* مع تفشى جائحة فيروس كورونا المستجد، وما شهده العالم اليوم من تحديات فاقت قدرات أكثر الدول تقدماً في مواجهة تداعياتها، إلا أنها مثلت حلقة جديدة في مسلسل التنافس الصيني الأميركي على قيادة النظام الدولي
* يستوجب هذا الوضع مقاربة مغايرة في النظر إلى القارة الأفريقية تعظيماً للفرص المتاحة وتقليلا أو مواجهة للتحديات الماثلة
* هل تنجح دول القارة في تحقيق تلك المعادلة المطلوبة بين تعظيم الاستفادة من الموارد والإمكانات ومواجهة التحديات والمشكلات، وصولا لتنمية شاملة تتحقق معها مقولة أفريقيا قارة المستقبل الاقتصادية؟
* إن التوجه نحو أفريقيا بديلا للصين كمصنع للعالم لا يعني أن الأمر سيتم بين ليلة وضحاها وإنما يحتاج إلى سياسات واستراتيجيات عديدة وتغييرات جذرية قد تستغرق سنوات سيكون عددها أقل بكثير من المتوقع
* المصير المشترك جعل البعض يعيد النظر في المنطلقات الصينية خاصة في ظل دعاية غربية هدفت إلى إفشال المسعى الصيني للصعود إلى قمة النظام الدولي
* الموارد الطبيعية والمعدنية ومصادر الطاقة، والقدرات البشرية، والتكنولوجيات المتقدمة، ورؤوس الأموال، والموقع الجغرافي، فضلا عن الثقة في المنتجات كبعد إضافي، يعزز من نجاح عملية التنمية في بعدها التسويقي
ليست مبالغة القول إن القارة الأفريقية هى قارة المستقبل الاقتصادية كما يتردد ذلك على الألسن خلال العقدين الماضيين، وهو ما جعل القارة منذ بدايات القرن الحادى والعشرين محط تسابق دولى وإقليمى على كسب مناطق نفوذ داخل أراضيها، سعيا لاستغلال مواردها وكنوزها الطائلة من الموارد الطبيعية والإمكانات الاقتصادية وكثافتها السكانية العالية. لكن رغم كل ما تملكه القارة من مقومات عديدة ومتنوعة أوجدت معها كثيرا من الفرص الاستثمارية إلا أنها في الوقت ذاته تواجه تحديات عدة ومتعددة قد تحول دون تعظيم الاستفادة من هذه الإمكانات خاصة فيما يتعلق بمردوداتها على مستويات معيشة شعوبها.
ومع تفشى جائحة فيروس كورونا المستجد، وما شهده العالم اليوم من تحديات فاقت قدرات أكثر الدول تقدما في مواجهة تداعياتها، وكذلك في ضوء حالة الصراع الدولى بين الولايات المتحدة وحلفائها من جانب والصين من جانب آخر حول المسؤولية الدولية عن انتشار هذا الفيروس، تلك المسؤولية التي من الصعب في المرحلة الحالية تحديد أبعادها أو حسم جدلها، إلا أنها مثلت حلقة جديدة في مسلسل التنافس الصيني الأميركي على قيادة النظام الدولي.
وإذا كان صحيحا أن الجائحة لم تترك القارة الأفريقية بعيداً عن تأثيراتها وتداعياتها إلا أنها تظل الأقل وطأة في تفشي المرض مقارنة بما جرى في القارة العجوز (أوروبا) أو في الولايات المتحدة أو حتى روسيا التي دخلت على الخط مؤخرًا بارتفاع حالات الإصابة وإن ظلت في مستوى منخفض بالنسبة لحالات الوفيات، إلا أنه من الصحيح أيضاً أن ما أصاب الصين من تداعيات سلبية ليس فقط على المستوى الاقتصادي والاجتماعي وإنما على مستوى السمعة الدولية التي بذلت الصين جهودا مضنية في تحقيقها خلال الأعوام الماضية، فقد كان من تأثيرات هذا الفيروس أن أصاب جزءاً من الصورة الذهنية الإيجابية التي حاولت الصين رسمها خلال الفترة الماضية ضمن مبادرتها العالمية «الحزام والطريق»،والتى حاولت من خلالها حمل شعارات تنموية من قبيل مجتمع المصير المشترك.
