسير النشاط الروسي المتنامي دوليا وإقليميا؟ هل يرجع ذلك إلى النزعة البرغماتية كما رأت بعض الدراسات أن ثمة مقومات أو محددات داخلية وراء هذا النشاط؟ وإلى أى مدى تمثل هذه المحددات أو المقومات عوامل دافعة لاستمرار النشاط الروسي على الساحة الدولية؟
وقبل الإجابة على هذا التساؤل، تجدر بنا الإشارة إلى حالة الجدل التي أُثيرت بين الخبراء والباحثين بشأن مستقبل دور روسيا الفيدرالية على الساحة الإقليمية والدولية، إذ إنه في الوقت الذي يرى فيه البعض أن ثمة عودة روسية إلى مسرح السياسة الدولية كقوة منافسة للولايات المتحدة الأميركية ومشاركة بفاعلية في إعادة تشكيل النظام الدولي على أساس من التوازن بأشكاله المختلفة وتعددية أقطابه، استناداً إلى أن روسيا الفيدرالية استطاعت في السنوات الأخيرة ترتيب أوضاعها الداخلية على المستويات كافة. على الجانب الآخر، يرى البعض أن ما حققته روسيا هو مجرد فقاعة مؤقتة، وأنها مهددة بالتفكك والانهيار لأسباب ديموغرافية واقتصادية وعسكرية وتقنية، بل إن ما حققته من نجاح اقتصادي هو نتاج للارتفاع المؤقت الذي شهدته سوق الطاقة خلال الأعوام الماضية، أي إن ما تحقق هو نجاح ظاهري لن يمكن موسكو من تجاوز أزماتها الداخلية البنيوية والاقتصادية والعسكرية.
ولكن، بعيدا عن حالة الجدل، يمكن القول إن روسيا الفيدرالية تمكنت بالفعل من إحراز نجاحات على الصعد كافة، داخليا وخارجيا، وهو ما يستوجب البحث عن الأسباب والعوامل الكامنة وراء هذه العودة الروسية، خاصة تلك المتعلقة بالداخل الروسي - دون إغفال دور العوامل الخارجية - وذلك انطلاقا من أن كثيرا من الدراسات أشارت إلى أن نجاح السياسة الخارجية الروسية شأنه شأن نجاح السياسة الخارجية لأي دولة، مرهون بمجموعة من العوامل الداخلية تشكلت خلال مرحلة ما بعد التفكك، تمثلت في عوامل القوة الثابتة الممثلة في الاقتصاد والقوة العسكرية والديموغرافية، إضافة إلى القوة الرابعة والتي يطلق عليها «غازي هارت» قوة المبادئ والمتجسدة في النظام القيمي.
وعليه، يستعرض هذا التقرير المحددات أو العوامل الداخلية التي أسهمت في عودة روسيا إلى الساحة الإقليمية والدولية والبحث في مدى استمراريتها في تعزيز هذه العودة، حيث تعلق بعضها بشخص الرئيس «فلاديمير بوتين»، وبعضها الآخر بموارد الدولة وثرواتها، وبعضها الثالث بقدراتها العسكرية، وبعضها الرابع بدور مؤسسات خارج الإطار التقليدي لصنع القرار، ومنها شركات النفط والغاز، والكنيسة الأرثوذكسية الروسية، وهو ما يتم تناوله من خلال عدة محاور على النحو التالي:
أولاً: فلاديمير بوتين وعودة الدولة الروسية
تباينت الرؤى والمدارس السياسية في تحليل دور القائد في السياسة الخارجية للدولة، ففي حين يرى أنصار المدرسة الواقعية أن شخصيات القادة لا تلعب دورا مهما في سياسات دولهم، فالسياسة الخارجية هي التعبير الواضح عن المصالح القومية، وهو ما يعني أن الإطار الذي يمكن للقائد التحرك من خلاله يكون قد تحدد إلى حد كبير بطريقة لا تتيح له التأثير في الموقف أو التحكم في بلورته. على الجانب الآخر يرى أنصار المدرسة السلوكية أن التاريخ لا يمكن أن يسير بغير الفرد بل لا معنى للتاريخ من دونه، وأن شخصية القائد السياسي وتصوراته ودوافعه وإدراكاته ومعتقداته تلعب دورا رئيسيا في بناء الموقف وبلورته.
