فرويد بين العلم والفلسفة

اللاشعور ليس ليس أداة علمية بل مفهوم فلسفي

 Jason Lyon
Jason Lyon

فرويد بين العلم والفلسفة

ثمة لعبة مسلية مفيدة تقوم على تحليل كتابة الكاتب، لتمييز عوالمه بعضها عن بعض. كيف نميز الفيلسوف عن العالم والمثقف والشاعر ورجل الدين، وإن اجتمعوا في شخص واحد؟ هؤلاء كلهم قد يختلطون أحيانا. الكاتب، ليس كاتبا مجردا، قد يكون شاعرا أيضا. قد يكون عالما وفيلسوفا، مثل عالم الاجتماع المشهور ماكس فيبر الذي اتضح أنه فيلسوف عميق، وسنعود إليه لاحقا. تمييز عوالم الكاتب بعضها عن بعض مهمة ليست بالسهلة، ولا يمكن أن يتوافق المتلقون عليها، لكن لا بأس أن نتحسس طريقنا في هذه المهمة.

على سبيل المثل، يمسك ابن رشد بقلم رجل الدين فيكتب "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"، في الفقه المقارن، ثم يعود الرجل نفسه ويمسك بقلم الفيلسوف فيتسلل إلى نصه الفقهي، فيقول بعد ذكر اختلاف الفقهاء في مسألة ما: "وسبب اختلافهم هو كذا وكذا"، يكررها بطول الكتاب وعرضه. هذا الذي يقول "وسبب اختلافهم" ليس ابن رشد الفقيه، فالفقيه مشغول بالترجيح الشخصي أو الانتصار للمذهب، أما الذي يبحث عن السبب الجذري للاختلاف، فذلك هو الفيلسوف. هو المشغول بلماذا.

أكثر من شخصية

قد يكون للكاتب أكثر من شخصية، كما نرى القديس أوغسطين، يكتب كتابا فلسفيا للرد على السفسطائيين، ثم يعود فيكتب شرحا لموعظة الجبل. لذلك يجب أن نميز بين أوغسطين الفيلسوف، وأوغسطين رجل الدين المسيس، والثالث كاتب سيرته. تلك السيرة التي تجلت فيها صورته كأديب بمستوى رفيع، وفيلسوف يثير مشكلة الزمن. ثم تراه في نصوص أخرى يتصدى لعلم الكلام والسياسة، والسعي لتوحيد المذاهب المسيحية، والقضاء على ما يسميه بالبدع.

إذا قبل القارئ بأن الكاتب قد ينتمي الى عوالم عدة، فإننا سنضرب مثلا بسيغموند فرويد لمزيد من التوضيح. هناك فرويد الطبيب، وفرويد العالِم، وفرويد الفيلسوف. والقناع الذي كتب به فرويد أشهر كتبه: "تفسير الأحلام" و"الطوطم والحرام" و"مستقبل وهم" و"موسى والتوحيد"، لم يكن قناع الطبيب، ولا قناع العالم، بل كان أقرب إلى قناع الفيلسوف، الفيلسوف الذي يرى في كل سلوك ظاهر جذورا دفينة، وفي كل إنسان عقدة، وفي كل بنية نفسية صراعا باطنيا لا يخضع للبرهان، بل للقراءة. وهنا يبرز السؤال: هل كان فرويد عالما؟ أم أنه خرج من دائرة العلماء ودخل دائرة الفلاسفة؟ هذا ما صرح به عدد من الأطباء الأكاديميين النفسيين الذين لقيت، أنهم ما عادوا ينظرون إليه كعالِم، وإن كانوا يحترمونه، وتجربته.

القناع الذي كتب به فرويد أشهر كتبه لم يكن قناع الطبيب، ولا قناع العالم، بل كان أقرب إلى قناع الفيلسوف، الفيلسوف الذي يرى في كل سلوك ظاهر جذورا دفينة

في "سقوط إمبراطورية فرويد"، لم يهاجم هانز آيزنك فرويد بقدر ما جرده من لقبه العلمي، وأجلسه في مجلس الفلاسفة والمؤولين. لم يصفه بالكلمة الصريحة، لكن أوضح أن فرويد كان معتمدا على قدرة الإقناع والتأويل، لا على التجربة والبرهان. ويصفه بأنه عبقري في الدعاية لا في الإثبات العلمي، في البلاغة لا في الأدلة. ويصنف آيزنك هذا التحول بأنه انتقال من ساحة العلاج العلمي إلى ميدان التأويل الرمزي، وهي الساحة التي يشتغل فيها الفلاسفة والمؤولون.

فرويد لم يُرفض لأنه كان مخطئا، فالعلم يتقدم عبر الخطأ، بل لأنه لم يقدم أفكاره داخل شروط العلم أساسا. المشغول بفلسفة العلم يعلم أن أحد أبرز اثنين في هذا المجال، كارل بوبر، فيلسوف العلم الأشهر، قد وضع معيارا للفصل بين العلم واللاعلم.

AFP
المحلل النفسي النمساوي سيغموند فرويد يغادر محطة فيكتوريا لدى وصوله إلى لندن، 6 يونيو 1938

النظرية العلمية هي النظرية القابلة للتكذيب. هذه النظرية هي فرضية أو مجموعة من الفرضيات يمكن اختبارها تجريبيا بحيث يكون من الممكن إثبات بطلانها لو كانت خاطئة. ويشترط فيها أن تنتج تنبؤات واضحة قابلة للفحص عبر الملاحظة أو التجربة. وتعني القابلية للتكذيب أن النظرية لا تحصن نفسها ضد النقد أو النتائج المخالفة. طُرح هذا المفهوم لتمييز العلم عن غيره من أنماط التفكير. فالنظرية التي لا يمكن تخطئتها بأي تجربة ممكنة ليست علمية، يمكن أن نسميها نظرية فلسفية.