ولكن هذا المصير المشترك جعل البعض يعيد النظر في المنطلقات الصينية خاصة في ظل دعاية غربية هدفت إلى إفشال المسعى الصيني للصعود إلى قمة النظام الدولي، فقد أسهمت هذه الجائحة - بغض النظر عن المسؤولية الدولية التي تحاول الولايات المتحدة إلصاقها ببكين- في تراجع ما حققته الصين من إنجازات على مدار العقود الماضية، ليبرز خطاب غربي جديد يرى أن أفريقيا قد تكون البديل عن الصين كمصنع للعالم، بحجة أن ما حققته الصين لم يكن إلا بفضل التقدم الغربي الذي استغلته الصين كما برز ذلك في الاتهامات المستمرة حول سرقة الصين لحقوق الملكية الفكرية لكثير من التكنولوجيات الغربية.

وتنطلق هذه الرؤية الغربية من منطق اقتصادي يرى أن تحقيق التنمية يتطلب توافر معادلة من ستة عناصر رئيسة، هي:
الموارد الطبيعية والمعدنية ومصادر الطاقة، والقدرات البشرية، والتكنولوجيات المتقدمة، ورؤوس الأموال، والموقع الجغرافي، فضلا عن الثقة في المنتجات كبعد إضافي، يعزز من نجاح عملية التنمية في بعدها التسويقي.
وإنه بتطبيق هذه المعادلة سداسية العناصر على الحالة الصينية، يتضح أن ما تملكه الصين يكاد يكون عنصرا واحدا من هذه العناصر هو العنصر البشري المتمثل في قوة بشرية تقدر 1.4 مليار نسمة، في حين أن مستويات امتلاكها من العناصر الأخرى وإن كانت كبيرة نسبيا إلا أنها لا تقارن بما لدى الغرب أو مناطق أخرى في العالم. ومن ثم، ترى هذه الرؤية أن ما حققته الصين لم يكن ليتحقق إلا بفضل جاذبيتها للعناصر الأخرى التي جاءت إليها مستغلة العنصر البشري الذي كان محل اهتمام كبير من قادة الصين لتطوير قدراته وتنمية مهاراته، بما يمكن معه القول إن النجاح الصيني تركز في الأساس في التنمية البشرية، إدراكا منها بأن الإنسان هو أداة التنمية وهدفها معاً، مستفيدة في ذلك من التجربة اليابانية والكورية الجنوبية وإن اختلفت ظروف كل منهما. في حين لا تملك الصين الموارد والإمكانات الطبيعية والمعدنية ومصادر الطاقة التي تمكنها من الاعتماد على الذات، كما أنها وإن كانت بلدا صناعيا وتقنيا، ولكنها ليست بلداً مبتكراً، وتحتاج ربما إلى عقود من الزمن لتصل إلى مرحلة الابتكار المتفوق على الغرب، فضلا عن ذلك أن الثقة في المنتج الصيني لا تزال محل شك مقارنة بالمنتجات الغربية أو حتى الآسيوية (اليابان وكوريا الجنوبية نموذجا).
