من الذي سيوفر الغذاء للمليارين الآتيين؟

من الذي سيوفر الغذاء للمليارين الآتيين؟

[caption id="attachment_55235360" align="aligncenter" width="620" caption="أفريقيا.. فقر وجفاف وحروب"]أفريقيا.. فقر وجفاف وحروب[/caption]



بحلول عام 2050، سيرتفع حجم الطلب على الغذاء بنسبة تتراوح ما بين 70 إلى 100 في المائة، وسيتجاوز تعداد سكان العالم 9 مليارات نسمة. كما ذكرت تقديرات منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، أن تلبية حجم الطلب المتوقع سيتطلب زيادة بنسبة 50 في المائة في استثمارات قطاع الزراعة في الدول النامية، بما يعني أن يضاف إلى حجم تلك الاستثمارات 70 مليار دولار سنويا.


قرار صائب




من المؤكد أن زيادة حجم الاستثمارات في العالم النامي هو القرار الصائب. ففي عام 2050، سيرى العالم أن ملياري نسمة إضافية يحتاجون إلى الغذاء، علما بأن الجزء الأكبر من هذه الزيادة السكانية متمركز في أفقر الدول التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي. ويعد التركيز على الاستثمار في هذه الدول منطقيا من وجهة النظر العالمية، إذ ان حجم إنتاجية العديد من الدول الفقيرة يمثل جزءا ضئيلا للغاية، مما يمكن إنتاجه في ظل توفر الوسائل التكنولوجية والخبرات والبنية التحتية المناسبة. لذلك ستعمل الاستثمارات على تقليص هذه الفجوة في الإنتاج، مما سيحسن من وضع الأمن الغذائي في الدول الفقيرة، بل وسيساهم أيضا في تنويع إنتاج الغذاء.

وبالفعل، يعتمد الأمن الغذائي في العالم على الإنتاج في عدد من المناطق الرئيسية ليس أقلها الأميركتين، أكبر مركزين للتصدير في العالم. ومن دون إجراء تغييرات في الزراعة، وفي ظل تفاقم ظاهرة التغير المناخي، من المرجح أن يزداد وقوع عبء الإنتاج على عاتق المناطق معتدلة المناخ، خاصة أميركا الشمالية وأوروبا، حيث ستكون آثار التغير المناخي، على الأقل على المدى المتوسط، أقل حدة وقد تكون حميدة. لذلك يصبح من المهم إقامة قطاعات زراعية منتجة ومرنة وسهلة التكيف في الدول النامية، التي تقع في مقدمة الدول التي تعاني من ظاهرة تغير المناخ، من أجل مستقبل الأمن الغذائي.

وعلى هذه الخلفية، يبدو ما تشهده الزراعة في الدول النامية من زيادة حالية في الاستثمارات هو ما نحتاج إليه بالفعل.

فقد أعلن بحث أجرته حديثا مبادرة «التحالف الدولي للأراضي» ـ التي تدعمها عدد من منظمات المجتمع المدني الدولية ومعاهد أبحاث ومنظمات متعددة الجنسيات ـ إجراء تصديق على صفقات تشتمل على نحو 203 ملايين فدان من الأراضي فيما بين عامي 2000 و2010، وهي مساحة تبلغ ثمانية أضعاف مساحة الولايات المتحدة الأميركية. ويبدو أن معظم تلك العقود أبرمت في الأعوام القليلة الماضية، بعد أزمة أسعار الغذاء التي حلت عام 2008 والتي جعلت من الزراعة قطاعا جاذبا للاستثمار.




وهكذا بدأت الاستثمارات تتدفق في الاتجاه الصحيح، حيث تقع مساحة 134 مليون فدان، أي أكثر من نصف المساحة الإجمالية للعقود، في أفريقيا، وهي المنطقة التي تعاني من أوسع فجوة في الإنتاج، وأكبر تحديات مناخية، وأشد انعدام للأمن الغذائي، وأكثر حاجة للاستثمارات. وتأتي آسيا في المرتبة الثانية، حيث توجد بها العديد من الدول المعرضة لمخاطر أزمات المناخ والأمن الغذائي.


