أثر "الزن" على هايدغر بين الحقيقة والتأويل

اللاهوتي الذي تخلى عن العقل واتجه نحو الشعر

GettyImages
GettyImages
مارتن هايدغر خلال نقاش في توبينغن، ألمانيا، عام 1961

أثر "الزن" على هايدغر بين الحقيقة والتأويل

ينطلق هذا المبحث من مفارقة مثيرة. الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر (1889-1976)، أحد أعظم مفكري العالم في القرن العشرين، يصل في أواخر فلسفته إلى نقاط التقاء عميقة مع "الزن" البوذية، أحد أكثر التقاليد الشرقية بعدا عن الفلسفة الغربية الكلاسيكية. فما الذي جمع بينهما؟ بدأ الالتفات من تصريح للفيلسوف الأميركي وليام باريت حين نقل، نقلا غير مباشر، عن هايدغر أنه تحدث عن دي تي سوزوكي قائلا: "إذا كنت أفهم هذا الرجل جيدا، فهو يقول ما كنت أحاول قوله طيلة حياتي". من هو هذا الرجل؟ دي. تي. سوزوكي (1870–1966) كان أستاذا في جامعة طوكيو وفيلسوفا ومترجما ومعلم "زن" من اليابان، له دور حاسم في إدخال مفاهيم "الزن" البوذي إلى العالم الغربي. لكن الواقع أن هايدغر لم يذكر سوزوكي بالاسم في كتاباته المعروفة.

نفور من الميتافيزيقيا

هناك ثلاث خصائص تفسر انجذاب بعض المفكرين إلى المقارنة بين هايدغر و"الزن". أولاها أن الطرفين ينفران من الميتافيزيقا. فـ"الزن" لا تهتم بوضع نظريات حول الواقع أو الحقيقة، بل تعتبر الميتافيزيقا نفسها عائقا أمام تجربة الوجود. وثانيتها الخطاب غير العقلاني. خطاب "الزن"، مثل خطاب هايدغر المتأخر، شعري، رمزي، لا يخضع لقواعد منطقية. وثالثتها التحول الوجودي. كلاهما لا يسعى إلى "شرح" العالم، بل إلى إحداث تغيير جذري في وجود الإنسان، عبر القلق أو الاستنارة.

رواية باريت مشكوك فيها إلى حد كبير، رغم أنه فيلسوف يحظى باحترام مستحق، ممن شاركوا في برنامج برايان ماغي "الفلاسفة العظماء" (بي بي سي، 1987) الذي لا يزال من أفضل البرامج التلفزيونية في هذا الحقل. لكن لا وجود لنص في كتب هايدغر يظهر تأثرا مباشرا بـ"الزن"، والعبارة التي ذكرها باريت لم توثق كتابيا.

لكن هناك انسجاما بنيويا واضحا ومشاركة في المصطلحات. ويبدو أن هايدغر وصل بطريقه الخاص إلى رؤى تشبه تلك التي تطرحها "الزن"، دون أن يكون متأثرا بها. هذا يشبه ما قيل عن الألماني ميستر إيكهارت (1260-1328)، الذي وصف بأنه أقرب مفكر غربي الى "الزن"، رغم أنه لم يسمع به قط، فقد مات إيكهارت قبل أن تصل الحملات التبشيرية إلى الصين واليابان. ثمة تصوف عالمي يجمع هؤلاء الناس، وإن كنت أنفي أن يكون هايدغر صوفيا.

فلنضع إصبعا على أن كتاب "الوجود والزمان"، النص المتمرد، كان ذروة الفلسفة الغربية في زمنه، لكنه في الوقت نفسه كان لحظة قطيعة وانفصال عنها وعن الحداثة، وشطبا لكل تاريخ الفكر الغربي، وانتقال رجل متمرد على تقاليد قومه نحو تفكير غير مفاهيمي، يشبه "الزن" من حيث النتيجة، لا من حيث المصدر.

