"التكنولوجيا الحديثة، خلافا للظاهر، وعلى الرغم من كونها علمية، تزيد قوة الأشباح. المستقبل للأشباح" - جاك دريدا وبرنار ستيغلر، "فحص إيكوغرافي للتلفزيون".
إذا سلمنا بأن التواصل البشري مؤسس منذ البدء على الالتباس وعدم التماثل في الفهم، وبأننا لا نجد أنفسنا، منذ البداية، أمام حالات فردية من سوء الطوية (mauvaise foi)، وإنما أمام بنية تجعل التواصل، مبدئيا، مشبعا بسوء النية، لا باعتباره حيلة مقصودة، بل لأنه يولد دوما أثرا غير مقصود، فإننا نجد أنفسنا أمام أسئلة أساسية: إذا كان الإنسان مدانا بسوء الفهم، وبكذب ضمني ناتج من محدودية اللغة وتشظي المعنى، فهل يبقى هناك معنى للتمييز بين الصدق والكذب؟
إذ ما معنى الكذب في عالم لا يفترض فيه أن "الصدق" ذاته ممكن أو مستقر؟ إذا كنا لا نقول أبدا "ما نعنيه تماما"، ولا يفهمنا الآخر "كما نقصده تماما"، فهل الكذب هو مجرد محاولة إضافية لتوجيه سوء الفهم لصالحنا؟ وإذا كانت اللغة نفسها غير موثوق بها، فهل يصبح الكذب محاولة لإعادة تنظيم فوضى التواصل، أو نوعا من التحكم في ما لا يمكن التحكم فيه؟ وحينئذ يصبح الكذب فعلا مندرجا ضمن بنية المعنى ذاتها، حيث لا ينفصل الصدق عن التمثيل، ولا الحقيقة عن التأويل، ولا يعود الكذب "حجبا" للحقيقة، بل مناورة داخل لعبة توليد المعاني.
آليات الدلالة
معنى ذلك أن هذه المناورة ستفترض أن الخداع ليس نية ذاتية للكذب، وإنما هو ناتج من آليات الدلالة ذاتها. ذلك أن العلامات، في عالم يسوده سوء التفاهم، لا تحيل إلى "وقائع" مستقرة، بل تدور في حلقة تأويل لا تنتهي، ولذلك يصبح المعنى هشا، وعرضة لإعادة التشكيل والتلاعب. ونتيجة ذلك يصبح الخداع آليا، بنيويا، من صميم اللعبة السيميولوجية نفسها، وهو ما يجعل محاولة مساءلته أخلاقيا تبدو عاجزة، لأن الفاعل نفسه مغيب داخل شبكة من العلامات والانزلاقات التأويلية، ولأن الخداع يتولد بعيدا منه وخارج تحكمه.
يحكي فرويد حكاية اليهوديين اللذين التقيا في قطار، فسأل أحدهما الآخر عن البلدة التي يتوجه نحوها. أجاب الثاني: "أنا متجه إلى كراكوفيا". رد الأول متعجبا: "يا لك من كذاب، إذا كنت تقول إنك ذاهب إلى كراكوفيا، فلأنك تريد أن أعتقد أنك ذاهب إلى لومبيرغ، لكن أنا أعرف أنك ذاهب حقا إلى كراكوفيا". ما يمكن أن نستخلصه من هذه الحكاية التي يرويها مؤسس التحليل النفسي، هو أن المسألة قد لا تتعلق بسوء نية مبيتة عند الكاذب. ذلك أن سوء التفاهم والشعور بنية الخداع والكذب، ربما يتولدان من غير سوء نية. وفرويد يؤكد أن المسافر الأول كان بالفعل متوجها إلى كراكوفيا، ولم يكن قط سيء النية.