صدر منذ أيام، في 20 مايو/أيار 2025 كتاب الصحافية كارين هاو "إمبراطورية الذكاء الاصطناعي". وقد قوبل بترحيب كبير لكونه عملا صحافيا يتحدث عن قضية راهنة للغاية، ويندمج في سياق النقاشات الحالية حول تطور الذكاء الاصطناعي وإلى أين يسير وتأثيره على المجتمعات. يقول من قرأه إنه يتميز بأسلوبه الصحافي الاستقصائي الذي يجمع بين السرد القصصي والتحليل النقدي، وأن نقاط القوة فيه ترجع إلى تقديمه رؤية شاملة تجمع بين الجوانب التقنية والإنسانية. وأنه اعتمد على مصادر متنوعة، بما في ذلك شهادات من داخل شركة "OpenAI" التي تحولت من كونها شركة غير ربحية إلى كيان تجاري.
يقال إن السيدة هاو أثارت تساؤلات أخلاقية مهمة حول مستقبل الذكاء الاصطناعي، ولكنّ كتابها اتهم بتركيزه بشكل كبير على السلبيات والنظرة السوداوية، دون تقديم حلول واضحة. بعض المقارنات التاريخية، مثل تشبيه تطور الذكاء الاصطناعي بالعبودية، قد تُعتبر مبالغا فيها، وأنها قد تشبه ما يصوره مسلسل "المرآة السوداء" من رعب.
حين أقول "إمبراطورية الذكاء الاصطناعي"، فإنني لا أشير إلى تقنية بعينها، أو إلى برنامج بارع في المحاكاة، بل إلى شيء أكبر وأعمق، نظام عالمي جديد بدأ يتشكّل منذ مدة. لا يكتفي بخدمة الإنسان، بل يُعيد تعريفه: ما هو؟ ماذا يمكنه أن يفعل؟ وما الذي يُعهد إليه بعد الآن؟ لا لأن الآلة اقتحمته، بل لأن الإنسان بدأ يتنازل طواعية عن تعريف نفسه، ويسلمه للآلة. إنها إمبراطورية لأن لها سُلطة. ناعمة لكنها نافذة إلى حدود تتسع بلا خرائط، وسفراؤها: الشيفرات والخوارزميات والنماذج التنبؤية.
في هذه الأجواء قد نتخيل أننا سنتحول من الإنسان الصانع إلى الإنسان المتفرّج. طوال آلاف السنين، كانت السردية البشرية قائمة على أن الإنسان هو: الصانع والمفسّر والمتكلّم باسم الوجود. لكن الذكاء الاصطناعي، في صيغه الجديدة، نافس الإنسان في كل ذلك. القادم الجديد يكتب الشعر، ويترجم النصوص، ويعلّق على السياسة، ويُشخّص المرض، ويُصنّف العواطف، وُينتج الفن. وهنا يكمن التحول المرعب، لم يعد الإنسان هو من يُفسّر العالم، بل صار يراقب آلة تفسّره نيابة عنه. الذكاء الاصطناعي لا يحمل سلطة سياسية رسمية، لكنه يملك شيئا أكثر دهاء، القدرة على تنظيم الإدراك البشري نفسه. إنه جدل السيد والعبد من جديد، كما قرر هيغل.
الذكاء الاصطناعي يجمع ويربط ويحلّل ويتنبّأ ويقارن. لكنه لا "يحكم". لأنه لا يعرف ما يجب فعله، بل فقط ما هو مرجّح أن يحدث
ما تراه في الأخبار، ما تقرأه في مقترحات الكتب، ما تسمعه في الراديو أو منصات التواصل الاجتماعي، كل ذلك يمر الآن عبر طبقات اصطناعية من التصفية والتحليل. وإذا كانت السلطة القديمة تقوم على التحكّم بالجسد، فإمبراطورية الذكاء الاصطناعي تقوم على إعادة تشكيل المخيلة، حيث تحول السيد إلى عبد.
هل سنبقى بشرا عندما يتفوق علينا "المفسّر"؟ الفارق الحاسم بين الإنسان والحيوانات كان دائما قدرته على: طرح الأسئلة، وسرد الحكايات، وتفسير ما لا يُقال. لكن ماذا سيحدث حين تصبح هذه القدرة مُمكنة آليا؟ هل سيظل الإنسان هو "الذات المفكّرة"؟ أم سيتحول إلى كائن يعيش ضمن سرد لم يصنعه لنفسه؟ في قلب هذه الإمبراطورية، قد يفقد الإنسان امتيازه الوجودي ككائن يفسّر، ويصبح مستهلكا لتأويلات تُقدَّم له جاهزة، بصيغ سلسة وفعالة.