وبين هذين التيارين الفكريين، برز تيار فكري يمكن أن نطلق عليه تيار الوسط، وهو الذي يرى أنه إذا كان الفرد فاعلا في التاريخ ويصنع الظروف، فإن الظروف هي الأخرى تصنع هذا الفرد أيضا، بمعنى أن الرجل المناسب في الظرف المناسب يستطيع أن يقرأ الظروف ويستفيد منها في حركته وبناء مشروعه السياسي.
وبعيدا عن هذا الجدل الأكاديمي، يمكن القول إن التيار الوسطي هو الأكثر تفسيرا لدور «فلاديمير بوتين» في إعادة بناء دولته، إذ إنه لا يمكن إغفال الدور الذي لعبه (جدول مرفق يوضح أبرز المحطات في حياته) في استعادة الدولة الروسية لمكانتها الإقليمية والدولية، حيث نجح في توظيف الظروف والأوضاع الداخلية والإقليمية والدولية لبناء مشروعه الذي حدده عقب وصوله إلى الحكم في أبريل 2000، والمتمثل في البحث عن كيفية استعادة بلاده لمكانتها كقوة عظمى، وكإحدى تلك الدول القليلة التي تفرض هيكلية ومسارات السياسة الدولية، بل سعى إلى جعل موسكو عاصمة لا يمكن إغفال دورها في حل أي مشكلة دولية.
محطات في حياة الرئيس فلاديمير بوتين
العام | البيان |
1975 - 1990 | عميل سري لجهاز الاستخبارات السوفياتية (كي جي بي) |
1990 - 1991 | سقوط الاتحاد السوفياتي |
1996 - 1998 | عمل لدى الكرملين |
1998 | رئيسا لجهاز الاستخبارات الروسية (إف إس بس) |
1999 | رئيسا للوزراء في عهد الرئيس بوريس يلتسن |
2000 | انتخب رئيسا للجمهورية لمدة أربع سنوات |
2004 | أعيد انتخابه رئيسا للجمهورية لمدة أربع سنوات |
2008 | رئيسا للوزراء في عهد الرئيس ديمتري ميدفيديف |
2012 | أعيد انتخابه رئيسا للجمهورية لمدة ست سنوات (عقب تعديل الدستور) |
2018 | أعيد انتخابه رئيسا للجمهورية لمدة ست سنوات |
ثانياً القوة الاقتصادية للدولة الروسية ودور شركات النفط والغاز
ليست مبالغة القول إن رؤية الرئيس فلاديمير بوتين نحو تمكين سلطة الدولة على المؤسسات الاقتصادية الرئيسية في الدولة وخاصة تلك العاملة في مجالات النفط والغاز، كانت نقطة الانطلاق الأولى لاستعادة الاقتصاد الروسي نموه وتطوره، حيث جذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية التي استفادت من الإصلاحات الاقتصادية والضريبية، والتي أدت بدورها إلى خلق الكثير من القطاعات الصناعية الجديدة أسهمت في نمو الناتج المحلي الإجمالي وذلك حتى عام 2008 مع بدء دخول روسيا في أزمات إقليمية أدت إلى توتر العلاقات الروسية مع الغرب بدءا من الأزمة الجورجية وصولا إلى الأزمة الأوكرانية وما صاحبهما من فرض عقوبات على الاقتصاد الروسي كان لها أثر سلبي على القدرات الاقتصادية الروسية. ولكن، رغم ذلك تمكنت روسيا من تجاوز هذه الصعوبات عبر العمل على ثلاثة مسارات:
- الأول، تعظيم الاستفادة من قدراتها النفطية والذي تمثل نحو 60 في المائة من صادراتها، فرغم تراجع أسعار النفط عالميا، إلا أن روسيا تمكنت من إبرام المزيد من الاتفاقات لزيادة حجم صادراتها النفطية، كان أبرزها الاتفاق بشأن تصدير النفط الروسي إلى الصين عبر خطين (خط أنابيب شرق سيبيريا - المحيط الهادي «سكوفورودينو - موهي» بدءا من عام 2011. والثاني خط أنابيب النفط الروسي - الصيني «موهي – داتشينغ»، بدءا من يناير/ كانون الثاني 2018)، فضلا عن الاتفاق الروسي السعودي الخاص بتحديد حجم الإنتاج والموقع عام 2016 وقد تم تجديده مؤخرا، حيث يهدف الاتفاق إلى تقليل الإنتاج النفطي بشكل جماعي، من أجل إعطاء دفعة لأسعار النفط العالمية. هذا بالإضافة إلى سعي موسكو للهيمنة على أسواق الطاقة العالمية، فكان تواجدها المباشر في منطقة الشرق الأوسط وشرق المتوسط عبر تعزيز دور شركاتها العاملة في مجالي النفط والغاز، فعلى سبيل المثال تم نقل ميناءي طرابلس (لبنان) وطرطوس (سوريا) إلى إدارة شركتي «روس نفط» و«ستوري ترانس غاز»، فضلا استثمارات روسية إضافية في صناعة النفط والغاز العراقية (نحو 40 مليار دولار بحلول العام 2025).
