ديكتاتورية التفاهة!

ديكتاتورية التفاهة!

[caption id="attachment_55227248" align="aligncenter" width="620" caption="زمن التويتر والتواصل عبر الهاتف الذكي"]زمن التويتر والتواصل عبر الهاتف الذكي[/caption]

لا أعرف اين مرّت بي هذه العبارة في وصف علاقة العرب بتقنية الاتصالات الحديثة:"التقنية مرّت بنا في الوقت الخاطئ".
العبارة كما أتذكر هي للناقد والشاعر السوري الشهير "أدونيس".

ربما قال هذه العبارة في وقت سابق لثورة الفيسبوك والآن تغريدات وحملات "التويتر"، آخر صيغ التواصل والتفاعل على الانترنت، والاتصال بالانترنت، كما نعلم، الذي لم يعد مشروطا بجهاز "لابتوب" محمول معك، وقبله بجهاز كمبيوتر مكتبي "ديسك"، بل أصبحنا مع جيل "الهواتف الذكية" متصلين بشكل دائم ومستمر بعالم الانترنت وعلى الأخص منه، علبة البريد، او الايميل، وموقعي الفيسبوك والتويتر.

هناك سلوكيات جديدة فرضت نفسها على أنماط العلاقات والتفاعل بين الناس، تحطمت السدود والحواجز بين عالم الواقع وعالم الخيال والافتراض، الكل يفضي إلى الكل، كما لو أنك في غرفة مرايا، كل شيء يعكس كل شيء!

تجد الشخص، وهذه شاهدتها أكثر من مرة، جالسا في مجلس دردشة مع أصدقاء، ولنقل إنها حول موضوع عام، سياسي أو رياضي أو حتى نقاش أدبي متنوع، ثم تجد هذا الشخص منكبا على هاتف" الآيفون" يلامس شاشته بأنامله، وتفتح أنت جهازك الآيفون وتدخل موقع التويتر، لتجد أن صديقك الذي بجوارك على المقعد، قد نقل جانبا من جو الجلسة، وتفاعلاتها إلى "التايم لاين" على التويتر ليطلع عليه الالآف وربما مئات الالآف بفعل "الرتويتة" أي نقل ما كتبه الشخص إلى حسابات مشتركين اخرين..وهكذا! علما أن نفس هذا الشخص، قبل بضعة أشهر، كان يحضر بكل تركيزه وانتباهه في المجلس.

لقد دخلت العوالم ببعضها، وتحطمت الفواصل بين الخاص والعام، وخرج حديث الصوالين، او أغلبه، إلى الفضاء العام، ومع هذه الثورة تحطمت أشياء كثيرة أصبحت تنتمي للعالم القديم من التواصل البشري.

[caption id="attachment_55227252" align="alignleft" width="275" caption="فيس بوك وتويتر.. أكثر من تواصل اجتماعي "]فيس بوك وتويتر.. أكثر من تواصل اجتماعي [/caption]

هل هذا جيد؟


من الصعب إطلاق حكم عام على الجودة والسوء، وبأي معيار، لكن الأكيد أنها "ثورة" ستغير، بل غيرت فعلا، في مفهوم الخاص والعام، والنخبة والجماهير، والسر والجهر، وما يقال وما لايقال، ومفهوم "الحيز" العام.

حتى مفهوم المخابرات، ووظيفتها، بالمعنى الأمني والسياسي، قد تغير، وقد قرأت حوارا نشر هذه الأيام مع أحد مسؤولي المخابرات المصرية السابقين قال فيه إن 90 في المائة من المعلومات المخابراتية موجود فعلا على الانترنت، وإنه قد تقلصت وظيفة رجل المخابرات الى أضيق الحدود في المعلومات، وتضخم الدور العملاني الأرضي له في التواصل الإنساني المباشر.

هنا تكمن في نظري المشكلة، وهي أن هناك "تخمة" معلوماتية هائلة في العالم، بشكل يصعب معه الفرز بين الصحيح والمزور، والحقيقي والمبالغ فيه، والشخصي والموضوعي، إضافة إلى أن التسابق على الشهرة الانترنتية وخلق قاعدة عريضة من الجماهير والمتابعين لهذا الاسم الانترنتي أو ذاك، تدخل الجميع في "لهاث" من أجل التفرد والإدهاش وشد الأنظار، الأمر الذي يكون على حساب التحقق والدقة، لدرجة أن المعلومات تحولت في الأعم الأغلب إلى شائعات، وأحيانا تخرج المعلومة وهي بعد لم تنضج أو حتى لم تخلق في مطابخ القرار لتتحول في غمضة عين إلى خبر يتدفق بسرعة مهولة في كل وسائط الاتصالات والمواقع، وربما يكون تصحيح او تصويب أو تكذيب هذه المعلومة أقل حظا بكثير في الانتشار.

هناك تضخم هائل في أوعية النقل ولكن هناك فقر دم شديد وسوء تغذية في ما ينقله الدم الذي يجري في هذه الشرايين الالكترونية!

مشكلة أخرى أشد ضررا وفداحة، يبشر البعض من مريدي الانترنت بأن عصر الورق والكتب قد انتهى وأننا في عصر المعلومات السريع، وهذا يعني طبعا انحسار القراءة الجادة(كتب، دوريات، مجلات متخصصة، أبحاث...الخ) لحساب التدوين السريع على تويتر(واقع 140 حرفا للتغريدة الواحدة)، مما يخلق وهم الفهم والثقافة بسبب استسهال "الحكي" في الشأن العام، الذي هو بطبيعته مشتبك بالدين والسياسة والتاريخ والاجتماع والاقتصاد، خصوصا في زمن مضطرب وحاد التحولات في المجتمعات العربية المعقدة، كهذا الذي نعيشه في ما يسمى بالربيع العربي.

من يجد وقتا من مدمني هذه المواقع للقراءة بهدوء وترو ليفهم طبيعة المشكل السياسي والاجتماعي، وأزمات الذاكرة المأزومة في مجتمعاتنا؟ بل من يجد حتى وقتا لقراءة نص ابداعي لذيذ وجاد في نفس الوقت؟

هل نملك حلا، سوى نقد هذه التفاهة والسطحية؟

طبعا لا.. ولكننا نملك فقط الشكوى منها حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
font change