يبدو أن هايدغر وصل بطريقه الخاص إلى رؤى تشبه تلك التي تطرحها "الزن"، دون أن يكون متأثرا بها

في "الحديث عن اللغة"، يدخل هايدغر في حوار مع مفكر ياباني حول إمكان التواصل بين الشرق والغرب، فيتفقان على أن اللغة نفسها هي العائق أمام الوصول إلى الوجود، لكنها في الوقت نفسه الوسيلة الوحيدة المتاحة. هايدغر يرى أن "اللغة بيت الوجود"، لكنها بيت متشقق متخرق، لا يمكن السكن فيه دون وعي بمحدوديته. و"الزن" ترى أن اللغة مجرد إصبع يشير إلى القمر، ولذا لا يجب التشبث به. ومع ذلك، فـ"الزن" لا ترفض اللغة كلية، بل تستخدمها ضد نفسها بهدف تفكيك التفكير العقلاني. يستخدم هايدغر الشعر بالطريقة نفسها، لا ليشرح، بل ليشير، وليكشف ما لا يسمى. وهذا أسلوب سلبي إيحائي صامت يلتقي بوضوح مع "الزن".

قضية الزمن

يميز هايدغر بين "الخوف" و"القلق"، ويرى أن مواجهة الموت ليست حدثا بل إمكان دائم، أي أن وجودنا وجود في مواجهة الموت. من يواجه الموت بوعي يصبح حرا، أصيلا. بينما تتحدث "الزن" عن "الموت الكبير" بوصفه موت الأنا، لا الجسد. من يتجاوز ذاته يتجاوز الموت.

AFP
راهب بوذي خلال احتفالات اليوم الثالث من "لوسار"، رأس السنة لدى البوذيين من شعوب التامانغ والشيربا والتيبت

والوقوع fallness، ذلك المصطلح الذي ترجم "بالسقوط" بكل حمولته الدينية، فأربك فهم القارئ الذي تخيل الأمر يتعلق بالخطيئة، هو على الأقرب تشتت الإنسان في القيل والقال، وفي "الهم اليومي"، وفي العيش كواحد من الـ"هم" في الوجود غير الأصيل، وإن كان لا يصف هذا الوجود بالزيف، بل نمط عيش مقبول لكن ليس بأصيل. "الزن" تسميه "الجهل"، "النسيان"، "الانغماس في الوهم".

ولعل قضية الزمن أهم القضايا المشتركة، ولذا سنوضح كيف أنهما يختلفان فيها. في "الزن"، هناك "الآن السرمدي" ليس لحظة ضمن سلسلة، بل نقطة انكشاف لا زمنية. لا يوجد سوى لحظة الآن، فلا ماض ولا مستقبل. أما عند هايدغر، فالإنسان المهموم بوجوده ليس موجودا في "الآن" فقط، بل هو زمن يمشي. يحمل ماضيه، ويسائل إمكاناته، وينوجد في الحاضر. لكن الزمن عنده ليس "سلسلة من اللحظات"، بل هو نمط وجود، وهو ما يسميه "الزمانية". الزمن الحاضر عند هايدغر ليس هو المركز أو "الآن" الثابت الذي نفكر فيه عادة في التصورات التقليدية للزمن، بل هو لحظة مشتقة أو "معدلة"، وليست الأصل في تجربتنا الزمنية. يمكن توضيح أهمية الزمن الحاضر في فكر هايدغر عبر النقاط التالية:

الزمن الحاضر ليس الأصل. في الفهم الوجودي للزمن، لا ينطلق هايدغر من "الحاضر" بوصفه الأساس الذي تشتق منه الماضي والمستقبل، بل بالعكس. يرى أن البنية الزمنية الأصيلة للوجود الإنساني، الإنسان المهموم بوجوده، تنبع من "الاستباق" نحو المستقبل و"الاسترجاع" للماضي، وليس من الحضور اللحظي.

والحاضر "يشتق" من الانشغال. ما نسميه عادة بالحاضر هو في الواقع وضعية يعيش فيها الإنسان في انشغال عملي بالعالم، يستخدم أدوات ويتفاعل مع الآخرين ضمن أفق مستقبلي له جذور ماضية. الحاضر ليس لحظة تأمل، كما في "الزن"، بل لحظة اندماج في العالم.