- الثاني، فتح مسارات تعاونية مع مناطق جديدة وفي مقدمتها القارة الأفريقية، حيث شهد العام الحالي (2019) تنظيم أول قمة روسية أفريقية في العاصمة الروسية في أكتوبر (تشرين الأول) 2019 وكان من أهم مخرجاتها تدشين المنتدى الاقتصادي الروسي الأفريقي كمنصة للحوار المباشر بين الطرفين، فضلا عن توقيع أكثر من 30 عقداً ومذكرة تعاون مع دول القارة الأفريقية.
- الثالث، توقيع صفقات تعاونية بالروبل الروسي وعملات وطنية أخرى، مثال ذلك ما أعلنته شركة «ألروسا» الروسية، أكبر منتج للألماس عالمياً، عن إنجازها أول صفقة خارجية بالروبل الروسي، وهي صفقة بيع أحجار ألماس بأحجام كبيرة تزيد على 10 قراريط لشركة صينية.
ولكن رغم كل هذه الجهود الروسية إلا أن ثمة صعوبات كثيرة تواجهها روسيا في ظل سعيها للخروج من أزمتها الاقتصادية بصورة نهائية، ليمكنها ذلك من استكمال توسعاتها الدولية والإقليمية، وهو ما يتطلب أن تعيد روسيا النظر في بعض ملفات سياستها الخارجية التي تلقي بأعبائها على اقتصادها الوطني، يدلل على ذلك ما نشرته وكالة الإحصاء الفيدرالية الروسية (روستات) في بياناتها الأولية لمؤشرات الربع الأول من العام الحالي (2019)؛ إذ ذكرت أن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي كان خلال الفترة المُشار إليها عند معدل 0.5 في المائة، أي أدنى من توقعات وزارة التنمية الاقتصادية الروسية، التي توقعت في أبريل من العام الماضي نمواً بمعدل 0.8 في المائة.
ثالثاً: القدرات العسكرية والنووية محور مهم في سياسة روسيا الخارجية
لم يغب عن صانع القرار الروسي أن ثمة علاقة ارتباطية قوية بين انتهاجه لسياسة خارجية ناجحة وبناء قدراته العسكرية، وهو ما برز في كلمة الرئيس «فلاديمير بوتين» خلال احتفاله بعيد حماة الوطن في فبراير (شباط) 2019. حينما ذكر: «نحن نتبع سياسة خارجية مسؤولة، ونهدف لتعزيز الاستقرار الدولي، وسنستمر مستقبلا بتعزيز قدراتنا الدفاعية، وتنمية وتطوير القوات المسلحة».
ومن هذا المنطلق، بنت روسيا استراتيجيتها العسكرية على ثلاثة مرتكزات رئيسية: الطابع العقائدي الدفاعي، بمعنى تجنب الحرب إلا في الحالات التي تهدد الأمن القومي الروسي ومصالحها الحيوية، والحفاظ على الردع ببعديه الاستراتيجي والتقليدي، ومواجهة التهديدات الأمنية المتصاعدة.
