"كتاحة" السودان.. ربيع قادم أم صيف حارق؟

"كتاحة" السودان.. ربيع قادم أم صيف حارق؟

[caption id="attachment_55237871" align="aligncenter" width="620"]السودان.. أو عندما يتحول علم الوطن إلى علم للزعيم السودان.. أو عندما يتحول علم الوطن إلى علم للزعيم[/caption]


ما قاله أو. كولينز، يصحّ، لأن السُّودان، بلد المتناقضات، فهو سلّة غذاء العالم العربي "الجائعة"، وبلد التسامح "المتناحر"، وبلد "الفقراء" الغني، يشقه أطول أنهار العالم، وتحرّك قبائله صراعات المياه، كما أنّه البلد الذي لا يمكنك فيه التنبؤ بشيء، وشعبه صابر على مرّ سنوات فما الذي جدّ الآن؟



كتاحة السُّودان..غبار السياسة ورياح الاقتصاد




في آخر شهر يونيو(حزيران) الماضي - وقبل اسبوع من الذكرى الثالثة والعشرين لاستيلاء المشير عمر البشير على السُّلطة في السُّودان في العام 1989- دخل السُّودان إلى بازار "جمع الغضب" وانطلق قطار تسمية الجمعة باسم الحراك الشعبي، فكانت البداية بجمعة الكتاحة (رياح مليئة بالأتربة والعجاج)، خُصصت شعاراتها لتكون ضد الغلاء، ومجابهة القرارت التقشفية التي قررتها الحكومة السُّودانية بعد إجازة البرلمان.
الأحزاب السّياسية استغلت الغضب الشعبي لتشكل منطقة ضغط منخفض لتغري رياح "الربيع العربي"، وتدخل مقطورة التغيير الذي اجتاح المنطقة في زمان الاحتجاجت، ولكن الرّئيس البشير، يقول "إنّ الربيع العربي جاء ليمكن الإسلامين من الحكم، وربيعنا بدأ قبل ثلاثة وعشرين عامًا" ويقول في تصريح آخر "لا وجود للربيع في السُّودان بل صيف حارق على أعدائه".

وبين هذا وذاك، يقف المواطن السُّوداني، وعينه على جيبه الذي نفد منه النقد، وعينه الأخرى على سوريا وليبيا، ودماء لا يتحملها السُّودان فوقف محتارًا، فلا صار الحراك شعبيًا، ولا صارت القرارات الحكومية محل رضا، ويبقى الجميع برغم سخونة الأحداث في انتظار المفاجأة، فالسُّودان بلد المفاجآت.



بلد المفاجآت




في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، فوجئ السُّودانيون قبل انقضاء الفترة الديمقراطية الأولى بانقلاب الإسلاميين على النِّظام الديمقراطي، ثمّ فوجئ الجميع يوم خرج الترابي من السِّجن ليكتشف النّاس ضلوعه في الانقلاب على النِّظام المنتخب، وما لبثوا أن تفاجأوا في العام 1999 بخروج الترابي من الحكم إثر المفاصلة الشهيرة "قرارات الرابع من رمضان، والثاني من صفر"، وتفاجأوا إذ وقّع البشير والعقيد الراحل جون قرنق دي مبيور اتفاقية نيفاشا للسلام 2004، وتفاجأوا بالانفصال في 2011، وكانت عودة الحرب مع الجَنُوب آخر المفاجآت، عقب وقف تصدير نفط الجَنُوب عبر الشّمال.




[blockquote]عبده مختار: الأزمة في جوهرها ليست اقتصادية أو سياسية فقط ولكنها أزمة حضارية شاملة، فقد تخلف السُّودان مئات السنين خلال العقدين السابقين والمطلوب محاربة الفساد والترف، ونشر العلم والعقلانية والمعرفة وبناء دولة الديمقراطية والمواطنة.
[/blockquote]



الرّئيس السُّوداني، الذي انفتحت عليه جبهات عديدة، حاول أن يشرح عودة الحرب، التي استنزفت اقتصاده، فقال عن تصرف دولة الجَنُوب الوليدة، "لم نكن نظن أن أحدًا ينتحر فقط ليضر الآخر ولكنهم فعلوها"، لم يكن ما فعلته الدّولة الجديدة، سوى أنها أكملت مسلسل المفاجآت، مسببة أزمة اقتصادية طاحنة، قادت لتململ شعبي، وفجّرت الاحتقان الكبير، وما زالت آثار توابعه حيّة، ومرشحة – بحكم المفاجآت - لكل شيء، الاستقرار أو الثَّورة، يراهن البشير على صبر الشعب، ويراهن المعارضون على التاريخ وحالة الغضب.



التاريخ: ثورات ناجحة.. وثوّار فاشلون




انتفض السُّودانيون انتفاضاتين، الأولى على نظام الجنرال إبراهيم عبود في أكتوبر (تشرين الأول) 1964، والثانية في العام 1985، التي أنهى بها المحتجون ستة عشر عامًا من حكم الجنرال جعفر النميري، الأولى قامت بسبب السياسات وتداعيات مشكلة الجَنُوب، والثانية قامت بسبب الغلاء والقمع السّياسي والفكري، وساهم في حسم اتجاهها نحو الديمقراطية انحياز القوات المسلحة بقيادة المشير سوار الذهب للجماهير، وتسلمها السُّلطة، وقد وفّت بوعدها وأعادت تسليم السُّلطة للديمقراطيين المنتخبين، بقيادة رئيس الوزراء الصادق المهدي ورأس الدّولة أحمد الميرغني، ولكن وقبل أن تكتمل الدورة الانتخابية الأولى، عاد التغيير باسم الإنقلاب العسكري (1989) بالسُّودان إلى المربع الأوّل.

الانقلاب الذي قاده البشير، جاء في بيانه الأول أن باعثه كان التدهور الاقتصادي، والحروب على الحدود، وبعد أكثر من ثلاثة وعشرين عامًا، يقول المراقبون إن أزمة اقتصادية طاحِنة، تقود خطام السُّودان إلى مربع أول جديد، على أفضل الأحوال سيكون شبيهًا بالمربع الأول، ولا مناص من التغيير بالحكومة أو بدونها، بـ"الربيع العربي" أو بدونه، كل السُّودان يتفق على التغيير، لكنهم لا يدركون إلى أين، فلماذا التغيير إذن؟
يرى المنظرون أن السنوات بعد اتفاقية السّلام 2004، والتي تدفق فيها النفط، مثلت استقرارًا اقتصاديًا نسبياً، أوحى بأنّ السُّودان ولّت أزماته، وبدأت التنمية تدب في جسده المرهق، وبدأت محاولات جادة لاستيعاب أزمة دارفور، والشرق، ولكن ماذا حدث بعد انفصال الجَنُوب.