إجمالا، يمكن القول إن التقدم الصيني رغم المجهود المبذول إلا أنه اعتمد بصورة كلية على التكنولوجيات الغربية، وعلى الموارد والإمكانات الموجودة في المناطق الغنية بها (الخليج وآسيا الوسطى وأفريقيا) وكذلك على الاستثمارات الأجنبية التي أقامت المصانع والمؤسسات الإنتاجية وساهمت في فتح الأسواق الخارجية، وهو الأمر الذي إذا ما قورن بما تملكه القارة الأفريقية نجد أن القارة إذا ما أصبحت مصنعا للعالم تتمتع بمزايا تنافسية مقارنة بالصين، حيث تتوافر الموارد والإمكانات، والموقع الجغرافي في قلب العالم بما أكسبها مزايا جيواستراتيجية، فضلا عن الكثافة السكانية وإن كان معظمها يفتقر إلى التعليم والتدريب، بما يجعل من الرؤية المنادية بالتوجه إلى القارة الأفريقية أقرب إلى تحقيق مصالحها التي تتفق في ذات الوقت مع المصالح الوطنية لدول القارة، بل ما قد يعزز هذه الرؤية هو التوجه الصيني ذاته إلى القارة الأفريقية وتأسيس كثير من المصانع والشركات، إذ ارتفع حجم الاستثمارات الصينية من 5 مليارات دولار عام 2006 إلى 40 مليار دولار في عام 2015. وفي القمة الصينية الأفريقية المنعقدة في سبتمبر (أيلول) 2018 في بكين، أعلن الرئيس الصيني عن حزمة تمويل جديدة بقيمة 60 مليار دولار، 50 مليار دولار من مؤسسات التنمية الصينية، و10 مليارات دولار أخرى في الاستثمار من الشركات الخاصة.
ومن نافلة القول إن الرؤية المنادية بالتوجه إلى القارة الأفريقية بديلا للصين كمصنع للعالم تأتي في إطار ما تشهده الساحة العالمية اليوم من صراع بين قطب يحاول الاحتفاظ بانفرادية قيادته عالميا بالتعاون مع حلفائه، وبين أقطاب أخرى تسعى لأن تغير من طبيعة النظام الدولي ليصبح نظاما تعدديا، ويقصد بها تحديدا الصين في صعودها وروسيا في عودتها. ولذا، تنطلق الاستراتيجية الغربية من ضرورة الحد من هذا الصعود أو العودة، إذ إنه قد سبق هذه الجائحة خوض الولايات المتحدة حربا تجارية ضد الصين في محاولة لعرقلة استمرار معدلات نموها التي قد تمكنها مع حلول المئوية على تأسيسها وتحديدا عام 2049 من أن تصبح قطبا اقتصاديا عالميا والذى سيتحول بلا شك إلى قطب سياسي وعسكري خاصة في ظل التوجهات العسكرية الصينية التي بدأت في بناء قواعد عسكرية خارج حدودها كما حدث في جيبوتي 2017 وفي بعض مناطق جوارها الجغرافي، الأمر الذي يكشف عن نية صينية حقيقية لأن تتبوأ مكانة دولية تتناسب مع قدراتها الاقتصادية والعسكرية وبالتبعية السياسية كعضو دائم العضوية في مجلس الأمن ولديها حق الفيتو، وهو ما تعارضه الولايات المتحدة وحلفاؤها في الغرب.

عودة على ذي بدأ فيما يتعلق بالمعادلة سداسية العناصر التي يستند إليها الغرب في تحويل الرؤية من الصين إلى القارة الأفريقية كمصنع للعالم، تبرز المقومات التي تملكها القارة مقارنة بما لدى الصين، وهو ما يمكن أن نرصده في عدة عناصر على النحو الآتي:
- القارة الأفريقية مخزن العالم من الموارد الطبيعية والتعدينية. تعد القارة الأفريقية أغنى تجمع للموارد الطبيعية مثل النفط والنحاس والماس والبوكسيت والليثيوم والذهب وغابات الأخشاب الصلبة والفواكه الاستوائية. وتشير التقديرات إلى أن30 في المائة من الموارد المعدنية المستخرجة من الأرض موجودة في القارة الأفريقية. كما تمتلك القارة أكبر احتياطيات للمعادن الثمينة في العالم، حيث يوجد بها على سبيل المثال نحو 40 في المائة من الذهب، وحوالى 90 في المائة من البلاتين والكروم، إضافة إلى أنها تضم 20 في المائة من احتياطي الماس، إضافة إلى اليورانيوم الذي يُعتبر طاقة بديلة عن النفط أي الطاقة النووية. كما أن ثلثي مجموع الأراضي الزراعية غير المستغلة في العالم توجد في أفريقيا، إذ إن نحو 60 في المائة من أراضيها صالحة للزراعة ومعظمها غير مستغل، وفقاً لتقرير البنك الأفريقي للتنمية، فعلى سبيل المثال يوجد 80 مليون هكتار من هذه الأراضي في جمهورية الكونغو الديمقراطية وحدها تكفي لإطعام ملياري شخص في العالم.
