هل سيغْني علم الأعصاب عن فلسفة العقل؟

الفكر الفلسفي لا يتراجع أمام التقدم العلمي، بل يُعيد انتشار الأسئلة

هل سيغْني علم الأعصاب عن فلسفة العقل؟

استمع إلى المقال دقيقة

كتب برتراند راسل في "ألف باء النسبية": "عدّل أسلافنا الفلاسفة بوصلتهم لتتناغم مع فيزياء نيوتن. وها نحن نعدّل بوصلتنا لتتناغم مع نسبية آينشتاين". إنها علاقة معقدة، علاقة العلم بالفلسفة، لكن لا بأس بشيء من الاستكناه.

علم الأعصاب من أعظم ما بلغته المعرفة الحديثة في رصد البنية الفيزيائية للدماغ، بل إنه من أعظم معارفنا بإطلاق. فقد نجح في تحقيق قفزات نوعية في فهم آليات الوعي والإدراك والانفعال والسلوك. خلال العقود الأخيرة، أمكن عبر تقنيات التصوير العصبي أن نحدد بدقة المناطق المسؤولة عن الرؤية واللغة والذاكرة والحركة والعواطف. وتمكّنا من رسم خرائط عصبية توضّح العلاقات بين نشاط مناطق في الدماغ وأنماط محددة من التفكير والشعور والسلوك. ودُرست حالات مثل فقدان الذاكرة والصرع والتوحّد والفصام والإدمان، من منظور عصبي، وأمكن تفسيرها بوصفها اضطرابات في كيمياء الدماغ أو اتصالاته العصبية. وكشفت تجارب دقيقة أن بعض الأفعال التي نحسبها واعية تحدث في الدماغ قبل أن يشعر الإنسان بأنه اتخذ قرارا، وهذا دفع كثيرين لإعادة التفكير في مفهوم الإرادة الحرة.

واصل علم الأعصاب تقدّمه في القرن الحادي والعشرين بثبات وجسارة، محققا إنجازات غير مسبوقة في فهم البنية الدقيقة للدماغ، ولم يعد ذلك الصندوق الأسود الغامض، بل أصبح خريطة مرئية لنشاطات محددة، يمكن رصدها وتصويرها وتفسيرها. لقد نجح هذا العلم في فك رموز الانتباه والتعرّف واتخاذ القرار والتعلّم والتذكّر واللغة والعاطفة والسلوك والاضطراب.

بتقنيات "تصوير الدماغ" (MRI)، (PET)، (EEG)، صار من الممكن رؤية الدماغ وهو يفكّر وهو يحلم، بل وهو يتألم. يستطيع العالِم اليوم أن يتتبّع لحظة تكوّن قراراتنا أو انطفاء الرغبة أو انبثاق الانفعال، بدقة ميكروثانية. لم يعد الاكتئاب لغزا مزاجيا، بل أصبح نتيجة لاختلالات كيميائية واضحة. لم يعد الفصام والهلوسة جنونا، بل نتائج لانهيار شبكات عصبية قابلة للرصد. الإدمان والحب والغيرة والأمل، حتى الضمير الأخلاقي، كلها باتت مرتبطة بنشاط مناطق معيّنة في الدماغ. كل شيء أصبح قابلا للتعيين العصبي.

علم الأعصاب يقترب من كل شيء، لكنه لا يلامس الإنسان في جوهره ولا يقترب من صميم وجوده. ينتصر آليا، لكنه لا ينتصر وجوديا. يشرح كيف نحب، لكنه لا يعرف لماذا يدمينا الفقد