دولة رخوة.. ومفلسة.. تدخل الأزمة الاقتصادية




بعد انفصال الجَنُوب السُّوداني، لم يستفق السُّودانيون من أزمتهم الروحية والوجدانية، إلا على دويّ المدافع مؤذنة بعودة الحرب البائسة، وتلقي إشارات واضحة من حكومتهم، أن البلاد تدخل في مرحلة اقتصادية حرجة، لم يكن سببها فساد بل مؤامرة، فحاولت الأجهزة أن تكون أكثر شفافية، وخرجت من الإنكار، إلى التبرير، للحد الذي دفع النائب الأول للرئيس علي عثمان محمد طه أن يفتح مظروفًا فيه شهادة راتبه ويقرأها على الجميع، ليقول "نعم أخفقنا في ترتيب بعض الأولويات، ولكننا لم نصرف الأموال على أنفسنا".

رئيس تحرير "إيلاف" السُّودانية، والاقتصادي الدكتور خالد التيجاني، قال لـ"المجلة" إنه "على الرغم من أهمية لغة الأرقام، فإن خللاً في المحرك الأساسي للدولة، يجعل الأزمة الاقتصاديّة ثانوية"، ويضيف "فتّشوا عن الأيدي الخفية في الأزمة غير الاقتصادية لتجدوا الكثير من الحقيقة، فأزمة الاقتصاد السُّوداني ليست أزمة موارد، وسببها ليس في توزع الموارد، ولكن سببها هو إدارة غير اقتصادية لعمليّة اقتصادية"، ويواصل مستشهدًا "لقد شهد العالم دولاً ليس لها من الموارد حظوظ البتة، ومع ذلك نجحت في أن تتبوأ مكانة رفيعة في مقدمة الدول في قدراتها الاقتصادية، ببساطة لأنها حظيت بقادة ذوي بصيرة ورؤية وإرادة وقدرة على القيادة والفعل المنتج، وخلق الفرص واصطناعها، وليست من نمط تلك القيادات التي تفننت في تبديد قدرات وموارد لا نظير لها".



انفصال الجَنُوب.. زلزال له توابع




حسب التجاني، فإن السُّودان يعاني من أزمة سياسية واقتصادية، وهو يعتبر قضية الجَنُوب السُّوداني المحرك الرّئيس لكثير من الصِّراعات السّياسية السُّودانيّة على مَدار التّاريخ، ويربط كل الثورات التي حدثت في السُّودان قديمًا و"حديثاً" بقضيّة الجَنُوب بشكل أو بآخر، لذلك يعتبر أن كل ما يجري على السّاحة، هي توابع الزلزال وهو انفصال الجَنُوب، ولكن الأزمة الافتصاديّة فاقمتها وجلّتها، ذلك أن الاقتصاد لا يمكن المناورة معه، أو توريته، فهو لغة أرقام، لا يمكنك تكذيبها، إمّا ربح بيّن أو خسارة فادحة تظهر على قوت النّاس وأسعار التضخم التي جاوزت 41 في المائة، يقول التيجاني "المؤتمر الوطني لا يملك قدرة على المناورة، فالوضع الاقتصادي أوضح من الوضع السّياسي، ولقد فضحت الأزمة الأخيرة أخطاء هيكلية، وكشف أن الاقتصاد في مراحل كثيرة ظلّ يدار بلا رؤية، وأن ثورة النفط ربما تكون أهدرت سدىً".

ويشير التيجاني في حديثه لـ"المجلة" إلى أساطير بادت، فيقول "كان الشِّمال يظن أن الجَنُوب عالة على شمال السُّودان، وانكشف له الحال أن الشِّمال عالة على الجَنُوب، إلى درجة ما"، ويواصل التيجاني "الرّئيس البشير قال الانفصال مع السّلام خير من الوحدة من الحرب، ولكن ذلك لم يحدث"، ويشخّص التيجاني رؤيته عن مستقبل الحلول المقترحة اقتصاديًا قائلا "الطبقة الحاكمة ليست مستعدة لتحمّل أعباء أية إصلاحات اقتصاديّة حقيقيّة وجذريّة تأتي على حساب امتيازاتها ومكاسبها التي كرسَتها على مدى أكثر من عقدين"، وينبّه التّيجاني إلى خطورة ما يحدث منذ فترة طويلة في سياسة التخطيط "لا توجد إدارة موحَّدة للاقتصاد في السُّودان، لذلك لا تُوجَد أولويّات، بل الخُطورة الأكبر في أن هناك وزارات ذات شوكة تسيطر على موارد الدّولة دون تنسيق عام، ويوجد قادة للاقتصاد السُّوداني خارج جسم الدّولة".

لذلك نفهم سِر التّناقض، يورِد التيجاني مثالاً فيقول "سياسة التّحرير الاقتصادي مثلاً جاءت معزولة ومنتزعة من سياقها الموضوعي، وبلا مرجعية معلومة، لقد كانت ضرباً من التعسّف كيف يحدث تحرير اقتصادي في غياب حريّة سياسيّة توفر مؤسسات حكم راشد ديمقراطية تراقب وتحاسب" ويواصل "ثم إن الليبرالية الاقتصادية هي منتوج أصيل لليبرالية السّياسية".



التغيير ضرورة.. والتنظير فريضة النُّخبة الغائبة




تحدّث التيجاني أيضًا عن الحل قائلاً "كان الحري بالانفصال أن يعيد مأسسة الدّولة وهيكلتها، ويدفع النِّظام إلى مراجعات حقيقية، لكن المؤتمر الوطني ـ الحزب الحاكم ـ تعامل وكأنّ شيئاً لم يكن، والأزمة الاقتصادية عرض من الأعراض التي ستتواصل في البروز ما لم تبرز رؤية موحدة، لحل جذور المشكلة".