- القارة الأفريقية مخزن مهم للاحتياطيات العالمية من النفط، حيث تحوز القارة 12 في المائة من احتياطيات النفط في العالم، وهناك 30 بلداً من بلدانها تصنّف ضمن الدول المنتجة للمواد الهيدروكربونية، وبطبيعة الحال تأتي نيجيريا والجزائر وليبيا في مقدمة هذه الدول، كما أنّ هناك اكتشافات من احتياطات النفط في عدد من دول ومناطق القارة خاصة في الشرق.
- القارة الأفريقية هي ثاني أكبر قارة مساحة وسكانا، حيث تعدّ أفريقيا من أقدم القارات، وتتكوّن من 54 دولة، ويتمّ تقسيمها إلى الشمال والشرق والوسط والغرب والجنوب، غير أنها أيضاً تقسّم إلى الشمال وجنوب الصحراء الكبرى، حيث تقع معظم بلدان القارة 47 دولة تقريباً، بينما يضم الشمال 7 دول تفصل بينها الصحراء الكبرى. وهي ثاني أكبر قارة في العالم من حيث المساحة والسكان بعد قارة آسيا وتبلغ مساحتها 30.2 مليون كلم مربع، حيث تغطي حوالي 6 في المائة من إجمالي مساحة سطح الأرض. بينما يبلغ عدد سكانها وفقا لتقديرات عام 2018 حوالي 1.3 مليار نسمة بما يمثل 16.8 في المائة من إجمالي عدد سكان العالم البالغ 7.6 مليار نسمة. ومن المتوقع نمو سكان القارة بشكل ملحوظ، حيث يتضاعف في 2050، ليصل إلى 2.4 مليار نسمة، وبحسب تقديرات الأمم المتحدة لسكان العالم في القرن القادم، فإنّ عدد سكان أفريقيا، خصوصاً جنوب الصحراء، سيتساوى مع نظيره الآسيوي وذلك بحلول عام 2100، وبتعداد يقدر بـ 4 مليارات لكلّ منهما.
- الموقع الجغرافي المتميز للقارة، حيث تقع القارة في وسط الكرة الأرضية، ويمر بها خط الاستواء، ليشطرها إلى شطرين متساويين تقريباً، وتحيط بها البحار والمحيطات من جميع الجوانب، ففي الغرب يقع المحيط الأطلسي، وفي الشرق يوجد المحيط الهندي, وبحر العرب, والبحر الأحمر, وقناة السويس، وفي الشمال تترامى أمواج البحر الأبيض فاصلاً القارة عن أوروبا، أما في الجنوب فيلتقي المحيطان الهندي والأطلسي على صخور رأس الرجاء الصالح. الأمر الذي يكسبها كثيرا من المزايا بالنسبة للتجارة العالمية سواء من حيث قربها لكافة مناطق العالم أو من حيث سهولة النقل بوقوعها على مختلف الممرات البحرية العالمية بما يجعل من الاستثمارات البحرية مفتاحا جديدا للتنمية.
- القارة الأفريقية تضم كثيرا من أسرع الاقتصادات نمواً في العالم، إذ إنه وفقا لتقديرات بنك التنمية الأفريقي الواردة في تقريره حول التوقعات الاقتصادية لدول القارة الأفريقية لعام 2020، أشار إلى أن الاقتصادات الأفريقية تنمو بشكل جيد، أعلى من المتوسط العالمي، وأن التوقعات الاقتصادية تُظهر أن النمو من المتوقع أن يرتفع من 3.4 في المائة في عام 2019. إلى 3.9 في المائة خلال عام 2020، إلى أن يصل لنحو 4.1 في المائة في العام 2021... وفي السياق ذاته كشف تقرير صادر عن مجلس الوزراء المصري عن ارتفاع حجم الصادرات الأفريقية بنسبة 16.4 في المائة، حيث وصل إلى 413.8 مليار دولار عام 2017، مقارنة بـ 355.4 مليار دولار عام 2016، كذلك انخفاض عجز الميزان التجاري الأفريقي بنسبة 14.5 في المائة، حيث بلغ 120.4 مليار دولار عام 2017، مقارنة بـ 140.9 مليار دولار عام 2016، فضلاً عن انخفاض عجز ميزان المدفوعات في أفريقيا بنسبة 34.7 في المائة، حيث بلغ 78.8 مليار دولار عام 2017، مقارنة بـ120.7 مليار دولار عام 2016.
