لعله من الحسن أن نكتب اليوم عن فلسفة الألمان، تلك الفلسفة التي أعادت للفلسفة معناها ومنهجها العام، مع أنها تقدمت أيضا بمنهج فريد، فلا هو من الجديد تماما ولا هو بالمحاكي الكامل، بل قد تميزت بعلامات فارقة واضحة.
المثالية الألمانية هي الاسم الذي يُطلق على حركة فلسفية ظهرت في ألمانيا في ثمانينات القرن الثامن عشر واستمرت حتى نهاية القرن التاسع عشر. من أبرز ممثليها: إيمانويل كانط، ويوهان فِشته، وفريدريش شلينغ، وجورج فيلهلم فريدريش هيغل. ورغم التباينات الفكرية العميقة بين هؤلاء الفرسان الأربعة، فإن ما يجمعهم هو الالتزام الجوهري بالمثالية، أي الاعتقاد بأن الوعي لا يستقبل العالم كما هو، بل يسهم في تشكيله على نحو حاسم.
ظهرت هذه الفلسفة كردّ على الانقسام الذي هيمن على الفكر الحديث بين التيارات العقلانية التي ترى أن المعرفة تنبع من العقل وحده، مثل ديكارت وسبينوزا، والتيارات التجريبية التي تؤمن بأن الحس هو المصدر الوحيد للمعرفة، مثل لوك وهيوم. وقد حاول كانط، بما أسماه "المثالية الترانسندنتالية"، أن يتجاوز هذا الانقسام، فاعتبر أن المعرفة نتاج تفاعل بين المعطيات الحسية والقوالب الفكرية القبلية للعقل. وبحسب هذا التصور، فإن الأشياء كما تُظهر لنا الظواهر هي التي نعرفها. أما "الأشياء في ذاتها" فلا يمكن للعقل البشري أن يبلغها.
غير أن تلامذة كانط، خصوصا فِشته وشلينغ وهيغل، اعتبروا هذا الموقف غير مكتمل، وذهبوا إلى أن الحديث عن "أشياء في ذاتها" يُدخل في الفلسفة مفارقة غير قابلة للحل، فإذا كان الشيء لا يمكن معرفته إلا من خلال الوعي، فكيف يمكن الحديث عن وجود مستقل له خارج كل وعي؟ بناء على هذا، طوّر هؤلاء الفلاسفة ما يُعرف بالمثالية المطلقة، التي ترى أن الواقع ليس إلا تجليا لتطور الوعي أو الروح أو الفكرة المطلقة.
المثالية الألمانية لم تُهمل دور الحس. لقد حاولت، خاصة بعد نقد كانط، أن تدمج الحس والعقل في عملية المعرفة، وأن تبيّن كيف أن التجربة لا تُعطى من الخارج فقط
وقد تميزت المثالية الألمانية بمحاولتها بناء نسق فلسفي شامل، لا يقتصر على معالجة مسائل المعرفة والوجود، بل يشمل الأخلاق، والسياسة، والجمال، والتاريخ، والدين، والعلم. لم يكن هدفها مجرّد تقديم أفكار متناثرة، بل السعي إلى تأسيس كل فروع الفلسفة انطلاقا من مبدأ أول موحّد، يُطلق عليه اسم "المطلق" أو "اللامشروط". هذا الطابع النسقي كان حاضرا منذ كانط، لكنه بلغ ذروته عند هيغل، الذي رأى أن كل ما هو واقعي عقلاني، وأن العقل هو جوهر العالم، ويتجلى عبر صيرورة تاريخية جدلية.
المنهج الجدلي هو إحدى السمات الجوهرية للمثالية الألمانية، خصوصا في صيغتها الهيغلية. فالواقع لا يُفهم بوصفه مجموعة من الأشياء الثابتة، بل بوصفه حركة مستمرة من التناقضات التي تُنتج تركيبا أرقى. من الأطروحة، إلى نقيضها، إلى تركيب جديد يتجاوزهما، يتقدّم الفكر والعالم معا في حركة لولبية تصاعدية. وبهذا يصبح التناقض داخليا لا خارجيا، ومحركا للفهم لا عائقا أمامه.