[blockquote]
خالد التيجاني: فتّشوا عن الأيدي الخفية في الأزمة غير الاقتصادية لتجدوا الكثير من الحقيقة، فأزمة الاقتصاد السُّوداني ليست أزمة موارد، وسببها ليس في توزع الموارد، ولكن سببها هو إدارة غير اقتصادية لعمليّة اقتصادية.
[/blockquote]




سألنا التيجاني هل ستهدأ الأمور لو حلت الأزمة الاقتصادية، خاصة بعد تقدّم الاتفاق بين السُّودان ودولة الجَنُوب، فقال "يجب علينا جميعًا أن نعترف أن هناك حاجة للتغيير، وتجاوز حالة الإنكار، على أن نفهم مع إيماننا بضرورة التّغيير، أنّ تغييرنا لا يكون على نسق "الربيع العربي" بكل أطيافه، فنحن لنا تجارب حقيقية يمكن الإفادة منها والاعتبار بها، ويمكن للنّظام أن يقود عملية التغيير، عبر حوار جدي، ومبادرة حقيقية، يتجاوز بها حالة الإنكار، فالإنكار هو الذي أضاع الكثير من الفرص، نحن ظللنا ننكر أزمة الجَنُوب لنصف قرن ولم نعترف بها إلا بعد الانفصال، وظللنا ننكر أزمة دارفور، وننكر أزمة التغيير، ما لم نؤمن بضرورة دراستها على مستوى قومي ستتشكل عنها كارثة ككارثة الانفصال".

طلبنا من التيجاني الخروج من إدانة النِّظام والسياسة والعقل السّياسي، لتوجيه الفكرة نحو أفق التنظير، وطلبنا منه أن يعلل عجز المثقف السوداني عن انتاج نظريّة سودانيّة، فقال موافقًا "الفريضة الغائبة هي فكر النخبة المشتت، البعيد عن الحوار الحقيقي، والمؤمن بالعقلية الإقصائية، علينا أن ندرك أن تجربة الحركة الإسلامية السودانيّة برغم كل شيء، ليست كل الأزمة، هناك مشكلة في العقل السّياسي السُّوداني، هناك كسل فكري واستسهال في تشخيص الأزمات، صحيح أن الإسلاميين قادوا الفشل لكن أين التّفاكر غير المتحيز للنخبة السُّودانية، أين القضايا الحقيقية، لماذا نتعامل مع قضية دارفور إلى الآن، وكأنها قضية في دولة أخرى؟ لماذا نؤمن بالهامش والمركز حتى في التفكير" يواصل التيجاني" الأسئلة الهامشيّة يجب أن نسكت عنها، ويجب أن ندخل بحق في حوار جاد، كمثقفين حول العقد الاجتماعي الجديد، الذي يمكن الدّولة أن تكون على مسافة واحدة من الجميع، فممارسات الماضي، أفضت بنا إلى سودانيين فشلا في تحقيق طموح الجميع، فلا بد أن التغيير يحتاج إلى الجهد".



التغيير الحذر.. بين كماشتي الاستقطاب والتدويل!




السيد الصادق المهدي، رئيس الوزراء الأسبق، وزعيم حزب الأمة القومي، يرى أن الواقع السّياسي السُّوداني مضطرب، وأن الأحزاب تحتاج إلى مواكبة ذلك بتعزيز الحوار، المهدي الذي انطلقت المظاهرات من مسجده بود نوباي بأم درمان، كان حريصًا على تغليب صوت يحتمل أكثر من قراءة، وبدا قلقاً من انفلات الأوضاع، فقال لـ"لمجلة" إن "الأوضاع في السُّودان يستحيل أن تستمر على ماهي عليه، فالذي يحدث في السُّودان احتقان واستقطاب حادان، وإذا استمرّ النِّظام في سياسات الإقصاء، سينفجر النّاس، وكذلك فإن محاولة الإطاحة بالنِّظام ـ المفتوحة ـ ستقود إلى تفتيت البلاد وستفتح الباب للتدخل الدولي، وذلك لما له من مفاجآت كبيرة وخطيرة"، وقال المهدي "إن ّالحل المفتاحي يبدأ بآخر الأزمات تفجرًا، أي بأزمة الجَنُوب، ولكنّه يكون عبر منظومة شاملة، وليس فيها إقصاء"، ويضيف المهدي حول المفاوضات بين دولتي السُّودان وجنوب السُّودان، أنها يجب أن تستمر، لكنه نبه قائلاً "البترول ما كان ينبغي أن يكون مكان مساجلة سياسيّة، لأن فيه مصلحة الشعبين"، وأوضح أن "اتفاقا ثنائيا لن يكون نهاية المطاف" مجددًا الدعوة إلى "مؤتمر السّلام في السُّودان وعقد لقاء جامع، يهدف لحل مشاكل السُّودان لتحقيق التحول الدّيموقراطي في البلاد"، مضيفا "لا بد للمفكرين السُّودانيين في الإسهام بجدية في اقتراح معالم للفجر الجديد، السياسة ليست كل شيء".




[blockquote]
الصادق المهدي: نحتاج إلى مؤتمر للسّلام في السُّودان وإلى عقد لقاء جامع يهدف لحل مشاكل السُّودان لتحقيق التحول الدّيموقراطي في البلاد.. لا بد للمفكرين السُّودانيين في الإسهام بجدية في اقتراح معالم للفجر الجديد، السياسة ليست كل شيء.
[/blockquote]



قريبًا من رؤية المهدي والتيجاني، كان السيّد جعفر الميرغني، مساعد رئيس الجمهورية، يطرح رؤيّة مبادراتية حول الأزمة "أنا مؤمن أننا لم نستمع لبعضنا البعض كفاية، إرادة التغيير ليست سياسية فحسب، بل نحتاج لفهم هذه الإرادة أن نفهم ما نريده، الحروب والصراعات صنعت حواجزًا تمنعنا من التفكير العميق في الاختيارات الحقيقية للسودان ومستقبله، نقود الآن مبادرة للاستماع للجميع، لنتمكن من صياغة المبادرة الحقيقية لإنقاذ الأوضاع، ندرك أن الأمن السُّوداني القومي أصبح مهددًا بحالة التناحر الداخلية"، موضحا أن "الحكومة تولي اهتمامها بقضية السّلام سواء في الجَنُوب ودارفور، والآن هناك تيار عريض داعي للحوار وتجيير الأحداث لتصب في مصلحة بناء المستقبل، لن نقبل بغير الاتجاه نحوه"، ولكن الميرغني يشير إلى ضرورة حضور العمق العربي لرعاية التغيير فيقول "إننا نعول على إخواننا في المنظومة العربية والأفريقية كثيرًا، لأن السُّودان يدخل مرحلة تدفعه لتغيير منظماته السّياسية، وذلك من الضروري أن يصاحبه حضور عربي"، وعاد ليقول "في الإطار الداخلي، لا مناص من الجلوس للتفاكر، لأن أي تغيير لن يفضي إلى شيء، ما لم نتفق على المستقبل وخطوطه العريضة، ولو بالحد الأدنى".