- القارة الأفريقية سوق استهلاكية واعدة، لا شك أن عدد سكان القارة يمثل سوقا مهمة لمختلف المنتجات، وإن كان من المتوقع زيادة حجم استهلاكه مع زيادة عدد سكانها وفقا للتقديرات الدولية، وما يلفت الانتباه أيضا أن السوق الأفريقية ليست سوقا للسلع الرديئة أو منخفضة الجودة كما كان سابقا، بل تشهد غالبية الدول الأفريقية تغيرا في نمطها الاستهلاكي مع تحسن ظروف المعيشة وارتفاع مستويات الدخول في هذه البلدان، إذ إن ثمة تزايداً ملحوظا في عدد الأسر الأفريقية التي تتمتع بدخل يوفر لها نوعاً من الرفاهية، ومن المتوقع، بحسب دراسة لشركة «ماكيزي»العالمية للدراسات الاقتصادية، أن يرتفع عدد هذه الأسر من 85 مليونا إلى 130 مليونا عام 2020، وهو ما يجعل القارة سوقا استهلاكية جاذبة لمختلف القطاعات الإنتاجية.

ولكن، رغم كل هذه الثروات والموارد والمقومات التي تؤهلها إلى أن تصبح قارة المستقبل الاقتصادية، إلّا أنّ اسمها اقترن بالفقر والتخلف وذلك نتيجة لعدم استغلالها هذه الثروات، إذ إنّ ثمة معوقات كانت تقف في وجه تحقيق التنمية في القارة مثل الفساد الإداري، وانخفاض مستوى التعليم، وخدمة الديون الخارجية، بالإضافة إلى الآثار السلبية التي تركها الاستعمار، والتي أعاقت بدورها التنمية كانتشار الحروب الإثنية، والتبعية الاقتصادية، مما حرم القارة من الاستقرار السياسي والاقتصادي، وقد وصل الأمر إلى حدّ وصفها بأنّها «قارة بلا أمل»في عنوان وضعته مجلة «ذي إيكونوميست»البريطانية على غلاف أحد أعدادها، قبل عشر سنوات.
وإذا كان صحيحًا أن هذه النظرة قد تحولت جذريا خلال السنوات القليلة الماضية، لتصبح القارة محط أنظار الجميع حيث اعادت المجلة «ذي إيكونوميست»ذاتها وعنونت أحد أعدادها عام 2011 بـ«أفريقيا الواعدة»، إلا أن ثمة معوقات لا تزال تحول دون تقدم القارة والاستفادة من قدراتها وامكاناتها بما يعود على العالم بأسره ومن قبل على مواطنيها بالرفاهية والرخاء، خاصة في ظل تمتعها بالمقومات الرئيسية لنجاح عملية التنمية، ويمكن أن نوجز هذه المعوقات التنموية فيما يأتي:
- غياب الكفاءات البشرية، نظرا لتراجع مستويات التعليم وربما غيابها في كثير من الأحيان، وهو ما جعلها ساحة لتنافس الجميع على استغلال مواردها بذريعة أن سكانها غير قادرين على استغلال ثرواتهم.
- الحروب والصراعات في بعض الدول الأفريقية، والناتجة إما عن إشكاليات الحدود بين هذه الدول رغم وجود توافق رسمي على مستوى الدول الأفريقية باحترام الحدود الموروثة من عهد الاستعمار، وإما ناتجة عن التباينات العرقية واللغوية والدينية والقبلية والتى فشلت الحكومات الأفريقية في تجاوزها وعلاج تداعياتها مما أفرز خريطة من الصراعات تعرقل كل جهود التنمية.
