"مريض تتناهبه السياط".. المسرح العراقي بين زمنين

"مريض تتناهبه السياط".. المسرح العراقي بين زمنين

[caption id="attachment_55231892" align="aligncenter" width="620" caption="عندما تهوي الملائكة"]عندما تهوي الملائكة[/caption]

تعد مسرحية "عندما تهوي الملائكة" تعبيرا صارخا عن الظلم الذي يقع على المرأة وكيف صارت الأحداث السياسية والاجتماعية تتطور ضدها وليس معها، وهذا العمل هو الثامن عشر ضمن الأعمال التي يقدمها "ستوديو الممثل" الذي أسسته روناك شوقي بجهد شخصي، وتعاون مجموعة من المبدعين ومحبي المسرح، حيث تقول" أسست تجمع استوديو الممثل الذي يقدم عروضا مسرحية عربية جادة، وكنت دائما احدث نفسي قائلة لمن أعمل في المهجر؟ فأجد أني أعمل لمبدأ المسرح الذي أؤمن به، وقد قدمت المسرحية الأخيرة" عندما تهوي الملائكة" بعد عشرين عاما من تأسيس التجمع، الذي بقيت جهوده فردية لم نتلق فيها أي دعم مؤسساتي لأعمالنا، والمسرحية معدة عن قصة للكاتب الروسي انطوان تيشخوف بعنوان "العنبر رقم 6"، لكني حولت شخصياتها إلى نساء، لأني أشعر أن في البيوت العراقية القديمة الكثير من النساء المظلومات، فالحياة هناك تتجه الى القمع الانساني وليس الفكري فقط، لذا لابد من اظهار صوت المرأة للتعبير عن نفسها، فضلا عن أن التعبير الجسدي للمرأة على المسرح أكثر تحررا وقدرة على ايصال الرسالة التي يقدمها العمل الفني".

المسرح العراقي بين زمنين

ثمة تساؤل يدور حول ماهية وضع المسرح العراقي اليوم، وكيف يمكن مقارنته بالمسرح في ظل نظام صدام، وهل حقق الحرية التي يطمح اليها الفن بعد سقوط الدكتاتور؟
تشير روناك شوقي إلى أن "هناك تجارب مسرحية جادة كانت تعمل في العراق، ففرقة المسرح الفني الحديث كانت تواصل تقديم عروضها المسرحية الجادة اضافة إلى الفرقة القومية، ومع قدوم الحرب ظهرت أعمال مسرحية شعبية تهدف الى اضحاك الجمهور وإلهائه، وكانت حركة موجهة لتنشيط المسرح التجاري استقطبت أسماء معروفة. وصار الاسفاف والتهريج سمة عامة لأعمالهم.

وقد كان المسرح التجاري سبة على المسرح العراقي، لأني أؤمن بأن المسرح هو مبدأ فكري وأخلاقي، والتنازل عنه يعني أن تتنازل عن كل شيء يخص الإبداع، لذا اشعر بالحنق والغيظ لما حصل في المسرح التجاري، مع ذلك لا بد أن أؤكد أنه على الجانب الآخر كان الأكاديميون والمسرحيون الجادون يقدمون أعمالهم برمزية عالية مثل اي منتج ابداعي آخر لتجنب عين الرقيب وقمع الدكتاتورية. وبالتأكيد لا يمكن تجاهل الأعمال المسرحية المؤدلجة التي كانت تتكلم باسم السلطة للترويج للانتصارات الكاذبة".

[caption id="attachment_55231893" align="alignright" width="240" caption="روناك شوقي في مسرحية عندما تهوي الملائكة"]روناك شوقي في مسرحية عندما تهوي الملائكة[/caption]

وحين تنتقل روناك إلى المسرح في يومنا هذا تقول إنه "ليس كما نطمح أو نتمنى، اذا لا تتوفر للمبدع فرصة العمل المؤسساتي. وأغلب الأعمال التي تقدم هي بجهود ودعم مادي فردي، يمكن أن يرهق المسرحي ويعيق عمله إذ أنه لا يركز على العملية الابداعية فقط، وانما ينبغي أن يوفر كل متعلقات عمله المادية.. بينما بدأ الجمهور العراقي وخاصة في المهجر بالانغلاق على نفسه، فهو يعيش حالة يأس كبيرة من الوضع الداخلي، فضلا عن أن كل الأحداث السياسية التي مرت بالعراق خلقت فردية عالية وأنانية تجعل من الصعب أن تجد من يعمل من أجل الآخر.