لكن فرويد لم يكن يقول شيئا قابلا للتكذيب. هل يمكننا أن نثبت خطأ عبارة مثل: كل حلم هو تحقيق لرغبة مكبوتة؟ هل يمكن اختبار فرضية أن الطفل يعاني من عقدة أوديب تجاه أمه؟ هل يمكن قياس درجة الكبت أو التعرف الى اللاشعور بأداة مستقلة عن تأويل المحلل؟

الجواب هو: لا.

اللاشعور

اللاشعور، كما يظهر في التحليل النفسي، لا يقدم تنبؤات دقيقة قابلة للاختبار التجريبي، بل غالبا ما يُفسر كل شيء باعتباره دليلا عليه. وهنا يكمن الإشكال في نظرية تفسر كل شيء، لكن لا تفسر شيئا على نحو علمي. من وجهة نظر بوبر، اللاشعور ليس نظرية علمية بل تصور ميتافيزيقي، لأن كل ما يبدو ظاهريا دحضا لها يُعاد تفسيره بوصفه تأكيدا ضمنيا، مما يجعلها غير قابلة للتكذيب، وبالتالي تقع خارج حدود العلم التجريبي، مهما قيل عن شهرتها وقيمتها الفلسفية أو النفسية أو الثقافية.

AFP
سيغموند فرويد (1856–1939) مع ابنته آنا (1895–1982) أمام منزلهما في لندن خلال ثلاثينات القرن الماضي

وهنا تأتي أهمية ما فعله آيزنك، إذ لم يكتفِ بإثبات أن فرويد لم يكن عالما، بل ضرب أمثلة محددة من قلب المشروع الفرويدي، حين وافق بوبر على أن اللاشعور فرض ميتافيزيقي. ليس مكونا نفسيا يمكن عزله أو قياسه، بل افتراض غامض يُستخدم لتفسير كل شيء، دون أن يبرهن على وجود هذا اللاشعور. إنه لا يُلاحَظ ولا يُقاس ولا يميز، بل هو شبكة تأويلات يلقيها المعالج على سلوك المريض.

يبدو أن فرويد خسر إمبراطوريته فعلا مع تقلص المقبول من نظرياته لصالح العلم التجريبي فغادر دائرة العلماء، لا لأنه خالف الدليل، بل لأنه لم يدخل في شروطه منذ البداية

في هذا المعنى، اللاشعور ليس أداة علمية، بل مفهوم فلسفي، شبيه بأرواح أفلاطون أو علل أرسطو الغائية. ما يزيد الأمر تعقيدا أن فرويد لا يكتفي بالإشارة إلى اللاشعور بوصفه مجالا من مجالات النفس، بل يجعله الأرضية التحتية لكل سلوك ظاهر، بحيث لا يبقى للفعل الإنساني الحر موضع يمكن تفسيره خارج اللاشعور، فيتحول كل وعي إلى ظل من ظلاله، وكل تجربة إلى قناع يخفيه.

ادعى فرويد أن كل طفل يمر بمرحلة من التعلق بالأم والعداء للأب، وهي ما سماه عقدة أوديب. لكن آيزنك يكشف أن هذا التعميم لم يُبنَ على تجارب علمية، بل على ملاحظات محدودة، ونصوص أدبية، ثم جرى تعميمه على البشرية. والمفارقة أن هذه العقدة التي ظهرت كمجاز درامي في مسرحية سوفوكليس تحولت على يد فرويد إلى "قانون طبيعي" من قوانين النفس، كأن الأدب هو الذي يكشف الحقيقة، لا العلم.

خارج دائرة العلماء

في كتابه الأهم، "تفسير الأحلام"، زعم فرويد أن كل حلم هو تعبير عن رغبة مكبوتة. لكن آيزنك يبين أن كثيرا من الأحلام لا تعبر عن أي رغبة، بل عن قلق، أو انزعاج، وقد تكون بلا معنى. والأخطر، أن تأويل الحلم يتم وفق رغبة المحلل، لا وفق معيار موضوعي، مما يُخرج التحليل من دائرة الاختبار إلى دائرة الرمزية التأويلية. وإذا كان لكل حلم تفسير ممكن، ولكل تفسير نقيضه، فإن التحليل النفسي لا يكون علما، بل قراءة ذات نيات مسبقة، تماما كما يقرأ المتصوف رموز النصوص المقدسة على ضوء باطنه، لا ظاهر النص.

GettyImages
سيغموند فرويد في مكتبه بمنزله في فيينا يتفحّص مخطوطة

يبدو أن فرويد خسر إمبراطوريته فعلا مع تقلص المقبول من نظرياته لصالح العلم التجريبي فغادر دائرة العلماء، لا لأنه خالف الدليل، بل لأنه لم يدخل في شروطه منذ البداية. لقد تقدم برؤية عميقة وشاملة وجريئة للإنسان، لكنها رؤية لا تُختبَر، ولا تُكذب، ولا تُقاس. لذلك، لم يعد يدرس في كليات الطب النفسي بوصفه مرجعا علاجيا، بل يُذكر كحلقة في تاريخ الأفكار، تماما كما نذكر نيتشه أو هايدغر أو لاكان، وتحول الكاتب من عالم يُنتظر منه البرهان، إلى فيلسوف يُقرأ بوصفه مؤولا كبيرا للطبيعة البشرية وركنا ركينا من أركان الفكر.

font change

مقالات ذات صلة