ينطلق هذا المبحث من مفارقة مثيرة. الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر (1889-1976)، أحد أعظم مفكري العالم في القرن العشرين، يصل في أواخر فلسفته إلى نقاط التقاء عميقة مع "الزن" البوذية، أحد أكثر التقاليد الشرقية بعدا عن الفلسفة الغربية الكلاسيكية. فما الذي جمع بينهما؟ بدأ الالتفات من تصريح للفيلسوف الأميركي وليام باريت حين نقل، نقلا غير مباشر، عن هايدغر أنه تحدث عن دي تي سوزوكي قائلا: "إذا كنت أفهم هذا الرجل جيدا، فهو يقول ما كنت أحاول قوله طيلة حياتي". من هو هذا الرجل؟ دي. تي. سوزوكي (1870–1966) كان أستاذا في جامعة طوكيو وفيلسوفا ومترجما ومعلم "زن" من اليابان، له دور حاسم في إدخال مفاهيم "الزن" البوذي إلى العالم الغربي. لكن الواقع أن هايدغر لم يذكر سوزوكي بالاسم في كتاباته المعروفة.
نفور من الميتافيزيقيا
هناك ثلاث خصائص تفسر انجذاب بعض المفكرين إلى المقارنة بين هايدغر و"الزن". أولاها أن الطرفين ينفران من الميتافيزيقا. فـ"الزن" لا تهتم بوضع نظريات حول الواقع أو الحقيقة، بل تعتبر الميتافيزيقا نفسها عائقا أمام تجربة الوجود. وثانيتها الخطاب غير العقلاني. خطاب "الزن"، مثل خطاب هايدغر المتأخر، شعري، رمزي، لا يخضع لقواعد منطقية. وثالثتها التحول الوجودي. كلاهما لا يسعى إلى "شرح" العالم، بل إلى إحداث تغيير جذري في وجود الإنسان، عبر القلق أو الاستنارة.
رواية باريت مشكوك فيها إلى حد كبير، رغم أنه فيلسوف يحظى باحترام مستحق، ممن شاركوا في برنامج برايان ماغي "الفلاسفة العظماء" (بي بي سي، 1987) الذي لا يزال من أفضل البرامج التلفزيونية في هذا الحقل. لكن لا وجود لنص في كتب هايدغر يظهر تأثرا مباشرا بـ"الزن"، والعبارة التي ذكرها باريت لم توثق كتابيا.
لكن هناك انسجاما بنيويا واضحا ومشاركة في المصطلحات. ويبدو أن هايدغر وصل بطريقه الخاص إلى رؤى تشبه تلك التي تطرحها "الزن"، دون أن يكون متأثرا بها. هذا يشبه ما قيل عن الألماني ميستر إيكهارت (1260-1328)، الذي وصف بأنه أقرب مفكر غربي الى "الزن"، رغم أنه لم يسمع به قط، فقد مات إيكهارت قبل أن تصل الحملات التبشيرية إلى الصين واليابان. ثمة تصوف عالمي يجمع هؤلاء الناس، وإن كنت أنفي أن يكون هايدغر صوفيا.
فلنضع إصبعا على أن كتاب "الوجود والزمان"، النص المتمرد، كان ذروة الفلسفة الغربية في زمنه، لكنه في الوقت نفسه كان لحظة قطيعة وانفصال عنها وعن الحداثة، وشطبا لكل تاريخ الفكر الغربي، وانتقال رجل متمرد على تقاليد قومه نحو تفكير غير مفاهيمي، يشبه "الزن" من حيث النتيجة، لا من حيث المصدر.