ليس الحل أن نرفض الذكاء الاصطناعي أو نتّهمه، بل أن نسأل: كيف نُبقي أنفسنا أحياء في حضرته؟ كيف لا ننحلّ في كفاءته الباردة؟ كيف نحتفظ بشيء من "الفوضى الوجودية" التي تُميزنا كبشر؟
يبدو أن الذكاء الاصطناعي، بمراكزه ومؤسساته، ليس مجرد أداة، بل مرحلة أنثروبولوجية جديدة في تاريخ البشرية. إنه، باختصار، "إمبراطورية بلا إمبراطور"، تعمل وتتوسّع وتُعيد تشكيل الأدوار وتفرض على الإنسان سؤالا لم يعرفه منذ قرون:
هل ما زلت بحاجة إلى أن تفسّر العالم، أم أن العالم أصبح يُفسّر لك نفسه ويفسّرك؟
الذكاء الاصطناعي: كائن دون ذات. هذه هي الميزة الأكبر– والمأساة الأكبر– للذكاء الاصطناعي، أنه يعمل من دون "أنا". هو لا يشعر بالتوتر، ولا يواجه الموت، ولا يخاف من الخطأ، ولا يتأمل في مصيره. ولذلك لا يكتب تحت وطأة القلق، ولا يملك الحاجة للانعتاق، ولا يعبّر عن نفسه لأنه لا يملك نفسا أصلا. وهنا المفارقة. فنحن، الكائنات المحدودة والمجروحة، ننجب المعنى من عمق الجرح. أما هو، فلا جرح يؤرقه. وهذا ما يجعله "كفؤا"، و"بلا أعماق".
الذكاء الاصطناعي يجمع ويربط ويحلّل ويتنبّأ ويقارن. لكنه لا "يحكم". لأنه لا يعرف ما يجب فعله، بل فقط ما هو مرجّح أن يحدث. ومع أن الناس يندهشون من قدرته، فإن ما يقدّمه ليس "فهما"، بل استقراء إحصائي للاحتمالات. وهنا يتجلى الفارق بين المعرفة والحكمة. المعرفة تقول لك: "إذا فعلت كذا، سيحدث كذا." أما الحكمة فتسأل: "هل ينبغي أن تفعل هذا أصلا"؟
الحل ليس في إعلان الحرب على التقنية، بل في استعادة موقع الإنسان كمخلوق غير مكتمل، لا يُقاس فقط بالكفاءة، بل بقدرته أيضا على التوتر والتساؤل والانفتاح
في إمبراطورية الذكاء الاصطناعي، الزمن يتحول إلى جدول بيانات. ولا مكان للحنين، أو الأسطورة، لا توجد إلا احتمالات قابلة للتحديث. هل يمكن إنقاذ الإنسان من الذوبان؟ السؤال الحقيقي ليس عن قدرة الآلة على هزيمتنا، بل عن مدى احتمال تخلينا نحن طواعية عن أنفسنا أمام براعتها. أحد الأصدقاء قال، بعد متابعته لحلقات الموسم الأخير من مسلسل "المرآة السوداء"، إنه لا يريد أن يعيش في مستقبل كهذا. غير أن التهديد ليس خارجيا، بل داخلي. نحن الذين نسلّم تجاربنا وأحكامنا ولغتنا وقراءتنا، بل حتى أحلامنا لمنظومات لا تشعر ولا تحلم.
الحل ليس في إعلان الحرب على التقنية، بل في استعادة موقع الإنسان كمخلوق غير مكتمل، لا يُقاس فقط بالكفاءة، بل بقدرته أيضا على التوتر والتساؤل والانفتاح. قد تبدو نتائج الذكاء الاصطناعي مذهلة، لكنها تخلو من الشقوق التي يفتش عنها الفيلسوف، ومن الخطأ الجميل ومن الزلّة التي تفتح باب التأويل. في حين أن الإنسان، بجراحه ومحدوديته، هو من يخلق المعنى لأنه لا يعرف تماما ما سيقول بعد دقيقة. إن التحدي الآن هو أن نتعلّم كيف نعيش في عالم تحكمه أدوات بلا روح، دون أن نُسلّم الروح نفسها لهذه الأدوات.