كثيرا ما يقال للحالمين من أمثالنا، كن واقعيا. فما هو هذا الواقع الذي يُدعى الإنسان إلى التمسك به؟ عندما نعود إلى القواميس الفلسفية واللغوية سنجد أن مفردة الواقع تطلق على ما يحدث بالفعل وما يوجد بالفعل. والواقعي والوجودي والحقيقي والفعلي تعني تقريبا الشيء ذاته، أي الإنسان الذي يرى الأشياء على ما هي عليه، ويسلك في حياته بمقتضى هذه الرؤية. وأحيانا يصفون هذا السلوك بأنه ينطلق من واقعية التفكير، أي مطابقة الواقع والإعراض عن المُثل. إنه نقيض الخيالي، والخيالي قد يطلق على الوهمي. وفي الفلسفة، أن تكون واقعيا تعني أن الوجود يستقل عن معرفتنا به، لأن الوجود غير الإدراك، أو أن الوجود غير الفكر، ولا يمكن انتزاع الوجود من الفكر، وهذا الوجود لا يمكن أن نعبر عنه بحدود منطقية ذهنية. هناك الوجود الحقيقي وهناك الوجود الذي في العقل وهما مختلفان.
للفيلسوف المشهور أفلاطون رأي مختلف تماما، فالواقع عنده لا يُطلق في الدرجة الأولى على عالمنا هذا المحسوس، بل يُطلق المفردة على عالم المُثل التي عدّها أحق بالوجود من الأشياء الملموسة. عالم المُثل، وقد يسميه بعالم المُثل الإلهي، صور مجردة يراها حقائق معقولة، أزلية وثابتة، قائمة بذاتها ولا تتغير ولا تندثر ولا تفسد، فالذي يفسد ويندثر هو عالمنا الحسي وهذه الكائنات التي نراها موجودة، أو تبدو لنا موجودة. والمُثل عنده مبدأ المعرفة ومبدأ الوجود معا. هي مبدأ المعرفة لأن النفس لا تدرك الأشياء، ولا تعرف كيف تسميها إلا إذا كانت قادرة على تأمل المُثل. وهي مبدأ الوجود لأن الجسم لا يتعين في نوعه إلا إذا شارك بجزء من مادته في مثال من المُثل، فأعمال الخير تندرج في مثال الخير والأشياء الجميلة تندرج في مثال الجمال وهكذا.
مراعاة العالم المادي لا غبار عليها مبدئيا، لكنك عندما تدقق النظر في هذا الواقع الذي يقال لك أن تبقى فيه فستجد أنه وهم. أقصد أنه لا يبقى على حاله، بائسا كان أم سعيدا. لا يوجد واقع ثابت، ابتداء من خلايا جسدك التي تموت بالملايين وتتغير في كل لحظة، وانتهاء بالعالم الذي ينحل باستمرار. لا يوجد واقع، بل هناك صيرورة مستمرة. والصيرورة مصطلح فلسفي يعني أن الأشياء في تغير مستمر من حالة إلى أخرى، أن هذا الوجود محكوم بالحركة الدائمة. الصيرورة هي حالة بين الوجود والعدم، فلا هي وجود ولا هي عدم.