وفي ضوء ذلك، حرصت روسيا على التطوير المستمر لقدراتها العسكرية ليصبح الجيش الروسي ثاني أقوى جيش في العالم، وإن احتل المرتبة الأولى كأضخم قوة دبابات في العالم، إضافة إلى امتلاكه 7 آلاف قنبلة نووية و4 آلاف طائرة حربية. وذلك وفقا لتقديرات موقع غلوبال فير بور الأميركي الصادر عام 2018.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل شهد العام الجاري (2019) سعيا روسيا لتحديث بنيتها التحتية وقدراتها العسكرية خاصة في المناطق الحدودية، منها على سبيل المثال:
1- تزويد بعض قطعاتها العسكرية بمنظومات صاروخية متطورة عرفت بـ«بوك-إم3»، وهي منظومة تم تطويرها فيما كان يعرف بمنظومات «بوك»، حيث زُودت بـ6 صواريخ مضادة للأهداف الجوية بدلا من 4 صواريخ، لتصل قدراتها في إصابة أهدافها إلى ارتفاعات تبدأ من 300 متر وتصل حتى 10 كلم. وفي السياق ذاته، كشفت شركة «ألماس–أنتاي» العسكرية الروسية في معرض «دبي-2019» الدولي للطيران لأول مرة عن مجسم لرادار «سولا» القادر على اكتشاف الأقمار الصناعية وغيرها من الأهداف الفضائية المحلقة في مدار الأرض، فضلا عن عدد من المنظومات الصاروخيةالأخرى، منها: منظومة «أنتاي–2500» للصواريخ المضادة للجو، منظومة «فيكينغ» متوسطة المدى للصواريخ المضادة للجو، منظومات صواريخ الدفاع الجوي قصيرة المدى مثل «تور–إم2-إي»، و«تور-إم2- كا»، و«تور-إم2-كا-إم»، فضلا عن المنصات البحرية لتلك المنظومات.
2- إيلاء مزيد من الاهتمام بمنطقة القطب الشمالي، إذ أعاد الرئيس «فلاديمير بوتين» في فبراير 2019 تسمية وزارة تطوير الحدود الروسية لتصبح «وزارة تطوير الحدود الروسية والقطب الشمالي»، مع وضع قواعد لمرور السفن الحربية الأجنبية على طريق البحر الشمالي (NSR)، تركز أبرزها في أنه يتعين على السفن العسكرية الأجنبية إبلاغ روسيا بخطتها المسبقة في المرور بـ45 يوماً وأن يكون هناك قادة سفن روسية على متنها. وذلك كله ضمن إطار تطوير البنية التحتية للقطب الشمالي من أجل ضمان أمن روسيا حتى عام 2020، في مواجهة التهديدات والتحديات المرتبطة بالتنافس على السيطرة على منطقة القطب الشمالي.
رابعاً: الكنيسة الروسية... حضور ثقافي وروحي للدولة الروسية
من غير المبالغة القول إن النظرة الشاملة لمحددات السياسة الخارجية الروسية في عهد الرئيس بوتين تجعل من الأهمية بمكان قراءة الوثائق المحددة لتوجهات تلك السياسة، حيث تتضمن هذه الوثائق تشخيصاً للواقع الدولي وتحديدا للمبادئ والاتجاهات الرئيسية للسياسة الروسية وأولوياتها سواء من حيث القضايا أو المناطق ذات الاهتمام.
وفي ضوء تلك القراءة، حظي البعد الديني والثقافي بأهمية أولية في ملفات السياسة الخارجية الروسية، إذ اتضح أنه منذ تولى الرئيس بوتين، تلاقت الرؤى والأفكار بين الدولة والكنيسة، وهو ما تجلى بشكل واضح فيما أصدرته الكنيسة عام 2000 من وثيقة تأسيسية بعنوان «أسس المفهوم الاجتماعي» تضمنت رؤية وتوجهات علاقتها باتباعها وكذلك علاقتها بالدولة، إذ أكدت خلالها على أن علاقتها مع الدولة تتسم بالانسجام قوامها التعاون وتقاسم الاختصاصات والدعم المتبادل مع عدم تدخل أي منهما في شؤون الآخر، وأن هذا التعاون لا يقتصر على الداخل فحسب، بل على الصعيد الدولي من خلال المعاونة في صنع السلام وتعزيز التفاهم والتعاون بين الدول والشعوب.
