سوق دون المستوى وأسعار مشوّهة.. مشهد قاتم بالفعل

سوق دون المستوى وأسعار مشوّهة.. مشهد قاتم بالفعل

[caption id="attachment_699" align="aligncenter" width="620" caption="سوق دون المستوى وأسعار مشوّهة.. مشهد قاتم بالفعل"]سوق دون المستوى وأسعار مشوّهة.. مشهد قاتم بالفعل[/caption]بالعودة إلى عام 2007، قبل دخول مصطلحات مثل الرهون العقارية عالية المخاطر أو مقايضة العجز عن سداد الائتمان في لغتنا الدارجة، كان صانعو السياسات حول العالم يواجهون أزمة دولية أكثر أهمية، ولكنها مماثلة في التعقيد - إنها أزمة الغذاء.

في ذلك الوقت، تصدرت عناوين الأخبار أعمال الشغب في طوابير المواد التموينية، في حين تحدث خبراء عن توقعات بمستقبل ينقص فيه الغذاء. ووضعت العديد من الدول حواجز تجارية صارمة لحماية مواردها المحلية، في الوقت الذي تسبب فيه ارتفاع أسعار النفط والمستثمرون المضاربون في مزيد من الارتفاع في مؤشرات الغذاء.

وبحلول نهاية عام 2008، كانت الأزمة المالية العالمية قد خفضت بفاعلية من حجم الطلب، وسمح انخفاض أسعار النفط باستقرار أسواق السلع الغذائية. وتحولت أنظار العالم بعد ذلك إلى القطاع المالي وخطط التحفيز، حينها انزوى شبح الخوف من نقص الغذاء العالمي.. إلى حين.

ولكن في الوقت الحالي، يطل شبح أزمة غذاء جديدة بوجهه القبيح مرة أخرى.

في الشهور الأخيرة، تسبب انخفاض سعر الدولار في زيادة تكلفة واردات السلع الغذائية في العديد من الدول، في حين أربكت الكوارث الطبيعية والمناخ السيئ في روسيا وباكستان سلاسل التوريد العالمية. وقد حذرت كل من كينيا وأوغندا ونيجيريا وإندونيسيا والبرازيل والفلبين من نقص وشيك في الغذاء في العام المقبل. وفي خلال شهور قليلة، شهدت أسعار الحبوب ارتفاعا كبيرا، لدرجة أنه، في نهاية شهر سبتمبر (أيلول)، دعت المجموعة الحكومية المعنية بالحبوب، التي ترعاها منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو)، إلى عقد اجتماع طارئ.

وعند انتهاء الجلسة، أعلنت الفاو أن فرص الوقوع في أزمة غذاء عالمية أخرى ضئيلة، ولكنها حذرت من أن الدول التي تعتمد على الاستيراد من المرجح أن تشهد ارتفاعا كبيرا في أسعار السلع. وبعد شهر، كرر رئيس البنك الدولي روبرت زوليك تعبيره عن هذا الشعور واستفاض فيه، قائلا إن تقلب أسعار الغذاء من الممكن أن يستمر لمدة خمسة أعوام أخرى.

صرح زوليك لـ«الغارديان» في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي قائلا: «يتزايد الخوف بين الدول بشأن استمرار التقلب والشك في أسواق الغذاء. وقد ضاعفت من هذه المخاوف الارتفاعات الأخيرة في أسعار الحبوب. ويظل تقلب أسعار الغذاء العالمي كبيرا، وفي بعض البلدان، يزيد تقلب الأسعار من ارتفاع أسعار الغذاء المحلية المرتفعة بالفعل».

وبسبب كل هذه الشكوك، يمكن أن يتفشى اضطراب سوق السلع ليصل إلى أزمة عالمية شاملة. وعلى الرغم من ارتفاع أسعار الغذاء، ما زالت مؤشراتها أقل من مستويات عامي 2007 و2008 لسعر البوشل (مكيال حبوب). وبعيدا عن ثورة الغضب القصيرة في موزمبيق، تتسم موجات الغضب السياسي لدى المستهلكين بهدوء نسبي.

على الرغم من ذلك، بدأت بعض الأنظمة الاقتصادية بالفعل في الشعور بالأزمة. ولعل أكثرها حدة هو سوق القمح في مصر.



مخاوف القمح في مصر

في شهر يوليو (تموز)، أصابت أجزاء كبيرة من روسيا موجة شديدة الحرارة، مما أشعل حرائق كبرى وتسبب في الجفاف، ودمر محصول القمح في البلاد. وفي أعقاب هذه الأزمة، فرضت روسيا حظرا على تصدير القمح أملا في تأمين إمداد محلي كاف حتى نهاية العام.

وجاء الخبر مسببا قدرا كبيرا من الإزعاج لمصر، أكبر مستورد للقمح في العالم، وكان مقررا أن تحصل على 540.000 طن من القمح الروسي من المنتظر وصولها نهاية العام الحالي. وبعد الإلغاء المفاجئ لتوريد هذه الكمية، وجدت مصر ذاتها تحاول جاهدة أن تنوع من مصادر وارداتها لتعويض الفجوة التي خلفتها صفقة موسكو.

وفي النهاية، تقدمت الولايات المتحدة وفرنسا وعدد من الموردين الأجانب من أجل ملء الفراغ، وفي منتصف سبتمبر، أكد وزير التجارة المصري رشيد محمد رشيد أن الدولة ضمنت موارد كافية من القمح لتجنب أي نقص مفاجئ.