في "الزن"، هناك "الآن السرمدي" أما عند هايدغر، فالإنسان المهموم بوجوده ليس موجودا في "الآن" فقط، بل هو زمن يمشي

ينتقد هايدغر التصور الأرسطي للزمن، القائم على التسلسل العددي للحظات: ماض حاضر ومستقبل. ويبين أن هذا التصور مشتق من تعاملنا مع الزمن كشيء نقيسه، لا كتجربة نعيشها.

معنى الحاضر

الآن لا يفهم إلا من خلال الإمكان. بحسب هايدغر، الحاضر يكتسب معناه ضمن مشروع الإنسان وانفتاحه على إمكاناته، أي أن معنى "الآن" لا يمكن عزله عن المستقبل الذي يتجه إليه الإنسان، والماضي الذي يعود إليه.

الحاضر هو لحظة انكشاف، لا لحظة تجمد. ففي الانفعالات مثل القلق أو الفرح، يتكشف العالم بمعنى جديد، وهنا يعاد تشكيل الحاضر بوصفه لحظة يتغير فيها فهم الإنسان لوجوده، لا مجرد زمن رقمي.

القلق يجرد الحاضر من مضمونه الأداتي. في لحظة القلق، يفقد الحاضر طابعه المألوف، وتنهار الأدوات ودلالاتها. عندها، يظهر الحاضر بوصفه فراغا مفتوحا على الإمكان، وليس لحظة ثابتة مليئة بالمعاني المعتادة.

الزمن الحاضر في فلسفة هايدغر هو نتاج لحركة الوجود الزمني للإنسان، وليس نقطة انطلاق. قيمته تكمن في أنه نتيجة لتوتر الإنسان بين ماضيه ومشروعه المستقبلي، ومن ثم فإن فهم الحاضر يتطلب فهم الوجود بوصفه "تقدما زمانيا" لا مجرد وقوف في "الآن". من يعيش في "الوقوع" يذوب في الزمن اليومي والمواعيد والتوقيت. أما من يعيش في "الأصالة"، فهذا يدرك الزمن كوجود منفتح، كمجال للانكشاف. اللحظة الأصيلة عند هايدغر ليست نقطة بين ماض ومستقبل، بل هي انكشاف فجائي للإمكان الحقيقي للوجود. لكنه، حتى حين يقر بأهمية الحاضر، لا ينسى المستقبل بوصفه الفضاء الأصيل للإمكان. أما "الزن"، فـتنكر مركزية الزمن، وتدعو إلى تفكيك فكرة المستقبل أصلا.

الزمن قلب فلسفة هايدغر المبكرة، و"اللحظة الحاضرة" هي لب تجربة "الزن". والتقاطع بينهما هنا ليس شكليا ولا لغويا، بل يمس نمط الوجود نفسه. كيف يكون الإنسان في العالم؟ كيف يتعامل مع "الآن"؟ كيف يخرج من وهم الامتداد الخطي للزمن؟

AFP
رهبان بوذيون يطلون على البحر من معبد في جزيرة بينغتان

كل من هايدغر و"الزن" يرفضان الزمن الخطي الكمي، ويريان أن اللحظة الحقيقية لا تقاس، بل تعاش. لكن الفرق هو أن هايدغر يصل إلى هذه الفكرة عبر تحليل ظاهراتي معقد للزمانية. أما "الزن" فيصل إليها عبر ممارسة صامتة تتجاوز التفكير.

ما يقربهما أن كلا منهما يريد أن يحرر الإنسان من سجن التوقيت، ومن الزمن الذي يقاس وينتظر. لكن "الزن" طريقة عملية، وهايدغر تأملي. هنا يكمن جوهر الفرق. فبينما يصف هايدغر تجربة الوجود، ويستنبطها، فإنه لا يقدم طريقة عملية للوصول إليها. "الزن"، في المقابل، تراث حي من الممارسات الروحية، فيه المعلم والانضباط الجسدي والتأمل الصامت.