بين مطرقة الدكتاتورية وسندان الفساد الحكومي

وتقييم حالة المسرح العراقي بين زمنين مختلفين تحتاج إلى شروحات كما يؤكد كاظم النصار، مخرج مسرحي عراقي، فيقول "لا يقاس الأمر بالأسود هناك والأبيض هنا، نعم كانت هناك رقابة مشددة فى الزمن السابق رقابة مركزية لصالح النظام، ولكن توجد كذلك مؤسسة مسرحية فاعلة لديها برنامجها، على الرغم من شحة المال المرصود للمسرح، حيث قدمت عروض منتظمة ومشاركات خارجية ومسارح مضيئة حتى بسيادة المسرح الاستهلاكي.. وكانت هناك لجنة لتطوير المسرح، وبرزت عروض مهمة بدافع المعارضة الرمزية للسلطة، ولم تكن هناك فضائيات تنافس المسرح على الكادر البشري النوعي، وانما كانت الحرية غائبة، لكن المسرح حاضر عبر الرمز والاشارة والايماءة والتعارض الرمزى للعروض المسرحية".

وبعد عام 2003 تراجعت قوة السلطة المركزية لصالح قوى مجتمعية أخرى، لذا ظهرت حرية مشروطة فى العروض المسرحية، ونشط الانفتاح على المهرجانات العربية والدولية التي بقيت محصورة كذلك على الاسماء التى أسست لنفسها مكانا إبان النظام السابق.

[caption id="attachment_55231894" align="alignleft" width="175" caption="باسم حجار "]باسم حجار [/caption]

ويشير النصار إلى أن المسرحيين كانوا يحاولون المحافظة على المسرح "بالذهاب الى المؤسسات المستقلة للثقافة، لكن هذه المنظمات مازالت وليدة او شبحية، فبقيت الحاجة الى التمويل المركزى للحكومة مستمرة. فى حين تراجع دور المؤسسات الحكومية بسبب الفساد المالى والاداري، وتراجع المسرح وغاب الموسم المسرحي، وغابت السياسة الثقافية الحرة، وظلت البنى التحتية للمسارح مخربة، مثل مسرح الرشيد ومسارح الاحتفالات التي مازالت تحت سيطرة العسكر. كما غابت المهرجانات النوعية المحترفة. ففي الوقت الذى تتجه البلاد تدريجيا الى الاقتصاد الحر مازالت الحاجة الى التمويل المركزى للمسرح لكي يقف على قدميه دون تدخل سياسي".

نشأة المسرح العراقي

المسرح العراقي ولد بعيدا عن عوالم الحرفة والارتزاق، قريبا جدا من عوالم الادب والجمال مشتغلا على مفاهيم حساسة في الحياة اليومية العراقية، الوطن والوطنية والاستقلال. هذا ما قاله الدكتور سلام الاعرجي، أستاذ فلسفة الفن والإخراج المسرحي في كلية الفنون الجميلة ـ جامعة بابل وسكرتير رابطة بابل للفنانين والكتاب في هولندا، متحدثا عن تاريخ نشأة المسرح العراقي وأسبابها مؤكدا أن "المسرح ما ان توفر على سمة السياسي والوطني، حتى اخترق عوالم الاقتصاد والاجتماع والعادات والتقاليد والقيم الموروثة، مؤسسا نقيضها الحداثوي والمعاصر منطلقا من قواعد مهمة ميزته عن سواه من المسارح العربية فهو أكاديمي النشأة ذلك ما جعله ينفتح على العديد من الأساليب والطرائق والمناهج الاخراجية والتقنية، اشتغل على النص العالمي ليتوفر على فضاءات ابداعية اكبر بكثير من التي يمكن ان يوفرها له النص المحلي ـ فبلغت نسبة العروض المسرحية لنصوص أجنبية في سبعينيات القرن الماضي 80% وتنوعت اساليب الاخراج تنوع المخرجين، جاسم العبودي، ابراهيم جلال، سامي عبد الحميد، بدري حسون فريد، محسن العزاوي، عوني كرومي، صلاح القصب، فاضل خليل، عادل عبد الكريم. وقد بلغ ذروته الابداعية وعصره الذهبي الذي امتد من أواخر الستينيات حتى منتصف الثمانينيات، حيث شهدت تلك الفترة من عمر المسرح ولادة العديد من المعاهد والكليات الفنية التي رفدت المسرح بقدرات وطاقات شبابية متعلمة مثقفة أكاديمية وحرفية .