غاضبون.. ضد تجار الدين.. والإقصاء




حاتم السِّر، المرشح الرئاسي السّابق في الانتخابات الرئاسية الأخيرة أبريل(نيسان) 2010، حاول أن يشرح لنا أسباب الغضب في الشّارع السوداني، مستحضرًا كل ما يحمله التاريخ من عبق، وحاشدًا الروح النّضالية: "الذي يحدث في السُّودان الآن هو البرهان الأخير على فشل فاحش لحكومة أدمنت الفشل وأمنت عواقبه، واستهانت بصبر الشّعب السُّوداني، ونسيت أنّه الشّعب الذي انتفض على الدّيكتاتوريات، وطرد المستعمر، إذ انتفض على الجنرال عبود في اكتوبر (1964)، وانتفض على النميري مرات انتهت بأخيرة (1984) خلعته، وانتفض على الإنقاذ مرات، ويبدو أن النجاح بدأ يقترب الآن، وأن نسيم الحريّة العليل سيتنفسه السُّودانيون قريبًا"، موضحا أن "الذي يحدث هو أن المجتمع خرج كارهًا الأوهام التي يسوقها النِّظام، والوعود الباهتة التي يرفعها، ولم تعد شعارات التّجارة بالمقدّس والتّجارة بالسدود وقوت الشعب تُجدي"، مؤكدا أن الأزمة "ليست أزمة اقتصاديّة، ولكنها أزمة سياسيّة، واجتماعيّة وأمنيّة وحقوقيّة، أدخلت السُّودان إلى العناية المركزة، بعد أن تطاول مرضه لسنوات.. لم تكن فجائية إنِّها النِّتيجة الحتمية للسياسات الحكوميّة الخاطئة، وظللنا ننبه لها لسنوات، ونحاول إدارة حوار حولها، ولكننا نكتشف دائمًا إنه كان حوار طرشان".




[blockquote]
جعفر الميرغني: إننا نعول على إخواننا في المنظومة العربية والإفريقية كثيرًا، لأن السُّودان يدخل مرحلة تدفعه لتغيير منظماته السّياسية.. فلا مناص من الجلوس للتفاكر، لأن أي تغيير لن يفضي إلى شيء ما لم نتفق على المستقبل وخطوطه العريضة، ولو بالحد الأدنى.
[/blockquote]


ويستشهد السِّر بهتافات الشارع: "انزلوا إلى الشوارع الغاضبة، الناس جوعى ولكن ليس جوع الخبز، بل جوع الحرية، والمشاركة الحقيقية في صناعة السُّلطة والمستقبل، لا مشاركة الوهم، الناس تقول: "نحن مرقنا ضد النّاس السِّرقو عرقنا ما للسكر والبنزين، مرقنا عشان تجار الدين" بجانب قولهم "يا الماهيتك كم مليون، نحن الشعب البات مديون، مرقنا عشان الوطن الراح، وما برجعنا تاني سلاح".

سألنا السِّر، عن اندفاعه، وهو ينتمي لحزب يشارك في حكومة القاعدة العريضة، فقال "نعم حزبنا الاتحادي الديمقراطي الأصل شارك في الحكومة، وفقًا لاتفاق طالب فيه بتيسير الأمور المعيشيّة على المواطن وكفالة الحريات للشعب السُّوداني وسيادة دولة القانون وتحقيق التحول الّديمقراطي ووقف الحرب، ولكن النِّظام كعادته سادر في غيه، ولم ينفذ شيئا من الاتِّفاق، ولا بد أنّ مؤسسات حزبنا واضعة فى الاعتبار كل هذه المتغيرات، وستخضع عمليّة استمرارها فى المشاركة في أجهزة الحكم للمراجعة، فالمؤتمر الوطني يواصل التصرّف وكأنه الوحيد في البلد، وخطورة ذلك لمسناها عن قرب، حين مضينا للمشاركة معه، كان المشاركون يريدون أن يقولوا لم نر خطة يعظم فيه السّلام إلا وأجبناها، ولكن ما نراه لا يبشر بأسلوب جيد". مضيفا "المؤتمر الوطني يواصل القمع، ولدينا الآن المئات من كوادر الحزب في المعتقلات، نحن طرحنا حلنا الجذري، حكومة انتقالية تمهد لانتخابات، وطرح رئيس الحزب مولانا الميرغني أخيرًا دعوة لإعداد دستور للسودان، وتأسيسه باجتماع كل الفرقاء، وتكوين حكومة انتقالية تمهيدا للانتخابات، ولكن هل يستبين الحاكمون النصح، ويتعظون؟".
البديل لا يهم.. سؤالنا كيف يحكم السُّودان لا من يحكمه؟

رفض السِّر الحديث عن البديل، وبدا أنّ مرحلة الحديث عن البديل ليست مهمة، فقال "الحديث عن البديل لا يهمّنا كثيرًا، فنحن يهمنا كيف يحكم السُّودان، لا من يَحكمه، وأيّ حديث عن أسماء هو تخذيل". وعن الحراك الشّبابي في الجمع الأخيرة، يوافق السِّر على وصفه بالثَّورة، قائلاً "إنّ السُّودان دخل إلى "الربيع العربي" من باب الضائقة الاقتصادية"، ويرد على من يقول إنّ الاحتجاجات هي لقليل من المتأثرين حرّكتهم أحزاب يسارية بالقول "الثَّورة التي تخرج من أكبر رمزين اجتماعيين ودينين في الوطن (مسجد الإمام عبدالرحمن المهدي، وجامع السيد علي الميرغني) لا تعبِر عن كيانين فقط، ولكنها تعني أن السُّودان بخير، وهو ماض في التعافي، وقريبًا سيلفظ الظلم ويقتلعه من الجذور".



[blockquote]
حاتم السر: الذي يحدث في السُّودان الآن هو البرهان الأخير على فشل فاضح لحكومة أدمنت الفشل وأمنت عواقبه، واستهانت بصبر الشّعب السُّوداني ويبدو أن النجاح بدأ يقترب الآن، وأن نسيم الحريّة العليل سيتنفسه السُّودانيون قريبا.
[/blockquote]



بوادر ثورة.. ضد تدمير الوعي




خالد عويس، مؤلف كتاب "إرهاصات الوعي ونكساته..الجذور الثقافية للمسألة (مدارك، 2012)"، شرّح الأحداث قائلاً إن "ما يحدث هو بوادر ثورة. لأول مرة منذ استيلاء البشير على السُّلطة بالقوة المسلحة عام 1989، وانقلابه على الحكم الديمقراطي، تستمر المظاهرات نحو شهرين، وتتخذ أشكالاً عدة من المقاومة السلميّة الصرفة. نحن نشهد ميلاد الثَّورة السُّودانيّة السلميّة الثالثة بعد أكتوبر(تشرين الأول) 1946 وأبريل(نيسان) 1985. نظام البشير ليس لديه ما يقدمه حالياً على الصعيدين السّياسي والاقتصادي سوى القمع البالغ"، ويواصل عويس "عدد المعتقلين والمعتقلات تجاوز الألفين، والثَّورة الآن تتمدد إلى أحياء جديدة ومدن جديدة في أنحاء السُّودان كافة.
حمل عويس على النِّظام السُّوداني، واتهمه بانتهاج "أسلوب رئيس" يرمي إلى "محاولة تدمير الوعي السُّوداني".

