آمال هشة لكنها ضروريّة

آمال هشة لكنها ضروريّة

[caption id="attachment_55230107" align="aligncenter" width="620" caption="المرأة التونسية بعد الثورة: لا تراجع عن المكاسب والحقوق "]المرأة التونسية بعد الثورة: لا تراجع عن المكاسب والحقوق [/caption]

سَقطَت في العام (2011) أنظمة و أسَاطير كثيرة، كانت تعيش كمُسلمَات في أدبيات المُنظرين والمُفكرين، تُكسبهم الحُظْوَة والمَكانة الخاصة، ويكسبونها المتانة والهالات، مثل نظريات فهم المجتمعات العربية ورصد حراكها والتنبؤ بسلوكها، والاستقرار السِّياسي، فما حدث لم يستطع توقعه علماء الاجتماع، ومحللو السِّياسات، والمُثَقفون، وكثير منهم لم يُواكب "جوَهر" الحِراك العربي الفكريّ بعد، ولا زال مشغولاً بالخلافات التّفصيلية، بعيدًا عن قراءة المستقبل.

تعطلت قرون استشعار علماء الاجتماع، بعدما انشغلوا بتفسير وتبرير ما بدا من استقرارٍ سياسي، فبعد موجة الدراسات الاجتماعية في الثمانينات التي انشغلت "بتفسير" الاستقرار وبررته بقدرة الحاكم الواحد أو النظام العسكري، ركّزت طروحات المفكرين في التسعينيات والسنوات القريبة على "تفسير الاستقرار" بعمق البعد المؤسسي والبنيان التنظيمي للأنظمة العربية، وكانت الطروحات بعيدة عن التوتر الاجتماعي، إلا بالقدر الذي توثق به لأسطورة الاستقرار، ولكن الأحداث أثبت أن القدرات التكيفية للنظام، ومرونته واستغلاله الخلافات بين المعارضين، ليست كفيلة بإبقائه. كما فشلت نظريّة استخدام المؤشرات الاقتصاديّة والكميّة في تدعيم التنبؤات الاجتماعية، فتقارير تونس وليبيا ومصر، كانت تشير إلى تقدم لا تقهقر.

لذلك، لم يتورع أستاذ العلوم السِّياسية بجامعة فيرمونت ف.غريغوري غوس، عن دعوة علماء السياسة والاجتماع إلى العودة الى "لوحة التعلّم"، وقال في مقال نشرته الفورن افيرز في عدد أغسطس (آب) الماضي: "مع سقوط النماذج وتمزق النظريات بفعل الأحداث على الأرض..، ينبغي على الأكاديميين وصناع السياسة الاعتراف بتواضع، بعدم قدرتهم على صوغ المستقبل، والأفضل ترك الأمر للعرب أنفسهم"، ولكن متى يفرغ مفكرو وسياسيو العرب لذلك، وهل يمكن صوغ المستقبل بعقول خائفة مضطربة، وأنفاس غاضبة، وأيادي الانتقام!

التخوّف من المجهول و التحسّب القَلِق من غموضه، لم يعد مقتصرًا على الإحساس تجاه المستقبل، فتسارع الأحداث جعل "التفاصيل الضروريّة" من الواقع، بمثابة المستقبل في غموضها و بعثها للتوجس والخيفة، فتلازَم مع الخوف اضطراب، أدى إما للغرق في سجالات التاريخ وخلافاته "المعروفة" أو تفاصيل الحاضر "الثوري"، ورافق ذلك خطاب "حماسي" متعجل، تغيب عن كثيرٍ من مَلامِحه الرّؤية الاستراتيجية المستقبلية. كما أشغلت الناس خلافات سِياسية إيديولوجية "قشوريّة" عن ما يمس الإنسان من الاضطراب الاقتصادي العميق ومشكلات الطاقة ونضوب الموارد.

نعم، الدخول في عمق الأحداث العظيمة مُرهِق، ومحاولة فهمها وتتبع تطوّرها يوازي محاولة صنعها، وبين الفكرة والفعل، سِر غامض يضرب على وَترِه دون قصد المفكر أو المحلل السياسي، فيبدو موازيًا لصانع الحدث، و متى أجاد ربط الخيوط والمعطيات التاريخيّة، صار من صانعيها واكتسب أهميّة تاريخيّة توازي أهمية صانع الحدث. ولكن حينما يغرق الجميع في "تفاصيل الواقع" فإن الخلافات تعطّل عجلة كل شيء.

[caption id="attachment_55230108" align="alignright" width="300" caption="غريغوري غوس"]غريغوري غوس[/caption]

في هذه المرحلة، بعد انتخاباتٍ أتت بأحزاب جديدة لم تكن في الحكم "بشكل مباشر"، تأتي قضايا كتابة الدستور، وإدارة المرحلة الانتقاليّة، وتطوير التفكير الاستراتيجي، وإعادة إدماج القوى الفاعلة، وترتيب الصف الوطني، كقضايا مهمة، تحفّز على طرح تساؤلات جديّة عن ملامح المستقبل، وأجوبتها مرهونة بتعاطي القوى الفاعلة مع "مخرجات" التجربة الثقافية الإنسانية السِّياسة الاجتماعية السابقة، و توظيفها ومكتسبات الماضي.

أيكون الدستور الجديد -مثلاً- "متراكَم خبراتٍ ثقافية وقانونيّة" بنفَس حر واسع، أم سيتبَنى الحاكمون الجدد دستور القطيعة مع الماضي، خاصة الحداثي؟ هل ستمحى الخبرة القانوينة والحقوقية المصرية والتونسيّة مثلاً، ويُسمح للصوت الأعلى بأن يكفّر الماضي "الرسمي" ويعتبره جاهلية معرفية وثقافية وسياسية ودينية، ويعتز بمواقف أسلافه المعارضة؟

الأهم، أين قضايا المستقبل من هذا كله؟ صحيح أنّ ملامح الجدال الشعاراتي التاريخي المفتوح تطل برأسها، ولكن الأرضية التي يُرجى أن تقوم عليها الدساتير الجديدة، هي أرضيّة تخاطب قضايا وأزمات وتحديات إنسان المستقبل، ولا تنغلق على حمولات التراث السلبي، الذي يخاطب قضايا إنسان عصر سابق.

ربما تكون بذرة الأمل موجودة في المستقبل، وليس الماضي، فهو يَحمِل التّحديات المَفتوحة أمام الجميع، ويُمكن توحد الناس إزاءها، لكن إذا لم يتبرع المفكرون بدراسته سيواصل من هو دونهم الغرق في تفاصيل آنية قشورية.

دور النخبة المثقفة هنا لا ينبغي أن يكون مقصورا على الرصد والمتابعة والتحليل، بل ينبغي أن يركز على اجتهادات، وتحديد التوجهات والسيناريوهات المستقبليّة، وتوجيهها الوجهة التي تحقق مصالح المجتمع وتحميها، وتخاطب قضايا جيل قادم، لا نريده أن يكون "وريث تاريخ فاسد، من الثورات الفاسدة والتقنيات المجنونة"، فعلى المثقف أن يدرك واجبه بخدمة قضيتي الحرية والحقيقة، فبهما فقط يستطيع أن يحقق التوازن، ويكرم المستقبل، ليكرمه.

في ظل ضعف الخبرة العربية في مجال حقوق الإنسان، وبناء النظام، والديموقراطية، وفاعالية المثقف، تبدو الآمال هشة، ولكنها ضرورية.
font change