هناك مفكرون كبار من الحتميين الذين لا يؤمنون بحرية الإنسان، ولا يرونه حرا إلا في الخضوع لحتمية الوجود. الجبر أو الحتمية أو الضرورة، المعنى واحد هنا. مارتن هايدغر ليس من هؤلاء. لا يمكن القول إن الحرية عند هايدغر هي مجرد قبول الإنسان لحتمية الوجود، لأن مفهوم "الحتمية" نفسه ينتمي إلى الفلسفات الميتافيزيقية التي كان يسعى إلى تفكيكها وقضى حياته في محاربتها لأنها كلها انشغلت بالموجودات ونسيت التأمل في الوجود، موضوعه الأوحد.
الحتمية مفهوم ينتمي إلى العلم أو الميتافيزيقا القديمة وهي تصورُ كل شيء على أنه محدد سلفا بقوانين سببية. هذا النوع من التفكير ناتج عن رؤية كائناتية، أي تنظر إلى الإنسان كشيء بين أشياء. أما هايدغر، فـيريد تجاوز هذا الفهم الكائناتي للإنسان، نحو فهم أنطولوجي، أي ينتمي إلى علم الوجود. الإنسان ليس كائنا محددا، بل هو "مكان انكشاف الكينونة"، والحرية عنده تعني: الانفتاح على إمكانات الذات (الإنسان). موقفه ليس حتميا ولا حرا بالمعنى السارتري، حيث يرى جان بول سارتر أن الإنسان حر رغم أنفه ولا شيء يملك سلطة عليه.
هناك خيار ثالث، فهايدغر لا يؤيد هذا ولا ذاك. بل عنده أن الإنسان منفتح على إمكانياته الوجودية. هو مسؤول عن أن يختار أصالته أو أن يسقط في التسطح، له أن يختار الوجود الأصيل أو أن يختار الوجود المزيف. الحرية هي أن تملك الجرأة لأن تكون أنت/أنت، أمام الموت، في عراك مع الوجود، لا في خضوع له. قبول المصير هذا لا يعني الحتمية.
في كتابه الخالد "الوجود والزمان"، يستخدم هايدغر تعبيرا مهماً: "امتلاك الإمكان الأصيل" و"التصميم الحازم". وهذا لا يعني أن نرضى بما هو مفروض سلفا، بل يعني أن نختار وأن نستجيب لما يفتحه الوجود لنا من إمكانات، بدل أن نُسحق تحت اليومي والعام.
الإنسان عند الحتميين كائن محكوم بقوانين سببية، والحرية وهمٌ أو خضوع للجبرية، والعلاقة بالوجود هي علاقة خضوع لا اختيار فيه. والإنسان عند هايدغر وجود منكشف على الإمكان، والحرية انكشاف على الذات الأصيلة، والعلاقة بالوجود هي انفتاح واستجابة له. استجابة وجودية أصيلة للنداء الذي يوجهه الوجود، وهذا يتطلب شجاعة، لا خنوعا.
المقارنة بين حرية هايدغر وحرية سبينوزا بالغة الإثارة، لأن كلا منهما يرفض المفهوم الشائع للحرية بوصفها "القدرة على الاختيار بين بدائل"، لكنهما يصلان إلى هذا الرفض عبر طريقين مختلفين تماما. ثمة نقاط التقاء بين الفيلسوفين العظيمين، فكلاهما يرفض الحرية كتحكم إرادي بسيط. كلاهما يرى أن الإنسان حر حين لا يخدع نفسه. بالنسبة إلى هايدغر، الإنسان حر عندما لا "يسقط" في الزيف اليومي. وعند سبينوزا، يكون عقلانيا عندما لا يظن أنه حر وهو في الحقيقة "منفعل" بقوى لا يعيها.
هناك نقاط اختلاف جوهرية والسبب اختلاف منهجيهما، فهايدغر منهجه أنطولوجي وجودي، وسبينوزا عقلاني رياضي.
تعريف الحرية عند هايدغر هو الانفتاح على الكينونة، أي أن نكون مستعدين لنجعل الوجود يَظهر، لا أن نفرض عليه معاني جاهزة. وأن نعيش بحسب الإمكان الأصيل للإنسان. والحرية لا تعني الاختيار بين بدائل، بل تعني الانكشاف على إمكانات الذات في ضوء الفناء والموت. والإنسان حر حينما لا يهرب من مصيره، بل يملكه بوعي أصيل. الإنسان ينتمي إلى الكينونة، وإن كان لا يملكها، بل يستقبلها بإنصات وقلق. والعقل ليس جوهر الحرية، بل الوجود الصامت العميق. لا يمكن إدراك الكينونة من خلال العقل الصارم التحليلي، بل من خلال السكوت، والسكينة، والتخلي. والحرية تمر عبر "القلق" ونفي السقوط في الحياة اليومية. والموت هو الحد الذي يعطي الوجود معناه. والشِّعر والصمت أدوات كشف. والقلق يكشف الحرية.
غاية مشروع سبينوزا الفلسفي بكل وضوح، هي تحرير الإنسان من الجهل والانفعال، وتمكينه من بلوغ السعادة عبر العقل والفهم الضروري للطبيعة
أما سبينوزا فيعرّف الحرية بأن نكون علّة أنفسنا، وأن نتصرف وفق طبيعتنا وضرورة العقل. ولذلك لا تعني الحريةُ الاختيار، بل هي الفهم العقلي للضرورة، لا الاختيار بين بدائل. العقل والمنطق أدوات فهم، والإنسان يكون حرّا فقط حينما يفهم أن أفعاله ضرورية (حتمية) نابعة من ذاته. والموت تناهٍ في القوة، لا يحمل دلالة وجودية. والنفي ضعف، والحرية لا تحتاجه. غاية مشروع سبينوزا الفلسفي بكل وضوح، هي تحرير الإنسان من الجهل والانفعال، وتمكينه من بلوغ السعادة عبر العقل والفهم الضروري للطبيعة. عنده أن الحرية هي الفهم العقلي للضرورة، وكلما ازددت فهما، ازددت حرية. الحر هو من يعرف لماذا يفعل ما يفعل، أي يعرف الأسباب الحتمية لأفعاله، ومن هنا يولد السلام الداخلي.
ويعيش هايدغر في عالم آخر بعيدا كل البعد عن براهين سبينوزا الهندسية. إنه لا يحب التفكير الحسابي من الأساس. الحرية عند الفلاح الألماني هي الانكشاف الوجودي على إمكانية الذات الأصيلة، وكلما ازددت إنصاتا وانفتاحا، اقتربت من أصالتك. المشروع كله في كتاب "الوجود والزمان" هو التالي: كيف يمكن للإنسان أن يفهم الوجود؟ وكيف فشل تاريخ الفلسفة، من أفلاطون حتى نيتشه، في فهم هذا الفرق العميق؟ وإن كان من شيء لنا أن نفعله، فهو أن نصم آذاننا ولو لبرهة عن الضجيج الذي تُحدثه الأشياء، لكي نسمع نداء الوجود، نداء الحقيقة، فإذا أصغينا وعرفنا فمن المستبعد أن نعود في غيّنا السابق. لا بد أن أعترف أن هايدغر يبدو أقرب، بل متجاوز لسبينوزا، وأنه متفضل على الإنسانية بتحريرها مما كان يثقل كاهلها من قيود. وإن كان شيئا عظيما أيضا أن نفهم هذين المفكرين العظيمين: سبينوزا حررنا من الانفعال والجهل، وهايدغر حررنا من سبينوزا، من ضمن آخرين.