- انتشار الأمراض وتفشي الأوبئة، فعلى سبيل المثال قدرت الأمم المتحدة أن عدد الوفيات جراء الإيدز قد يتضاعف في أفريقيا جنوب الصحراء إذا أعاق وباء كورونا المتحور حصول المرضى على العلاج. وأوضحت منظمة الصحة العالمية وبرنامج الأمم المتحدة المشترك للإيدز (يو إن إيدز) أنه في حال تمت عرقلة حصول المصابين بالإيدز على العلاج المضاد للفيروسات الرجعية لمدة 6 أشهر، فقد يؤدي ذلك إلى أكثر من 500 ألف وفاة إضافية في المنطقة خلال عام بين 2020 و2021، ستضاف إلى 470 ألف وفاة أحصيت عام 2018. وعليه تمثل جائحة كورونا رغم أنها لم تنتشر في القارة بالصورة المتوقعة على غرار مناطق أخرى في العالم، إلا أنه من المتوقع أن تترك تأثيراتها على دول القارة، فوفقا لتقديرات البنك الدولي، توشك منطقة جنوب صحراء أفريقيا على الدخول في ركود للمرة الأولى منذ 25 عاما نتيجة انخفاض الطلب من الدول المتقدمة على المواد الخام مثل النفط والمعادن الثمينة. وبحسب تقرير مجلة «الإندبندنت»الأوغندية، فإنه بعد نمو بنسبة 2.4 في المائة في العام الماضي، فإن التقديرات لعام 2020 تتراوح بين -2.1 و-5.1 في المائة مع انكماش الاقتصاد بالمنطقة المذكورة.

وفي ضوء ما سبق، واتساقا مع الرؤية التي ترى أن القارة الأفريقية هي قارة المستقبل اقتصاديا بما تملكه من مقومات وعوامل للنجاح، ثمة جملة من السياسات واجب اتخاذها لمواجهة هذه العراقيل والمعوقات، من أبرزها ما يأتي:
- النهوض بالتعليم وتنمية القدرات البشرية، إذ إن التحدي الأكبر الذي ستواجهه دول القارة هو عدم قدرة شبابها على خوض غمار التنمية بقدرات محدودة وخبرات ضعيفة، في حين أن العالم كله يتجه نحو الثورة الصناعية الرابعة والتي تتمثل في الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، والتعلم الآلي، والحوسبة، الأمر الذي يفرض على دول القارة أن تستثمر أكثر في إعادة توجيه القوى العاملة لديها وخاصة الشباب للمشاركة بفعالية، من خلال إعدادهم ليكونوا مستعدين ومؤهلين لشغل وظائف تتناسب مع متطلبات العمل، لا سيما التدريب في مجال العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات وذلك على حد وصف «أكينومي أديسينا»رئيس مجموعة بنك التنمية الأفريقي. وعليه، فالتقدم التكنولوجى هو حجر الزاوية لمساعدة البلدان الأفريقية على اللحاق بأقرانها الأكثر تقدما، فعلى سبيل المثال يذكر أنه وفقا لتقديرات البنك الدولى يحصل 37 في المائة فقط من سكان أفريقيا جنوب الصحراء على الكهرباء، مما يترك نحو 600 مليون نسمة يعيشون في الظلام. ومع ذلك، فإنَّ 73 مليون أسرة معظمها في البلدان الأفريقية تمكنت من الوصول إلى الطاقة الشمسية خارج الشبكة الحكومية بحلول عام 2017 وهو مؤشر حقيقي على الانتشار السريع الذي مكن الأجزاء النائية من أفريقيا من القفز من عدم وجود كهرباء مباشرة إلى ممارسات الطاقة الخضراء استفادة وتوظيفا للتكنولوجيات المتقدمة في هذا المجال.