كما شهدت تلك الفترة ولادة العديد من الفرق المسرحية في بغداد وعموم الوطن - الفني الحديث/ الخيمة/ بغداد/ الشعبي/ الـ60 كرسي/ الفرقة القومية/ الفرق النقابية/ فرق نقابات فنون المحافظات/ وغيرها - ومن أبرز سمات تلك المرحلة ـ الذهبية - هيمنت الطابع التجريبي على كافة عروض المؤسسة الاكاديمية المسرحية من جهة وهيمنة القراءات الاخراجية المتحررة من ضوابط ولزوميات الطرائق والمناهج المسرحية التي جاء بها الدارسون من أوروبا وأميركا ، فتمكن بذلك تقنيو مؤسسات الفضاء المسرحي المادية من انتاج عوالمهم داخل خطاب العرض على وفق متعدد الرؤى من الواقعي الى الفنتازي . وكانت تلك المرحلة قد سجلت حضورا بارزا للمسرح العراقي وطنيا وعربيا نخبويا وجماهيريا.

ويتناول الأعرجي حالة المسرح العراقي في عهد الدكتاتورية بقوله: سعى نظام صدام الى تهميش المسرح العراقي وافراغه من كوادره وتحطيم بناه التحتية وإنتاج المسرح النقيض للمسرح الجاد والملتزم. وكانت تلك الإجراءات قد تمت بضرب القوى الوطنية والتقدمية الذي أدى الى هجرة الكثير من الكوادر المسرحية الفنية والتقنية.

[caption id="attachment_55231895" align="alignleft" width="180" caption="سلام الاعرجي"]سلام الاعرجي[/caption]

كما سهل ذلك على النظام من الحد من حريات وأنشطة البقية المتبقية من مبدعين. وكذلك عدم قبول الطلبة في المعاهد والكليات الفنية في حال عدم تزكيتهم أو انتمائهم الى حزب البعث، مما أدى الى افراغ تلك المؤسسات من قدراتها الحيوية وتسطيحها. فضلا عن ابتداع ما يسمى لجنة الرقابة الفكرية واجازة النصوص وهي لجنة واسعة الصلاحيات، اسهمت في الغاء الكثير من العروض المهمة (دائرة الفحم البغدادية /ابراهيم جلال.. الاخوة كرامازوف/ حميد محمد جواد) وغيرها من العروض وايقاف البرنامج المسرحي السنوي الوطني منه والأكاديمي وتحويل الفعالية المسرحية الجماهيرية الى فعالية مهرجانية سنوية، حيث تعمل الفرق المسرحية - المتبقية - جاهدة من اجل المشاركة في مهرجان المسرح العربي ببغداد او مهرجان المسرح العراقي.

وفي الوقت ذاته نشأت حركة المسرح النقيض، الذي شكل الضربة الحقيقية للمسرح العراقي الجاد والملتزم، حيث افرغته من جماهيره العريضة وابعدته عن تطلعاته الفنية والتقنية والتي جعلته في يوم منافسا، بل ندا قويا للعديد من المستويات المسرحية العربية والعالمية، بمسرحها التهريجي القائم على السفاهة والضحك الغريزي والنكتة السوقية والكلمة المبتذلة، وكان لفرقة المسرح العسكري الريادة في هذا الانحطاط وأعقبتها مجاميع تدعي الفن فأوغلت في الإساءة الى المسرح العراقي وصار الرقص المبتذل – راقصات الملاهي الليلية - والاغاني السريعة والنكتة الخادشة للحياء والضحك على الممثل "الاركوز" من ابرز سمات تلك المسارح، ان المؤلم في ذلك التحاق بعض الاسماء المسرحية بهذه المجاميع.