وفي بنائه لنظرية الثَّورة يقول عويس "الثَّورة هي تراكم تاريخي منذ 1989، والشعب السُّوداني الذي ثار مرتين، هذا عدا الثَّورة المهدية، هو شعب خبير وواع للغاية. الكثيرون كانوا يقولون إنّ الجيل الجديد لا يمكن أن يصنع ثورة. ما يحدث الآن هو أن هذا الجيل الجديد يقود الثَّورة. النّساء هن من يقدن الآن، والشَّباب، وهم وهنّ عازمون على أن يكون لهم ولهن دور رئيس ليس في الحكم وحسب، وإنما في صوغ مستقبل مختلف للسودان"، موضحا "من يزعم أنّ الثَّورة هي ثورة فيس بوك وتويتر، فعليه أن يكذّب الفعل الثوري في عطبرة ودنقلا والأبيض وكسلا وسنار والقرير ونيالا وغيرها من مدن السُّودان. من يزعم أن الثَّورة هي ثورة إنترنت فليرد على سؤال كبير: لماذا إذن خصصت الحكومة السُّودانية وحدات سمّتها "الجهاد الإلكتروني"، وأعدت قناة الجزيرة تقريرا كاملاً عن هذه الوحدات. إنه ذعر النِّظام ليس إلا ومحاولته طمس الحقيقة".

ويفصّل عويس رؤيته حول أسلوب الأجهزة الأمنيّة السُّودانية، في تعاملها مع الاحتجاجات، ورؤيته قريبة، من رؤية الكثير من أقطاب المعارضة السّياسية، السُّودانية، وهو يطرح طرحًا يجعل السُّودان في خط "الربيع العربي"، يقول عويس "بطبيعة الحال فإن السلطات السُّودانية لا تملك إلا الحل الأمني، شأنها شأن نظام مبارك وبن علي والقذافي وعلي عبدالله صالح وبشار الأسد. وهي تؤكد بذلك للرأي العام كله أنها سلطة مستبدة وقمعية. المحتجون يقابلون القمع بصبر كبير وإصرار على سلمية الثَّورة". مؤكدا أن "القمع لن يولد سوى مزيد من الاحتجاجات وهذا ما نراه الآن. فحاجز الخوف انكسر. والسُّلطة التي تستخدم كل هذا القمع وتعتدي على المساجد ودور العلم والجامعات حريٌ بها أن تذهب اليوم قبل الغد"، ويحلل خروج الناس من المساجد تحديدًا واصفًا إياه بأنه "رد طبيعي على مزاعم السُّلطة بأنّها تمثِّل الإسلام في بلد مواطنوه متدينون بالفطرة، ولا يميلون البتة إلى مظاهر التَديّن بقدر ميلهم إلى جوهر الدِّين". ولكنّ عويس يعود ليُشِير لدور الجامعات والمؤسسات الأخرى فيقول "أكبر دليل على نجاح الثَّورة هي انطلاقها من كل مكان.. المساجد والجامعات والأحياء، بل وحتى المحاكم".

ويواصل عويس عن التغطية الإعلامية، ويشخّص الاهتمام بها، فيقول "أعتقد أن الثَّورة السُّودانية حققت نجاحاً ساحقا. فالثَّورة الآن خبر رئيس في كل القنوات التلفزيونيّة والصُحف. والنِّظام السُّوداني لجأ إلى محاولة تكميم الأفواه، فاعتقل مدير مكتب وكالة الصحافة الفرنسية في الخرطوم، وصحافيتين مصريتين هما سلمى الورداني (التي تم ترحيلها) وشيماء عادل (التي أفرج عنها لاحقًا وعادت مع الرّئيس المصري محمد مرسي إلى القاهرة). واعتدى على طواقم قنوات تلفزيونية من بينها "العربية" و"الجزيرة"، واعتقل هذه الطواقم. هذه هزيمة ما بعدها هزيمة. ومتحدثو الحكومة في القنوات الفضائية سقطوا سقوطا غير مسبوق. هذه كلها مؤشرات تشي بأن السُّودان يتجه إلى تغيير شامل".


[blockquote]
خالد عويس: من يزعم أنّ الثَّورة هي ثورة فايس بوك وتويتر فعليه أن يكذّب الفعل الثوري في عطبرة ودنقلا والأبيض وكسلا وسنار و "القرير ونيالا" وغيرها من مدن السُّودان. من يزعم أن الثَّورة هي ثورة إنترنت فليرد على سؤال كبير: لماذا إذن خصصت الحكومة السُّودانية وحدات سمّتها "الجهاد الإلكتروني".
[/blockquote]


بين التَّثوير والحِياد والتطبيل




سؤال الإعلام، هو ما بدأ به الطاهر حسن التوم، المدير العام لهيئة الخرطوم للصحافة والنشر ورئيس تحرير مجلة الخرطوم الجديدة، مستشار التحرير بمركز "التنوير" المعرفي بالخرطوم، والإعلامي النافِذ، وحاول أن يسلِّط الضَوء على جانب الحِياد وعَدمه في الإعلام الذي يُغطِي المظاهرات، فيقول "المتابع للإعلام العربي في الفترة الأخيرة سيرى أنّه بات تحت التساؤل حول دوره في حالة التثوير أو الثَّورة في المنطقة العربية. هنالك من يرى أن الإعلام العربي دخل في سباق حالة التثوير هذه، وقد يرى آخرون أنّه بات "دعائياً" خدمة لأجندة سياسيّة تخدم المموِّل لهذه القنوات من دول أو شركات أو أفراد"، ويقول مستدركًا "لا شكّ أنّ كل هذه التُهم والظنون لها شواهد قد يجدها المراقب هنا وهناك، لكن سيظل السؤال: إلى أي مدى يمكن أن يشكل حكماً قطعياً ويقينياً على مهنية هذه القنوات"؟ أما حول التغطية السُّودانية، فيرى أنه "في الحالة السُّودانية من الطَبيعي أن لا ترضى الحكومة ولا المعارضة بأداء هذه القنوات، لأن الجَميع يريدها أن تكون في صفِّه، وأن تقوم بنقل الوقائع والحقائق كما يراها هو. والمطلوب في تقديري أن يقوم الإعلام العربي بأداء دوره بمهنية عالية، بعيداً عن حالتي السَّخط والرّضا الناجمتين عن هذا الدور، وبعيداً كذلك عن الأجندة السّياسية للمموِّل أو الدّاعم لهذه القنوات، أما ما مدى إمكانية ذلك فهذا يحتاج إلى رصد وتحقيق دقيق".