ولم يختلف الأمر كثيرا فيما ورد في الوثيقتين اللتين أصدرتهما موسكو لتشكيل توجهات سياستها الخارجية، ويقصد بهما على وجه التحديد الوثيقتان الصادرتان عامي (2008-2013)، حيث برز كذلك حضور متنام للعامل الثقافي والديني في تشكيل توجهات السياسة الروسية وتحديد أولوياتها. أخذا في الحسبان أن هذا الأمر ليس بالجديد، إذ يكشف التاريخ عن توافق بين الحكومة والكنيسة الروسيتين بشأن الحفاظ على وحدة ورخاء المجتمع الأُرثوذكسي العالمي، حيث ترى الكنيسة الروسية أن أي نوع من المساعدات للمسيحيين المضطهدين حول العالم أمرا إيجابيا، وهو ما يُحمّل روسيا مهمة تاريخية في حماية المسيحيين الأرثوذكس، خاصة في ظل تبعية هذه الكنائس للكنيسة الروسية التي تعد أكبر كنيسة أرثوذكسية شرقية مستقلة، إذ يزيد عدد أتباعها على 150 مليون شخص. كما تتبعها عدة كنائس أرثوذكسية خارج روسيا.
ولكن ما حدث مؤخرا في انفصال الكنيسة الأوكرانية الأرثوذكسية عن الكنيسة الروسية بعد 332 سنة من الوصاية الدينية عليها، مثّل عاملا إضافيا في تراجع الدور الروسي في أوكرانيا، إذ إنه بلا شك ستشهد الروابط التاريخية التي جمعت الشعبين تراجعا بسبب التأثيرات الاجتماعية والثقافية الكبرى التي سيتركها انشقاق الكنيسة، بل مما زاد الأمر صعوبة هو دعم واعتراف بطريركية القسطنطينية بالكنيسة الجديدة، الأمر الذي أثر بدوره على العلاقات بين الكنيستين (الروسية والقسطنطينية) والتي اعتبرتها كنيسة موسكو كنيسة منشقة.
وبعيدا عن هذا الانشقاق وتداعياته، يظل للكنيسة الأرثوذكسية الروسية ورئيسها البطريرك «كيريل» (2009 - حتى الآن) دوراً مهماً في دعم سياسات الكرملين، حيث كان للكنيسة دور أساسي في تشكيل روسيا دولة وهوية، متعاونة في ذلك مع السلطة السياسية، مما ساهم في إضفاء الشرعية على هذه السلطة في نظر المجتمع الروسي، وقد تجلى ذلك بشكل واضح في نشر الكنيسة لفكرة «العالم الروسي أو البلد الروسي العالمي Russian World Country، والذي يعني أن أي دولة تتحدث اللغة الروسية كلغة دولية، وتعزز الثقافة الروسية، وتحافظ على الذاكرة التاريخية العامة، يمكنها أن تعتبر نفسها جزءاً لا يتجزأ من العالم الروسي، وفي سبيل ذلك أسست الحكومة الروسية صندوق «روسكي مير» لدعم اللغة والثقافة الروسية على مستوى عام، ووقع الصندوق اتفاقية تعاون مع الكنيسة عام 2009 لتقديم الدعم للمدارس المرتبطة بالكنيسة خارج روسيا.
وغني عن الذكر أن هذه الفكرة هي ذاتها التي تحدث عنها الرئيس «فلاديمير بوتين» في عبارة موجزة: «نحن لا نتخلى عن شعبنا» كأحد المبررات الداعمة لتدخله في الأزمة السورية. بل تجدر الإشارة إلى ما ذكره الرئيس «بوتين» بصدد ما تواجهه روسيا، في مجال الحرب ضد لغتها في المناطق التي كانت تستخدمها، حيث ذكر أن «الروسوفوبيا (الرهاب من روسيا)، والقوميين العدائيين، وبعض البلدان المعينة تشن حربا ممنهجة على اللغة الروسية»، معتبرا أن اللغة الروسية على حد وصفه «نوع من أنواع القوة الناعمة... وهذا كاف للغاية بالنسبة إلينا كما أعتقد».
وعليه تتضح المقاربة المتمركزة لدى الكنيسة والدولة في اعتبار اللغة أداة المحافظة على الرابط بين العالم الروسي، إذ يذكر أن اللغة الروسية تحتل المركز الثامن بين اللغات الأكثر استخداما في العالم؛ حيث يصل تعداد الناطقين باللغة الروسية إلى 258 مليون متحدث، مما يجعلها واحدة من اللغات القليلة التي يوجد الكثيرون ممن يتحدثون بها خارج الدولة الأصلية، حيث يبلغ تعداد روسيا الحالي نحو 145 مليون نسمة.