أما المسرح اليوم فيشكل حقبه مختلفة تماما عن الماضي، لكن الدكتور الاعرجي لا يفصلها أو يحررها من تبعات المرحلة السابقة إذ يقول "نعتقد ان المسرح كما باقي المؤسسات الفنية والثقافية، لا يمكنها ان تستعيد دورها، وتنهض بمهامها، حتى تستعيد بناها التحتية وتتوفر لها الحرية التامة في التعبير عن ذاتها الابداعية. تلك الحرية المشفوعة بالحماية القانونية والرعاية المؤسساتية. ولا اجد ذلك متوفرا لها في الوقت الحاضر وربما لسنوات قادمة من وجهة نظر متفائلة جد!!
لماذا؟ ان أساليب القمع هي ذاتها لم تختلف، وسلطة الرقيب العاملة المؤدلجة بديماغوجية قاتلة عادت لتعمل بالضوابط الدينية! ان مفهوم الحلال والحرام سيلعب دورا مهما في انتقاء النص وآليات المعالجة وآليات التلقي، بل ان مفهوما جديدا يروج له في الاوساط الاكاديمية حتى مفاده ( المسرح الديني ) وهو المفهوم البديل لمفهوم المسرح التجاري الذي اطلقته المؤسسة النقدية الصدامية على مسرح التهريج والارتزاق.


[caption id="attachment_55231897" align="alignright" width="133" caption="كاظم النصار"]كاظم النصار[/caption]


ان هيمنة السلطة الدينية الجديدة لم تتوقف عند هذا الحد، حتى ان العديد من مؤسساتها غير المنتجة راحت تستولي على المباني العائدة لجهات فنية وثقافية ومباني مسرحية وتحيلها الى (حسينيات) فإذا كانت حركة (مدرسي) قد احتلت نقابة الفنانين في النجف، فقد احتل المجلس الأعلى بناية الإدارة المحلية التي تتوفر على أكبر بناية مسرحية في المحافظة توفرت على صالات عرض مسرحي وسينمائي مبنية على وفق مواصفات فنية وهندسية عالمية، وأصبح اسم المبنى الحسينية الفاطمية وراح خطيب الحسينية يفاخر انهم جعلوا من هذا "المكان المدنس بقعة طاهرة".

ان المسرح من الفعاليات التي تحتاج الى الدربة والمران لأسابيع او شهور عديدة، وفي حال عدم توفر المكان وعدم توفر الأمن لا يمكن ان يتم ذلك بل هو استحالة، فالانفلات الأمني واحد من أهم الأسباب التي عوقت عودة المسرح العراقي الى جماهيره، كما ان الاجتهادات الفقهية ستبقى معوقا أبديا للمسرح العراقي.

الفنان المسرحي المقيم في السويد باسم حجار يلخص حال المسرح العراقي بقوله: "المسرح في زمن الدكتاتورية كان اكثر نشاطا، للاسف، ليس بسبب ان النظام كان يشجعه، ولكن لأنه كان مشغولا جدا بآلة الحرب المتواصلة. اضافة إلى هذا النظام كان غير مثقف تماما، والعاملين في المسرح كانوا نشطين جدا، وفي بعض الأحيان يتحايلون عليه باستخدام الرمزية العالية والاشارات التي لم يفهمها النظام الدكتاتوري ولا العاملون كأذرع له. بينما نجده اليوم شحيح الانتاج بسبب ظروف الحياة في بغداد، وخلال مراقبتي للمشهد العراقي، أؤكد أن المسرح لا ينمو في هكذا أوضاع، فأبسط مقومات قيام مسرح حقيقي غير موجودة، وكأن هذا الفن الجميل قد عاد إلى نقطة الصفر".

دلال جويد
font change