تحدَّث الكثيرون أنّ المظاهرات إنما صنعتها القنوات وروّجت لها، ولا وجود لها في الواقع، ولكن الطاهر التوم يقول بوضوح "القنوات الإخبارية العربية لم تصنع هذه المظاهرات، فهي كانت واقعاً وحقيقة، ولكن الجدل كان في تفسير هذا الواقع، فقد تجد مظاهرة بها خمسون شخصاً تصبح خبراً عاجلاً في قناة، وهنا السؤال لا يكون حول حقيقة الواقعة، وإنما حول التقدير الإعلامي الذي جعل هذا الخبر يستحق هذه الأهمية، لا سيّما أنّ بعض زملائنا الإعلاميين ممن يعملون في بعض هذه القنوات ويقومون بإيراد الأخبار ثم تحليلها، ممن ينتمون إلى قوى سياسية معارضة، هذا بالضرورة في ظل الرغبة في أن تُماثل هذه الحالة الحالات الثورية في المنطقة جعل بعضهم يتحرر من دثار المهنيّة طمعاً في أن تنتج الحالة السُّودانية واقعاً جديداً يحفظ له قيادة التغيير إعلامياً".

يضع التوم موازنة بين الخبر والرأي، في نقده لأسلوب تناول الأحداث في السُّودان، ويمكن اتخاذها كحالة عامة، فيقول "طبعاً من حق أيّ شخص أن يحلم بالتغيير ويعمل لأجله وله كإعلامي مساحة عبر الرأي لا الخبر للتعبير عنه، فقد تعلّمنا أن الخبر مقدَّس وأنَّ الرأي حُر، أعتقد أن هذا هو الشَّرك الذي وقعت فيه بعض هذه القنوات مما جعلها تتجاوز مراسليها للتأكد من صدقية الأخبار".

لم يقف الطاهر التوم في تحليله للأداء الإعلامي عند الجانب المثوِّر، ولكنّه مس بمشرطه الإعلام الحكومي الذي وصفه بالجمود، ووضعه في خانة الإعلام البارد، الذي يكرر ما يراد له، فيفقد بذلك روحه، يقول التوم "للأسف الإعلام الرسمي كان المطلوب منه أن يكون الملاذ حالة وقوع الاختلال في التَّناول الإعلامي للحالة الوطنية، هذا إن كان يريد حضوراً وتأثيراً وصدقية، ولكن الإعلام الرسمي ضعيف في المبادرة، بل وغالباً ما يتعامى أو يتجاهل الحدث في وقت صارت السيطرة على الأخبار في ظل الوسائط الجديدة محاولة عبثية، لذلك يقع المتلقي للأخبار غالباً ضحيّة "التّهوين" أو "التّهويل" للأحداث –تهوين "الداخل" وتهويل "الخارج" - والصواب هو المهنيّة والتي لم تعد فضيلة بل صارت حقاً وواجباً"، ويضيف بدبلوماسية "هل كان الإعلام الرسمي في الأحداث مهنياً أم لا؟ أقول "نعم" و"لا"! بمقدار جرأة كل قناة واتساع رؤية إدارتها"، ولكنّه يختم "إذًا المخرج للإعلام العربي والسُّوداني هو المهنية في ظل استحالة وجود "الحياد" المهنيّة والموضوعيّة هما رأسمال أي قناة أو صحيفة أو موقع إلكتروني يحترم عقل المتلقّي لمادته. وفي حال عجز هذه الوسائل عن الإيفاء بهذا الرأسمال، فإنها ستكون عرضة للتجاهل والتجاوز".



الإسلاميون فشلوا في الإجابة عن سؤال المواطنة




نقلنا التوم من الحديث الإعلامي، إلى مسرح الواقع، لنرى ما الذي يجري في السُّودان، هل وصل "الربيع العربي" إلى السُّودان، يقول موضحًا "وباعث ذلك تعقيدات الواقع السّياسي السُّوداني، فمن حيث مقارنة ما تم في السُّودان من احتجاجات بما تم في مصر مثلاً أو تونس أو اليمن يصعب القول إن في السُّودان "ربيعاً عربياً" يماثل ما تمَّ في هذه البلدان، ولو نظرت للمشهد السِّياسِي السُّوداني ستجد أن هذه الاحتجاجات تمثل مُتغيراً مهمًّا في ظل خطاب حكومي مستفز للمعارضة ومستحقر لقدرتها في تحريك الشارع، وسواء أكانت المعارضة محرّكاً لهذه الاحتجاجات أم ممتطيةً لها، فإن المراقب يمكن أن يقول إنَّ ما حدث، يمكن في حال التّعامي عن النظر إليه بجدية والتعامل مع أسبابه، قابل للتطوّر نحو "ربيع عربي" لا سيما والواقع السّياسي تتوفر فيه إمكانية ميلاد هذا "الربيع العربي" من انسداد في أُفق الحوار السّياسي، وحالة اقتصادية عسيرة المخارج، وحروب في بعض المناطق، وضعف في السّند الإقليمي "الشركاء والمساندين للعلاقات الدولية والإقليمية"، لكن يجب أيضاً أن نقول: إنَّ الحالة السُّودانية بخصوصيتها تتطلب أن يكون الفعل الدافع للتغيير في تقديرنا ليس "ثورياً" بل "وفاقياً وتَسْووِياً" هذا أفضل حتى لا تنتج حالة أشبه بالحالة السورية أو اللّيبية، لا سيما أن المشهد السُّوداني شديد الشبه بالحالتين".



[blockquote]

الطاهر التوم: إنَّ الحالة السُّودانية بخصوصيتها تتطلب أن يكون الفعل الدافع للتغيير في تقديرنا ليس "ثورياً" بل "وفاقياً وتَسْووِياً" هذا أفضل حتى لا تنتج حالة أشبه بالحالة السورية أو اللّيبية لا سيما أن المشهد السُّوداني شديد الشبه بالحالتين.