- ضرورة العمل على تنوع هيكل النشاط الاقتصادي، وهو ما يعني جذب المزيد من الاستثمارات في مختلف الانشطة الاقتصادية بدلا من تركيزها في مجالي الطاقة والتعدين فقط، وإنما المطلوب هو أن تتجه فرص الاستثمار إلى المجالات الأخرى، وخصوصاً قطاع الخدمات، والصناعات الزراعية التي تمثل حينها قيمة مضافة لاقتصاديات الدول، حيث تقدر بعض الدراسات أنه بحلول عام 2030 يمكن لقطاع الزراعة والصناعة الغذائية في أفريقيا إنشاء سوق بقيمة تريليون دولار، وذلك في حال استغلال الموارد المائية المتجدِّدة التي لم يتم استغلال سوى 2 في المائة منها.
- إيلاء المزيد من الاهتمام بمبادرة بنك التنمية الأفريقي المعنونة بمشروع طريق المعلومات الأفريقية، والذى يهدف إلى توحيد طرق نشر البيانات الأفريقية، وسهولة تداولها بين الجميع سواء كانوا من الأفراد، أو الدول أو المنظمات والجهات الدولية حول العالم.
- سرعة معالجة القضايا الأمنية التي تمثل عائقا أمام نجاح استراتيجيات التنمية، وهو ما أكد عليه بنك التنمية الأفريقي في تقريره عن التوقعات الاقتصادية للقارة الأفريقية الصادر عام 2020، إذ أشار إلى أن عدداً من دول غرب أفريقيا، مثل النيجر ومالي وبوركينا فاسو وتشاد، تنفق جزءاً كبيراً من ميزانياتها على الأمن، وأنه إذا لم تعالج مسألة الأمن في تلك المنطقة، فسوف يكون لها آثار أوسع نطاقاً من شأنها أن تتسبب في خفض النمو والاستثمار بها.
- الاستفادة من الدول الأفريقية الرائدة تنمويا واقتصاديا طبقا لنظرية الإوز الطائر وهي نظرية اقتصادية يابانية ذاع صيتها في ثمانينات القرن العشرين، ترى أن تحوّل أي منطقة من العالم نحو التصنيع تتم في شكل موجات على طريقة سرب الإوز الطائر؛ حيث توجد دولة في المقدمة تسبق الأخرى لتأتي الدول اللاحقة المجاورة وتستقطب الصناعات الأقلّ تقدّما، ثم تتطور الأوضاع في الدول اللاحقة لتدخل عالم الصناعات المتقدّمة. وبحسب هذه النظرية فإن الشركات تبحث عن الدول الأقلّ تكلفة والأكثر استقرارا من الناحية السياسية لكي تتحول إليها، وهو ما يمكن أن ينطبق على دول القارة.
- أهمية النظر في المديونية الأفريقية، فلا شك أن الديون الأفريقية تمثل عائقا أمام النهوض بالقارة ودولها، الأمر الذي يتطلب أن يعاد النظر في حجم الديون المتوقع زيادتها ما بعد جائحة كورونا، كما حذر من ذلك الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش خلال مشاركته في مؤتمر افتراضي عن أفريقيا استضافه البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، حيث طالب بتوفير نحو 200 مليار دولار لمواجهة الوباء الذي حذر خبراء من أنه سيقتل فيها على الأرجح 300 ألف شخص، كما سيدفع بعشرات الملايين إلى هاوية الفقر، وهو ما دفع رئيس النيجر محمدو يوسفو إلى القول بأن الأمر سيتطلب نوعًا ما من «خطة مارشال»الأفريقية من المجتمع الدولي وشطب كبير للديون لإعادة أفريقيا إلى وضعها السابق. وقد دفع ذلك صندوق النقد والبنك الدولي إلى الإسراع بتقديم دعم عاجل للقارة بلغ 57 مليار دولار، يقدم البنك والصندوق 18 مليار دولار منه، في حين يدعم مقرضون من القطاع الخاص ما يقدر بنحو 13 مليار دولار، لتتبقى فجوة 44 مليار دولار تبحث عمن يمولها.