خلاصة القول إن تعددية المقومات أو المحددات الداخلية مكنت الدولة الروسية من استعادة دورها إقليميا ودوليا، وهي مقومات رغم أهميتها إلا أنها ليست ضمانات ثابتة أو أوراق مضمونة في يد الدولة الروسية ترتكن إلى عملها بشكل آلي، وإنما استمرار هذه المقومات في أداء دورها لتمكين الدولة الروسية من استمرار تواجدها في الساحة الدولية والإقليمية خاصة في ظل التحولات والتغيرات التي يشهدها العالم اليوم يظل مرهونا بأمرين:
الأول، ضرورة التمييز بين المحددات الثابتة والمتغيرة، فإذا كانت المقدرات الاقتصادية والبشرية (المساحة والموقع، والسكان، والموارد والثروات) معطى طبيعيا، فإن تعظيم الاستفادة منها يتطلب فهم دور المحددات المتغيرة في كيفية توظيف هذه المعطيات، إذ لعبت شخصية الرئيس «بوتين» الدور المحوري في استعادة بناء الدولة من خلال إعادة الاستفادة من هذه المقدرات. ومن ثم يصبح التساؤل الراهن: ما هو مستقبل روسيا ما بعد بوتين؟ وتزداد صعوبة الإجابة على هذا التساؤل في ظل عدم وجود مرشحين محتملين بدلا من الرئيس فلاديمير بوتين التي ستنتهي ولايته الأخيرة وفقا للدستور الروسي في عام 2024. ومن ثم، يطرح البعض مسارات يمكن أن يلجأ إليها بوتين، فإلى جانب السيناريو السابق في العودة إلى دور رئيس الوزراء للالتفاف على القيود الدستورية على الرئاسة كما حصل في عام 2008، فثمة تصور آخر يرى هيئة جماعية لتوجيه البلاد، على أن يبقى بوتين رئيسها على الدوام في نظام مماثل لجمهورية كازاخستان السوفياتية السابقة على غرار ما جرى مع تنحي الرئيس نور سلطان نزارباييف لكنه ظل يحتفظ بنفوذه في البلاد، ولكن إذا حدث هذا الأمر فإن بوتين سيكون بعيدا عن تسيير الشؤون اليومية لروسيا نظرا لتباين الدور العائلي في الحالتين.
الثاني، يتعلق بطبيعة التحولات الدولية والإقليمية، فإذا كان مفهوما أن الصعود الروسي الحالي وتمدده في بعض مساحات نفوذ وريثها القديم، توازى معه انسحاب أميركي طبقا للرؤية التي تبنتها سواء الإدارة الأميركية السابقة في عهد الرئيس «باراك أوباما» المطالبة بالانسحاب الأميركي التدريجي من مناطق صراعات كثيرة، أو رؤية الإدارة الراهنة في عهد الرئيس «دونالد ترامب» الذي يدير السياسة الأميركية وفقا لمنطق المكسب والخسارة. إلا أن التحولات العالمية القادمة التي تشهد الصعود الصيني المرتقب يربك الكثير من الحسابات الروسية من جوانب عدة، منها: إنها المرة الأولى التي سيكون فيها النظام الدولي ثلاثي القطبية وهو ما يعني أن الخبرات الروسية في إدارة ملفاتها دولياً تحتاج إلى فهم أعمق، فإذا كانت روسيا خبرت سابقا إدارة سياستها الخارجية في ظل نظام دولي متعدد الأقطاب أو ثنائي القطبية فالأمر بالنسبة للنظام القادم يحتاج إلى معالجات أكثر دقة في كيفية إدارة ملف علاقاتها مع الفاعلين الدوليين. إلى جانب ذلك، ثمة صعوبة سوف تواجه روسيا تتعلق بأن القطب الصاعد (الصين) يقع في جوارها الجغرافي وهو ما يزيد من احتمالات التصعيد بينهما خاصة في ظل خبرات الماضي في علاقاتهما، وكذلك في ضوء طبيعة الدور المرتقب لكل منهما إقليميا. ولعل الخبرة الماضية في العلاقات الروسية اليابانية في القرنين الماضيين تعطينا مثالا على ذلك حينما تتواجد الأقطاب الدولية في نطاق إقليمي واحد يشهد صراعا على النفوذ ربما يصل إلى حد خوض حروب. ولذا، فالأمر بدوره يحتاج إلى معالجات روسية أكثر دقة في كيفية إدارة ملف علاقاتها مع الصين في قادم الأيام.