[/blockquote]



في سبيل المقارنة بين فشل التجربة الإسلاموية السُّودانية –بحسب ما يقوله القياديون فيها-، يرفض التوم، الحكم على مستقبل دول "الربيع العربي" التي انتهجت نهجًا مقاربًا فيقول "النماذج الإسلامية المحمولة على أعناق جماهير "الربيع العربي" تختلف عن التجربة السُّودانية التي جاءت للحكم بانقلاب عسكري، هذا فارق جوهري وكبير بغض النظر عن مسببات ومسوِّغات الحركة الإسلامية السُّودانية ركوب هذا السّبيل في الوصول للسلطة، ولا أعتقد أن التّجربة السُّودانية باتت تاريخاً حتى يسهل إصدار حكم كلي عليها، فهي ما زالت موجودة، ولكن يقيني أنّها ليست تجربة ملهمة للآخرين أو محفِّزة لهم وفشلها في إنتاج إجابات لتحديات الدّولة الوطنية، ينبغي أن يكون محط نظر وتأمل الصاعدين".



سؤال الهوية.. هل دمر السُّودان؟




أبرز الملفات التي عزّزت المخاوف، هي المخاوف من سوء إداءة التعدد، لذلك كان الدكتور عبده مختار موسى الباحث والأكاديمي ومؤلف كتابي "مسألة الجَنُوب ومهددات الوحدة في السُّودان"، مركز دراسات الوحدة العربية/ بيروت، وكتاب "دارفور من أزمة دولة إلى صراع القوى العظمى"، مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة/ قطر، 2009)، مصرًا على تحليل المشكلة السُّودانية، من باب إدارة التعدد، فيقول "يُعتبر السُّودان من أكثر الدول التي تنعم أو تعاني من التنوع الإثني والثقافي والديني واللغوي، حيث يضم حوالي 572 قبيلة (أكثر من 400 بعد انفصال الجَنُوب)، تشكل 50 منها مجموعة قبلية كبيرة، ويتحدث سكانها أكثر من 115 لغة" ويوضح عبده قائلاً "ونسبة لعدم نجاح النخبة السّياسية في تحقيق الانسجام وعملية التكامل القومي، فإن هذه القضية أصبحت ليست عائقاً للتنمية فحسب، بل مهدداً للسلام، وتبعاً لذلك مهدداً لأية وحدة مستدامة في المستقبل".

إشكاليّة الهوية هي حجر الزاوية للإشكال السوداني العام، والتضاد الغريب في ثقافة الغابة والصحراء مرده إلى أسلوب التعاطي مع الأزمة، مضيفا أنه "على الرغم من هذه التعقيدات في تعريف الهوية، إلا أنه في السُّودان شكّل الدين الإسلامي واللغة والثقافة العربيتين قاعدة أساسية للهوية للجماعات المختلفة في شمال السُّودان. هذه الهوية العربية/ الإسلامية أضعفت الهويات الأخرى – مثل الإثنية. غير أن الهوية الإسلامية/ العربية لم تقض على الهويات الأخرى، لكن احتوتها من خلال عملية استيعابية شكلت مصدراً للاستقرار النسبي والتعايش السلمي لمختلف الإثنيات لفترات طويلة. أي أن الدين مثل الآيديولوجية، يمكن أن يشكل حاضناً للهوية عندما يكون هو المرجعية في القيم والمواقف والسلوك. وكذلك الإثنية يمكن أن تكون محور للهوية. وهي بالفعل كذلك في كثير من الدول خاصة المتخلفة، حيث ما زالت الإثنية تشكل عصب البناء الاجتماعي والانتماء السّياسي، إلى درجة أن النخب أصبحت تتمترس بالإثنية في كسب التأييد الشعبي والوصول للسلطة. وأحياناً تطغى الإثنية حتى على العقيدة الدينية في التأثير على السلوك السّياسي".



الدم غلب الدين المسيس




ويؤكد موسى "ففي الواقع السُّوداني على الرغم من أن الإثنية والدين يشكلان مكونات حيوية للهوية، إلا أنه أحياناً يطغى تأثير الإثنية على الهوية - خاصة الهوية السّياسية. وقد طغى تأثيرها على العامل الديني، عندما تم تسييس الدين ولم يعد هو (الدين) يشكل المرجعية أو المظلة الاستيعابية الفاعلة فتحركت ديناميات الهوية من منصة الدين إلى منصة الإثنية"، ويوضح "هناك الكثير من الأمثلة أو شواهد من الواقع السُّوداني في هذا السياق. فقصة داؤود يحي بولاد المعروفة الذي كان من كوادر الحركة الإسلامية المخلصين والنشطين منذ أن كان طالباً. فقد ترأس اتحاد طلاب جامعة الخرطوم (دورة 1975 ـ 1976) كان بولاد من أبناء دارفور. وبعد أن تخرج رأى أن أهله في دارفور يعانون. ويبدو أن عاطفة العنصرية ممزوجة بالشعور بالظلم تغلبت على الانتماء الآيديولودجي. فانسلخ عن الحركة الإسلامية والتحق بالمعارضة المسلحة متحالفاً مع الحركة الشعبية لتحرير السُّودان التي كان يقودها (الراحل) العقيد د. جون قرنق. ويُقال انه عندما قابل قرنق قال لقرنق "الدم غلب الدين" في إشارة لإنسلاخه عن الحركة الإسلامية، وانحيازه لأهله في دارفور إثنياً أو عنصرياً. كذلك هناك حالة د. خليل إبراهيم، الذي انسلخ عن الحركة الإسلامية، دينياً أو آيديولوجياً، وانحاز لأهله من خلال قيادته لحركة التمرد الدارفورية (حركة العدل والمساواة) وأصبح من ألد أعداء الحركة الإسلامية الحاكمة في الخرطوم، حيث قاد محاولة انقلابية ضدها في 10 مايو/ آيار 2008 وفشل، وتم اغتياله لاحقا في عام 2011".