في هذا الإطار، تكتسب الذات مكانة محورية. فهي ليست مجرد كائن أخلاقي، بل مبدأ أنطولوجي، أي إنها أساس للوجود ذاته. وعند فِشته تحديدا، تتحوّل الأنا إلى القوة الخالقة التي تُنتج العالم بوصفه مجالا لنشاطها. أما عند هيغل، فتُصبح الذات الكلية هي "الروح المطلقة"، التي تمر عبر مراحل التاريخ والثقافة والدين والفن، إلى أن تبلغ الوعي الكامل بذاتها.
وبخلاف ما قد يبدو من نزعة عقلية محضة، فإن المثالية الألمانية لم تُهمل دور الحس. لقد حاولت، خاصة بعد نقد كانط، أن تدمج الحس والعقل في عملية المعرفة، وأن تبيّن كيف أن التجربة لا تُعطى من الخارج فقط، بل تتشكل ضمن بنية عقلية داخلية تجعل الفهم ممكنا. ومع ذلك، بقي العقل هو العنصر الحاسم، وظل الواقع الحسي، في كثير من الأحيان، خاضعا لتفسير عقلي صارم.
المثالية الألمانية، رغم بدايتها النقدية، انتهت عند هيغل إلى نسق مغلق يزعم تفسير كل شيء، ويحوّل الواقع إلى مجرّد تجلٍّ للفكرة المطلقة
من هنا نفهم أيضا اهتمام المثالية الألمانية بفلسفة التاريخ، أي محاولة تفسير مجرى التاريخ الإنساني لا كترتيب اعتباطي للأحداث، بل كعملية عقلية تتطور فيها الروح نحو وعيها بذاتها وحريتها. كل مرحلة تاريخية، بحسب هيغل، تعبّر عن لحظة في هذا التطور، وكل أزمة أو صراع هي تعبير عن تناقض داخلي يدفع التاريخ إلى الأمام.
غير أن هذا الطموح الهائل لم يَسلم من الانتقادات. فقد وُجّهت إلى المثالية الألمانية انتقادات كثيرة، أبرزها المبالغة في مركزية الذات عند فِشته، الذي اختزل الواقع إلى مجرد انعكاس لنشاط الأنا. كما انتُقدت النزعة الميتافيزيقية الغامضة عند شلينغ، الذي تحدّث عن الهوية المطلقة للطبيعة والعقل دون توضيح كافٍ. واعتُبرت المثالية في كثير من الأحيان نخبوية تجريدية، تعتمد على مفاهيم يصعب ربطها بالتجربة اليومية، مثل المطلق والروح.
كذلك، انتُقِدت نزعتها إلى تجاهل الفردية لصالح الكلي، واهتمامها بالعقل على حساب الجسد، وبالروح على حساب الواقع المادي. وقد جاءت فلسفات لاحقة، كالماركسية والتحليل النفسي والوجودية، لتواجه هذه الجوانب مباشرة: فماركس التفت إلى العوامل المادية، وفرويد نبّه إلى اللاشعور، وكيركغارد دافع عن الذات الفردية أمام جبروت النسق الهيغلي.
وأخيرا، فإن المثالية الألمانية، رغم بدايتها النقدية، انتهت عند هيغل إلى نسق مغلق يزعم تفسير كل شيء، ويحوّل الواقع إلى مجرد تجلٍّ للفكرة المطلقة. ولهذا، يُنظر إليها أحيانا على أنها ذروة المشروع الحداثي، لا تجاوزه. لكنها، في الوقت نفسه، تبقى منجما خصبا للمفاهيم الكبرى، وموردا لا غنى عنه للفكر المعاصر، سواء في نقد الحداثة أو في محاولة بنائها من جديد.