أصبح علم الأعصاب اليوم كجيوش نابليون، يزحف نحو ما كانت تحتكره الفلسفة. أصبح العلم يتكلم عن الوعي، عن الإرادة، عن الانتباه، عن الحلم، عن الخيال، بل وحتى عن الأخلاق والسلوك الاجتماعي. العقل الذي كان يُعامل ككائن مفارق، أصبح يُحلّل ويُقطع ويُسجّل نشاطه لحظة بلحظة. وما عاد الإنسان وحده مركز التجربة، فقد صار بالإمكان قياس الوعي لدى الحيوان، بل وحتى لدى النبات في بعض الأبحاث الجريئة. العقل لم يعد مملكة الفلسفة، بل أصبح مادة للبحث البيولوجي.
ومع كل هذا التقدّم، صمدت الفلسفة كتقنية منافسة، بل كأفق ضروري لفهم ما لا يقوله الدماغ نفسه. علم الأعصاب يصف النشاط، لكنه لا يفسّر المعنى. يعرف أين تنشأ الفكرة، لكنه لا يعرف ما هي. يرصد الرغبة، لكنه لا يفهم لماذا تكون الرغبة رغبة. الوعي الذي يُسجَّل كهربائيا لا يُفسَّر شعوريا. التجربة الذاتية الداخلية لا تزال خارج دائرة القياس، والذات لا تزال خارج الصورة. لا أحد في علم الأعصاب- رغم كل التقدّم- يعرف كيف يتحوّل النشاط العصبي إلى شعور. كيف تصبح الكهرباء ألما؟ كيف يصبح التبادل الكيميائي ذكرى؟ كيف تتحوّل هذه "الكيمياء" إلى صورة حية في ذهني؟ لماذا نشعر أصلا؟ هذه ليست مشكلات تقنية، بل مشكلات مفهومية، وهي من اختصاص الفلسفة لا المجهر. المعاني، القصد، الحرية، المسؤولية، الهوية، التجربة، الزمن، الموت، كلها مفاهيم لا تزال خارج حدود العصبونات.
 الدماغ يعالج الإشارات، لكن لا يوجد فيزيائي أو بيولوجي استطاع أن يشرح من الذي يملك هذا الدماغ. التجربة لا تفسَّر إلا من الداخل، والداخل لا يُقاس من الخارج. الفلسفة لا تعارض العلم، لكنها تذكّره بحدوده.
علم الأعصاب يقترب من كل شيء، لكنه لا يلامس الإنسان في جوهره ولا يقترب من صميم وجوده. ينتصر آليا، لكنه لا ينتصر وجوديا. يشرح كيف نحب، لكنه لا يعرف لماذا يدمينا الفقد. يسجّل الذنب، لكنه لا يفهم التوبة. يرصد الحلم، لكنه لا يعرف لماذا نحلم بما نحلم به. الفلسفة لا تسأل كيف يعمل الدماغ، بل تسأل من نحن؟ وهذا سؤال لا يجيب عنه إلا من يقف خارج الجهاز العصبي: الإنسان.
هذه الإنجازات، بكل ما فيها من دقة ومشروعية علمية، لا تُغني عن فلسفة العقل، ولا تُلغي الحاجة إليها، ولا تقدر على حل الإشكالات الكبرى التي تطرحها. علم الأعصاب يصف، لكنه لا يفسّر، ويحدّد الآليات، لكنه لا يكشف المعنى. الوعي لا يزال في جوهره لغزا قائما، لا يمكن ردّه بالكامل إلى أنشطة كهربائية أو كيمياء حيوية. فأن يرى الإنسان شيئا، وأن يشعر داخليا برؤيته، هما أمران مختلفان. الرؤية الفيزيائية ظاهرة قابلة للرصد، أما الشعور الداخلي بالرؤية، فهو تجربة ذاتية لا يمكن تصويرها ولا قياسها ولا شرحها من الخارج.

علم الأعصاب لا يملك الأدوات المفهومية لتحليل معنى القصدية، أو تفسير كيف يتّجه الفكر نحو شيء، أو كيف يُكوّن العقل معنى من محفز عصبي. كما أنه، رغم توصيفه التفصيلي للنشاط العصبي، لا يستطيع أن يفسّر من الذي يملك هذا الجهاز العصبي. الذات، كما تُفهم فلسفيا، ليست هي الدماغ، بل هي ذلك الذي يُفكّر ويشعر ويتذكّر ويتأمل. كما لا يمكن استيعاب مفاهيم الحرية والمسؤولية الأخلاقية ضمن نموذج يختزل الفعل الإنساني في تفاعلات مادية فقط.
تاريخ الفلسفة لم يكن رحلة في وصف الدماغ، بل في فهم العقل، والفارق بينهما جوهري. الدماغ جزء من الجسد، والعقل هو البُعد الذي يجعل الإنسان إنسانا، بما فيه من وعي ومساءلة. الفلسفة لا تزاحم العلم، بل تسدّ ثغراته، وتكشف حدوده، وتُضيء ما لا يُضيئه الميكروسكوب ولا يُقاس بالأجهزة. فلسفة العقل تظل وحدها القادرة على مناقشة طبيعة الإدراك، ومفهوم الذات، وحدود اللغة، ومعنى الحقيقة، ومصير الإنسان في عالم يزداد اختزالا.
الفكر الفلسفي لا يتراجع أمام التقدم العلمي، بل يُعيد انتشار الأسئلة. تقنيات تصوير الدماغ لا تُبطل حاجة الإنسان إلى التفكير في معنى تجربته، ولا تردّ الحب والخوف والندم والرجاء إلى خرائط عصبية. علم الأعصاب أداة لفهم البنية، أما فلسفة العقل فهي السبيل إلى فهمه من جهة المعنى. وإذا كانت المعرفة العلمية قد قرّبتنا من فهم الإنسان بوصفه جسدا واعيا، فإن الفلسفة تظل الطريق لفهمه بوصفه كائنا حُرا، مسؤولا، واعيا لذاته، ناطقا أو صامتا أمام لغز وجوده.

font change