العتبة الأخيرة

"الزن" لا تشرح الحقيقة، بل تدفعك لتصطدم بها. والمفارقة أن هايدغر، رغم تأثره العميق بهذا النموذج، لم يفلح في تخطي العتبة الأخيرة: لم يخرج من الذات المفكرة، ولم يقدم طقسا، بل ظل في لغة الشعر والفكر.

كل من هايدغر و"الزن" يرفضان الزمن الخطي الكمي، ويريان أن اللحظة الحقيقية لا تقاس، بل تعاش

في تأملات "الزن"، لا معنى لسؤالك: متى أصل؟ أو إلى أين أمضي؟ لأن هذا السؤال نفسه علامة على أنك لست هنا. والراهب حين يتأمل، لا ينتظر كشفا ولا لحظة إدراك، بل يسكن في اللحظة كما هي.

ورغم أن هايدغر بلغ حدا بعيدا في التخلي عن مفردات الميتافيزيقا الغربية، إلا أنه ظل مفكرا، لا ممارسا. لم يترك وراءه طريقة عملية للتأمل أو طريقة اختراق، بل سلسلة من التلميحات والشذرات الشعرية. طاف حول الصمت، لكن لم يسكنه. أشار إلى الزهد، لكنه لم يعشه. فتح الباب، لكنه لم يعبره.

ومع ذلك، فلا يمكن إنكار الخطوة التي خطاها هايدغر في اتجاه الصمت، في اتجاه ما لا يقال، والتي شكلت واحدة من أجرأ محاولات التفلسف في القرن العشرين، وأكثرها اقترابا من التجربة الصوفية. لم يكن الصمت عنده نقصا في اللغة، بل انكشافا لنقطة عجز اللغة ذاتها، ووعيا بذلك العجز.

وهنا يقترب من معلمي "الزن" لا من حيث النتائج فقط، بل من حيث الإيمان العميق بأن الوجود لا يمسك عبر التحديد، بل عبر الإشارة، وأنه لا يفهم إذا ما حوصر بمفاهيم جاهزة. كما أن تجربة التناهي عنده، ووعي الإنسان بموته، لا تفضي إلى العدم، بل إلى حضور مضاعف، إلى حياة تعاش بكثافة، إلى أصالة شبيهة بما تطلبه "الزن"، وإن كانت تختلف عنه في نقطة محورية: "الزن" تتجاوز الموت، في حين يجعله هايدغر محور الفهم الأصيل.

الاختلاف الجوهري إذن ليس في النتائج الظاهرة، بل في النبع الذي يشرب منه كل منهما. "الزن" تراث روحي حي، قادم من ممارسة بوذية قديمة، تنبني على طقوس وتجارب جماعية وروحية. هايدغر، في المقابل، ابن تقليد فلسفي ألماني، تشكل وعيه في رحم اللاهوت المسيحي، وخصوصا مع تأثير العارف المسيحي ميستر إيكهارت، الذي كان أول من شق اللغة اللاهوتية من الداخل، وأشار إلى "اللاشيء" لا بوصفه عدما، بل بوصفه تجليا، وكان يؤمن أن الله لا يدرك من الخارج، بل عبر سكون داخلي يكشفه في لحظة عري. هذا التقاطع بين إيكهارت و"الزن" يشرح لنا لماذا بدا هايدغر، أحيانا، بوذيا وهو ليس كذلك.

إننا أمام لحظة فريدة في تاريخ الفكر: مفكر غربي، لاهوتي سابق، يتخلى عن العقل ويتقدم نحو الشعر ويترك التحليل ويصغي إلى الصمت ويهرب من الماهية إلى الحدث، ومن الجدل إلى الكشف. هذه اللحظة لا تعني أنه تبنى "الزن"، بل أنه عبر طريقا أخرى، وانتهى إلى عتبة التقى فيها "الزن" من جهة مقابلة. لا يجوز إذن اختزال هايدغر في أنه "زني"، ولا رفض المقارنة كلها. ربما أن الحقيقة في المنتصف: بين الحقيقة والتأويل.

font change


مقالات ذات صلة