فساد مستشر




ولكن تتوقف الأخبار الإيجابية عند هذا الحد، فعلى أرض الواقع، تبدو الأمور أقل بعثا على التفاؤل. أحيانا ما يشوب الفساد هذه التعاقدات. وبدلا من الحصول على وظائف وفرص، كثيرا ما يتعرض السكان الفقراء إلى التشرد أو يفقدون القدرة على الوصول إلى الأراضي أو المياه أو الموارد الطبيعية الأخرى. لم يتوصل إلى تلك النتائج جماعات مناهضة للعولمة أو ما شابه ذلك، ولكنها أشياء وثقتها منظمات متعددة الجنسيات ومراكز أبحاث ومنظمات أهلية دولية. وبالإضافة إلى تهديد الأمن الغذائي للسكان المحليين، يبدو أن العديد من صفقات الأراضي لا تضيف شيئا إلى الأمن الغذائي العالمي. حيث يشير بحث صادر عن البنك الدولي إلى أن نحو 80 في المائة من التعاقدات المذكورة، ما زالت متوقفة. ويثير قلق مماثل أيضا، اكتشاف أنه في حين يظل الغرض المذكور هو التنمية الزراعية، فإن تلك الأراضي نادرا ما تستخدم من أجل ذلك، فوفقا لبحث التحالف العالمي للأراضي، تستخدم 40 في المائة من تلك التعاقدات من أجل إنتاج الوقود الحيوي، في مقابل 25 في المائة من أجل المحاصيل الغذائية.


ماذا يجري إذن؟




هناك أنواع مختلفة من المستهلكين الذين لديهم دوافع مختلفة، حيث يستجيب بعض المستثمرين في القطاع الخاص للطلب على الأراضي، الذي خلقته المبادرات السياسية في بلدانهم، على سبيل المثال أهداف الوقود الحيوي، أو خطط تخفيض انبعاثات الكربون.

فيما يسعى آخرون أساسا وراء فرص جديدة لتطوير الإنتاج الزراعي. وتستثمر بعض الحكومات، القلقة بشأن الاضطرابات السياسية التي يمكن أن تنشأ عن ارتفاع أسعار الغذاء بالخارج، لكي تتمكن من توفير المنتجات وتقليل الاعتماد على الأسواق الدولية (ومع ذلك يشير البحث الذي أجراه «التحالف الدولي للأراضي» إلى أن وسائل الإعلام قد ركزت على نحو غير متوازن على الاستثمارات التي تدعمها الدولة من الخليج والصين رغم أن معظم الاستثمارات تأتي من القطاع الخاص غالبا على المستوى المحلي).

ويبدو أن دافع تحقيق الربح مؤثر، فهناك عائدات هائلة للغاية يمكن تحقيقها. ومما لا شك فيه أن عدم تطوير الأراضي المستحوذ عليها يشير إلى دوافع تتعلق بالمضاربة، في الغالب يراهن العديد من المستثمرين على ارتفاع سعر الأراضي أكثر من مشاركتهم في التجارة الصعبة والخطرة لزراعة الغذاء وتطوير البنية التحتية، فيما يحصل البعض الآخر على الأراضي عبر المراهنات على أمل الوصول إلى الموارد المعدنية فيما تظل زراعة تلك الأراضي مجرد مسألة هامشية.

وعلى جانب العرض، تتوق العديد من الحكومات لجذب الاستثمارات على أمل أن تتمكن من توفير فرص العمل، وتحسين البنية التحتية وتعزيز الأمن الغذائي. ولكن في البلدان ذات المؤسسات الضعيفة، وقوانين ملكية الأراضي القديمة وعمليات الاستثمار المريبة، فإن زيادة تلك الصفقات يكون في العادة مرتبطا بالفساد والاستيلاء على الموارد والساعين وراء المكاسب الريعية.