بعد هذا الشرح الضافي، يصل الدكتور عبده مختار إلى القول "لكن قد يصدق القول أيضاً إن التنوع اللغوي أو الديني أو العرقي أو القومي، قد لا يشكل في حد ذاته خطراً على الاستقرار السّياسي للدولة المعنية، إنما تسييس التنوع هو الذي يؤدي إلى ذلك. وهذا هو الطابع السائد في معظم دول العالم الثالث، والسُّودان ليس استثناءً. ففي السُّودان تُكمن أُس المشكلة في أن النخبة الحاكمة – منذ الاستقلال في 1956 – فشلت في إدارة التنوع بحياد وطني ورؤية شاملة عادلة تؤسس لبوتقة انصهار تعيش فيها كل مكونات (فسيفساء) المجتمع السُّوداني على أساس "المواطنة"، ويسود فيها حكم القانون والحكم الرشيد بكل أبعاده، تلك هي الضمانة الوحيدة لتحقيق الاستقرار والتماسك في السُّودان ويخرجه من هذه الأزمات اللولبية المتصاعدة والمزمنة".



سقوط النِّظام أو سقوط السّودان




الدكتور حيدر إبراهيم، المفكر السُّوداني المعروف، قال لنا "ما يدور في السُّودان هو نهاية السُّودان القديم، الذي بدأ بمذكرة الخريجين للسكرتير الإداري العام 1942 ثم استقلال في العام1956، وهو بالفعل مثل الصحن الصيني انكسر في أول ارتطام بالارض مع انقلاب يونيو(حزيران) 1989 الإسلاموي، ثم يتقسم السُّودان في يوليو(تموز) 2011، وبعد عام فقط أو أقل يبدأ التفكيك الأكبر لما تبقي من الوطن لو أصر النِّظام على الاستمرار في الحكم.

يقول حيدر لتبيان دقة المرحلة "ما يحدث الآن يضع السُّودانيين أمام خيارين لا ثالث لهما: سقوط النِّظام أو سقوط السُّودان. يعيش النِّظام السُّودان أزمة شرعية وأزمة اقتصادية خانقة. وهذا وضع لا يحتاج إلى انتفاضة شعبية، فقد يكون التآكل الذاتي والانهيار الداخلي، كافيين لسقوط النِّظام. ولكن أي تأخير في سقوط النِّظام سيكون تعميقا لمعاناة الشعب السُّوداني".

يمضي حيدر إلى ماهو أبعد من السياسة ليقول "الأزمة في جوهرها ليست اقتصادية أو سياسية فقط، ولكنها أزمة حضارية شاملة. فقد تخلف السُّودان مئات السنين خلال العقدين السابقين التي حكمت خلالها البلاد. لذلك لن تمثل القرارات الاقتصادية الحالية. فالمشكلة ليست محاسبية تتم باقتطاع مصروفات بذخية ولكن المطلوب ثقافة وقيم الانتاج، ومحاربة الفساد والترف، ونشر العلم والعقلانية والمعرفة. وبناء دولة الديمقراطية والمواطنة. القرارت الاقتصادية مسكن لا يعالج الامراض الاجتماعية، التي رعاها المسؤولون الفاسدون في تحالف مع رأسمالية طفيلية مستوحشة. ولك أن تقدر النتائج الآن: ارتفاع العملة الأجنبية وتدهور العملة الوطنية، انفلات الأسعار في السوق، وانهيار مستوى المعيشة، العطالة بين الشَّباب، العشوائيات.. الخ، يسير سريعا السُّودان إلى هاويته لا يزدهر أي نشاط فكري إلا مع الحرية، وهذه هي الفريضة الغائبة في المشروع الحضاري. ومع ذلك، يجيدون المغالطات والتدليس بأن الحريات موجودة".



حيدر إبراهيم: ما يحدث الآن يضع السُّودانيين أمام خيارين لا ثالث لهما: سقوط النِّظام أو سقوط السُّودان. يعيش النِّظام السُّودان أزمة شرعية وأزمة اقتصادية خانقة وأي تأخير في سقوط النِّظام سيكون تعميقا لمعاناة الشعب السُّوداني.


يقول حيدر إبراهيم شارحًا تغول الأجهزة على بعضها البعض "في السُّودان الصحف يغلقها جهاز الامن وليس مجلس الصحافة، ولا حتى وزارة الداخلية أو العدل، الكتب تصادر وتمنع من الدخول وفي المعارض أجهزة الإعلام يسيطر عليها المرتزقة والطبّالون". ولما سألناه أين المفكر من كل هذا قال "تم تجريف وتصحير الحياة الثقافية بالهجرة القسريّة والملاحقات. وتموت الافكار يوميا تحت اغراء الذهب أو ارهاب السيف.. السُّودان الآن في اظلم عصوره". ليضع رؤيته "البديل هو سقوط النِّظام كاملا، وإزالة آثار عدوان 23 عاما على الشعب السُّوداني. أنا- لست متشائما ولا متفائلا، ولكنني واقعي أرى الاشياء بعقل مفتوح؟".



خلاصة.. المستقبل المجهول وخارطة الطريق




في بداية أيام حكم الإسلاميين، تساءل الطيب صالح في مقال على صفحات مجلة "المجلة": "من الذي يبني لك المستقبل يا هداك الله وأنت تذبح الخيل وتُبقي العربات، وتُميت الأرض وتُحيي الآفات؟ هل ما زال أهل الجنوب ينزحون الى الشمال، وأهل الشمال يهربون الى أي بلد يقبلهم؟ هل أسعار الدولار ما تزال في صعود وأقدار الناس في هبوط؟ أما زالوا يحلمون أن يُقيموا على جثّة السودان المسكين خلافة إسلامية سودانية يبايعها أهل مصر وبلاد الشام والمغرب واليمن والعراق وبلاد جزيرة العرب؟" بقيت أسئلة الطيب، صالحة إلى يومنا، مفتوحة على اللاجواب، وانضافت عليها أخريات، فالدولار في صعود، والنزوح مستمر، والحلم بخلافة على جثة السودان المسكين، تطوّر ليهاجر لمصر وليبيا وتونس.

أما "الروشتة"، وخارطة الطريق التي يتداولها الجميع، لتقي من المستقبل المجهول فهي تتلخص في "حلّ إشكاليّة الهامش والمركز بالعدالة، وتشكيل الهويّة السودانية التي تتقبل كل الهويّات، واعتماد دستور مدني، والكونفدرالية مع دولة الجنوب، والحوار مع الجنوب الجديد، والوفاق الوطني لتفريغ الاحتقان السّياسي، رسم العلاقات الخارجيّة لتكون في عمق المحور العربي، وتشجيع الاستثمار العربي، ومكافحة التطرّف الدّيني، ودعم الانتقال الديمقراطي نحو الدّولة المدنية عبر فترة انتقالية"، ولكنها ينقصها الإرادة السياسية، وصدق النوايا، وتجاوز الأخطاء غير الضرورية.
font change