ثمة لعبة مسلية مفيدة تقوم على تحليل كتابة الكاتب، لتمييز عوالمه بعضها عن بعض. كيف نميز الفيلسوف عن العالم والمثقف والشاعر ورجل الدين، وإن اجتمعوا في شخص واحد؟ هؤلاء كلهم قد يختلطون أحيانا. الكاتب، ليس كاتبا مجردا، قد يكون شاعرا أيضا. قد يكون عالما وفيلسوفا، مثل عالم الاجتماع المشهور ماكس فيبر الذي اتضح أنه فيلسوف عميق، وسنعود إليه لاحقا. تمييز عوالم الكاتب بعضها عن بعض مهمة ليست بالسهلة، ولا يمكن أن يتوافق المتلقون عليها، لكن لا بأس أن نتحسس طريقنا في هذه المهمة.
على سبيل المثل، يمسك ابن رشد بقلم رجل الدين فيكتب "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"، في الفقه المقارن، ثم يعود الرجل نفسه ويمسك بقلم الفيلسوف فيتسلل إلى نصه الفقهي، فيقول بعد ذكر اختلاف الفقهاء في مسألة ما: "وسبب اختلافهم هو كذا وكذا"، يكررها بطول الكتاب وعرضه. هذا الذي يقول "وسبب اختلافهم" ليس ابن رشد الفقيه، فالفقيه مشغول بالترجيح الشخصي أو الانتصار للمذهب، أما الذي يبحث عن السبب الجذري للاختلاف، فذلك هو الفيلسوف. هو المشغول بلماذا.
أكثر من شخصية
قد يكون للكاتب أكثر من شخصية، كما نرى القديس أوغسطين، يكتب كتابا فلسفيا للرد على السفسطائيين، ثم يعود فيكتب شرحا لموعظة الجبل. لذلك يجب أن نميز بين أوغسطين الفيلسوف، وأوغسطين رجل الدين المسيس، والثالث كاتب سيرته. تلك السيرة التي تجلت فيها صورته كأديب بمستوى رفيع، وفيلسوف يثير مشكلة الزمن. ثم تراه في نصوص أخرى يتصدى لعلم الكلام والسياسة، والسعي لتوحيد المذاهب المسيحية، والقضاء على ما يسميه بالبدع.
إذا قبل القارئ بأن الكاتب قد ينتمي الى عوالم عدة، فإننا سنضرب مثلا بسيغموند فرويد لمزيد من التوضيح. هناك فرويد الطبيب، وفرويد العالِم، وفرويد الفيلسوف. والقناع الذي كتب به فرويد أشهر كتبه: "تفسير الأحلام" و"الطوطم والحرام" و"مستقبل وهم" و"موسى والتوحيد"، لم يكن قناع الطبيب، ولا قناع العالم، بل كان أقرب إلى قناع الفيلسوف، الفيلسوف الذي يرى في كل سلوك ظاهر جذورا دفينة، وفي كل إنسان عقدة، وفي كل بنية نفسية صراعا باطنيا لا يخضع للبرهان، بل للقراءة. وهنا يبرز السؤال: هل كان فرويد عالما؟ أم أنه خرج من دائرة العلماء ودخل دائرة الفلاسفة؟ هذا ما صرح به عدد من الأطباء الأكاديميين النفسيين الذين لقيت، أنهم ما عادوا ينظرون إليه كعالِم، وإن كانوا يحترمونه، وتجربته.