- الإسراع في تنفيذ اتفاقية التجارة الحرة الأفريقية(AFCefta ) بعد دخولها حيز النفاذ والتطبيق رسميا عقب تصديق 22 دولة أفريقية على وثيقة إنشائها. صحيح أن ثمة صعوبات في اتخاذ خطوات جادة في هذه الخصوص خلال فترة جائحة كورونا إلا أن الامر لن يستمر بهذا الشكل، بل يمكن الاستفادة من الخطة ذات العشر نقاط التي وضعتها منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) وهدفت إلى كسر الحواجز أمام التجارة والنقل، وضمان التدفق الحر للسلع والأغذية والإمدادات الأساسية، ومساعدة الصناعات المشاركة في حركة السلع على إبقاء التجارة الحرة قائمة على الانتقال. مع الأخذ في الحسبان أن تفعيل هذه الاتفاقية يتطلب في الأساس القضاء على كافة المعوقات الموجودة والمتمثلة في ضعف البنية الأساسية والنقل واللوجيستيات وضعف وغياب خطوط السكك الحديدية. ولكن ثمة بدائل قائمة يمكن البناء عليها، منها تفعيل مبادرة السماوات المفتوحة التي أطلقها الاتحاد الأفريقي، خاصة بشركات خطوط الطيران لتسهيل عمليات نقل السلع والخدمات لتكون في المتناول إلى جانب دورية واستمرارية عمليات خطوط الطيران، بالإضافة إلى طريق القاهرة -كيب تاون الذي شارف على الانتهاء.
- استكمال متطلبات مبادرة إسكات البنادق الهادفة لإنهاء الحروب والنزاعات في القارة بحلول نهاية عام 2020، وإن كان من المتوقع تأخر تطبيقها بسبب جائحة كورونا.

نهاية القول إن الوضع الراهن في القارة الأفريقية الذي يجمع بين نمو اقتصادي مرتفع في بعض دول القارة بفضل تبني سياسات تنموية ناجحة من ناحية، وبين زيادة سكانية متوقعة بتداعياتها وتأثيراتها المختلفة من ناحية أخرى، وبين حالة عدم الاستقرار في بعض الدول الأفريقية نتيجة عدم وجود حكومات قوية قادرة على توفير الخدمات العامة (تعليم وبنية تحتية من طرق وكهرباء ومياه وغيره) من ناحية ثالثة، ومن ناحية رابعة وجود رغبة دولية للنهوض بالقارة وأوضاعها فأصبح لدينا عدد من القمم الدولية التي تمثل أفريقيا محوراً رئيسياً فيها، فهناك قمة كوريا وأفريقيا، وقمة روسيا وأفريقيا، وقمة الولايات المتحدة وأفريقيا، وقمة المملكة المتحدة وأفريقيا، وقمة الصين وأفريقيا، وقمة اليابان وأفريقيا، وقمة الهند وأفريقيا ومنتدى التعاون الإفريقي - الأوروبي، وذلك كله خشية من أن تتحول دول القارة إلى قنابل موقوتة نتيجة الحروب والصراعات التي تصبح مرتعا ملائما للتنظيمات الإرهابية وما يصاحبها من هجرات غير شرعية تمثل تهديدا مباشرا للجميع، وقد تزامن كل ذلك مع تفشي جائحة عالمية عصفت بالجميع وتركت تأثيراتها السلبية على مختلف القطاعات الإنتاجية والخدمية والأمنية من ناحية خامسة.
وعليه، يستوجب هذا الوضع المتشابك بأبعاده الخمسة مقاربة مغايرة في النظر إلى القارة الأفريقية تعظيما للفرص المتاحة وتقليلا أو مواجهة للتحديات الماثلة، فهل تنجح دول القارة في تحقيق تلك المعادلة المطلوبة بين تعظيم الاستفادة من الموارد والإمكانات ومواجهة التحديات والمشكلات، وصولا لتنمية شاملة تتحقق معها مقولة أفريقيا قارة المستقبل الاقتصادية؟ مع الأخذ في الحسبان أن التوجه نحو أفريقيا بديلا للصين كمصنع للعالم لا يعني أن الأمر سيتم بين ليلة وضحاها وإنما يحتاج إلى سياسات واستراتيجيات عديدة وتغييرات جذرية قد تستغرق سنوات سيكون عددها أقل بكثير من المتوقع.