مخاطر النزاع




يظهر التاريخ الحديث أن المراهنين من المستثمرين، والمؤسسات الضعيفة، وضعف الشفافية، جميعها عوالم تخلق المخاطر، حيث إن تكديس الأراضي في أيدي الشركات النافذة والنخب وإقصاء المجتمعات المحلية من ملكية الأراضي، يعزز الفرصة لنشوب النزاعات. وهو ما يفرض مخاطر واضحة على المستثمرين، إلا أنه من الواضح أن هناك عددا قليلا يتعامل مع ذلك بجدية، نظرا لاستمرار انعقاد الصفقات في ظل ضعف الشفافية وانعدام الاستشارات المجتمعية والوعود الخاوية بفرص العمل. وفي بعض الحالات، ربما يفاقم المستثمرون النزاعات تحت شعار إدارة المخاطر. وتشير الأدلة إلى أن البعض يطالب بحقوق المستخدم الأول بشأن المياه كجزء من الصفقات لتعزيز أمن المياه الخاص بهم، ولكن ذلك يعرض في الوقت ذاته للصدام مع المجتمعات المحلية والمزارعين الذين يعتمدون على المياه في حياتهم.




وحيث تحدث الاستثمارات في ظل صدع اجتماعي وسياسي موجود من قبل أو سياسات التوزيع، ترتفع معدلات التعرض لخطر النزاعات. فقد وجد بحث حديث أجراه معهد «تشاثام هاوس» أن صفقات الأراضي في إثيوبيا، كانت تتركز في المناطق المهمشة، التي يقطنها ريفيون والتي تؤوي عددا من الحركات الانفصالية. وهو ما يبدو أنه جزء من استراتيجية حكومية أوسع للتكامل السياسي والاقتصادي، ولكنه من المرجح أن يعزز التوترات في تلك المناطق.


استعمارية جديدة




ومن الواضح أن الحكومات تواجه بنفسها المخاطر. فهناك خطاب يتزايد في العديد من البلدان حول «الاستعمارية الجديدة» و«الزحف الجديد إلى أفريقيا» حيث أصبح السكان مستنفرين. وفي غيرها من البلدان، تنمو حركات المجتمع المدني النشطة في مواجهة «الاستحواذ على الأراضي». وفي معظم الحالات المتطرفة يمكن أن يمثل الغضب الشعبي تهديدا وجوديا للحكومات التي لا تحظى بشعبية: فقد سقطت حكومة مدغشقر في 2009 بعد الغضب الشعبي تجاه اتفاقية إذعان منحتها الحكومة لمؤسسة «دايو» من كوريا الجنوبية.

ومن المرجح أن يتحول الغضب الشعبي إلى سياسات شعبوية وارتدادات، مثل التأميم والذي له تداعيات سياسية أخطر على المستثمرين. فحاليا، تبحث الحكومات في البرازيل والأرجنتين تشريعا للحد من قدرة المستثمرين الأجانب على شراء الأراضي الزراعية، فيما اضطرت حكومة تنزانيا إلى الدعوة إلى وقف استراتيجيتها للوقود الحيوي في أعقاب احتجاجات من منظمات المجتمع المدني المحلية والأكاديميين. وسوف تعرض أزمات الغذاء المستقبلية الحكومات لاختبار أصعب. فهل من المنطقي بالنسبة للحكومات، التي لديها سكان غاضبون، أن تسمح بتصدير الغذاء المزروع محليا لبلدان المستثمرين؟
في المحصلة، دائما ما يخلق الاستثمار في الأراضي فائزين وخاسرين، سواء على نحو حقيقي أو مزعوم، ويمكنه أن يؤثر على التوترات الاجتماعية والسياسية الموجود بالفعل. وهو ما يزيد من خطر التعرض للنزاعات، خاصة حيث لا تقدم الاستثمارات مزايا واضحة أو تبدو موسومة بالفساد. ويمكن للاستثمارات المسؤولة أن تقلل (وإن كانت لن تقضي) على تلك المخاطر: حين تضمن الشفافية، والتشاور مع المجتمعات المحلية وتخلق فرص العمل وفرص الحياة وتطور البنية التحتية، وتحافظ على الموارد الطبيعية وما إلى ذلك. وذلك تماما هو نوع الاستثمارات المطلوب، إذا ما أردنا مواجهة تحديات الأمن الغذائي العالمية.


روبرت بيلي
باحث ببرنامج الطاقة والبيئة والتنمية بتشاثام هاوس
• «وورلد توداي» ـ خاص بـ«المجلة»
font change