وجاء ذلك الخبر ليبعث الراحة في نفس المستهلك المصري العادي، الذي يستهلك وفقا للهيئة العامة للسلع التموينية نحو 180 كيلوغراما من القمح سنويا. وسيخفف هذا التحول في مصادر الاستيراد أيضا من المخاوف التي يواجهها السياسيون المصريون، الذين أصيبوا بالقلق بلا شك بعد أن أعاد مقتل شاب يبلغ من العمر 25 عاما في طابور العيش ذكرى عام 2008 عندما اندلعت أحداث عنف بين المتظاهرين ورجال الشرطة في مدينة المحلة.

ولكن في النهاية، لا تتجاوز لعبة الكراسي الموسيقية تلك أكثر من مجرد إجراء لسد الفجوة الذي يغطي على مشكلة أكثر عمقا، وإن كانت أقل وضوحا، وهي برنامج دعم القمح في مصر.

تخصص الحكومة المصرية سنويا نحو 3 مليارات دولار لدعم المواد الغذائية، يذهب ثلثها لدعم إنتاج الخبز في البلاد. وفي ظل هذا النظام، تحصل الدولة على القمح من موردين أجانب بسعر ثابت. وفي دولة يصنف نحو 16 مليون نسمة من سكانها بأنهم فقراء، يصبح ضمان دعم ثابت للمواد الغذائية بالتأكيد ذا أهمية سياسية.

يوجد منطق اقتصادي أيضا في الدعم الذي تقدمه الدولة. بتخصيص قدر كبير من المال لسوق القمح، تحاول السلطات المصرية بالضرورة حماية السوق المحلية من تقلبات عنيفة، أحيانا ما تصيب أسعار الحبوب العالمية.

وفي سبتمبر، عندما أعلنت هيئة السلع التموينية أنها ضمنت كما من واردات القمح يكفي الشعب المصري، أشار نائب رئيس الهيئة نعماني نصر نعماني إلى أن الحكومة أيضا توفر مبالغ كافية لزيادة الميزانية المخصصة لدعم القمح. وقال نعماني إن هذه الميزانية الإضافية تعني أن «المستهلك المصري والمواطن المصري لن يشعرا بوطأة ارتفاع الأسعار العالمية».

ولكن المشكلة التي تواجه مصر هي أن أحوال السوق اليوم لا يمكنها أن تكون أكثر سلبية أمام برنامج دعم هائل، أحيانا ما يكون موجها بصورة خاطئة.

في شهر أكتوبر (تشرين الأول)، تعهد وزير الزراعة أمين أباظة بأن الحكومة لن تسمح بأن تنخفض أسعار الشراء المحلية للمحصول الجديد إلى أقل من 300 جنيه مصري للإردب. ويزيد الحد الأدنى الذي أعلنه أباظة بنسبة 20 في المائة عن العام الماضي، ولكن يقول مزارعو القمح المصريون إن هذا الحد الأدنى لا يزال غير كاف.

وأمام ارتفاع تكلفة الأسمدة على مدار الأعوام القليلة الماضية، كان المزارعون المصريون يأملون في ضمان حد أدنى للأسعار يصل إلى 350 جنيها مصريا على الأقل. ووفقا لإحصائيات شركة «سي آي كابيتال» الاستثمارية في مصر، على مزارع القمح اليوم أن ينفق نحو 2.000 جنيه مصري لزراعة الفدان الواحد. ومن دون ضمان حد أدنى مرتفع لسعر القمح، من المرجح أن يخصص المزارعون أراضيهم الصالحة للزراعة من أجل محاصيل أكثر ربحا، مما يفاقم من مشهد قاتم بالفعل.

وبالطبع، يوجد العديد من العوامل الخارجية التي لا تملك مصر سيطرة عليها. وربما يستمر تجار السلع في رفع أسعار الغذاء العالمية من خلال الاستثمارات المضاربة، ويمكن أن يتم السيطرة على القوة العنيدة التي يتسم بها التحول الحضري والتصنيع الزراعي واسع النطاق فقط من خلال جهود دولية تعاونية، وبالطبع، لا يمكن التكهن بالموعد الذي قد تهلك فيه موجة الجفاف أو الحرارة القادمة المحاصيل العالمية.

الشيء الوحيد الذي تستطيع مصر أن تتحكم فيه هو سلسلة الإنتاج المحلي. ولكن حتى الآن، لم ينتج عن الدعم الحكومي سوى سوق ذات أداء دون المستوى، وأسعار مشوّهة. وذلك ليس لنقول إن على الدولة أن تتخلى عن برنامج الدعم كلية. يستفيد نحو 60 مليون شخص من الغذاء المدعم، وفي فترة تجري فيها انتخابات برلمانية، ستكون الدعوة إلى إنهاء الدعم شبيهة بالانتحار السياسي. بدلا من ذلك، ينبغي على مصر أن تصلح برنامج الدعم، مع الاهتمام بتوفير حوافز حقيقية للمزارعين حتى يزرعوا قمحا. ومن الواضح أن وضع حد أدنى بسيط لسعر القمح، في ظل المناخ الاقتصادي المتقلب حاليا، لن يكون كافيا.

ومن حسن الحظ أن الدولة تبدو على وعي جيد بالحاجة إلى تنشيط الإنتاج المحلي من القمح. في أغسطس (آب)، أعلنت وزارة الزراعة أن هدفها هو تحقيق اكتفاء ذاتي بنسبة 70 في المائة بحلول عام 2020 بمساعدة سلالة جديدة من الحبوب أكثر إنتاجية. ومن المؤكد أن هذه خطوة تسير في الاتجاه الصحيح، ولكن إذا أرادت مصر تجنب حدوث أي نقص في عام 2011، يجب أن تقرر تنفيذ دعم عالي الإنتاج أيضا.



أمار تور
font change