إيران في إفريقيا.. القوّة الناعمة والأرض الرّخوة

إيران في إفريقيا.. القوّة الناعمة والأرض الرّخوة

[caption id="attachment_55242178" align="aligncenter" width="600"]الرئيس السوداني عمر البشير يتوسط مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي والرئيس أحمدي نجاد الرئيس السوداني عمر البشير يتوسط مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي والرئيس أحمدي نجاد[/caption]



الشعوب الأفريقية المثابرة تستطيع أن تلعب دورا مهما في تلبية حاجات الشعوب الأخرى. والفقر المدقع حال دون تحقيق هذا الهدف السامي، ألا يحق لهؤلاء الشعوب أن تتساء‌ل لماذا يتم نهب مواردها الطبيعية الهائلة التي هي في أمس الحاجة إليها؟".
لم يكن حديثه عن أفريقيا اعتباطيًا، بل يعكس إدراكه لخارطة التحالفات المفترضة، ورغبته في التمدد والتحدث باسمها.

إفريقيا.. شعب فقير وأرض خصبة

لكل شيء مفارقة معتادة، ومسلّمة مكرورة تقول إنّ القارة السّمراء التي يُنظَر إليها أن تكون سلةً لغذاء العالم، والمورد المحتمل للمواد الخام، لا تجد قوت يومها، ولا تحضر في المحافل الدولية إلّا من باب مناقشة الحدْ من تأثير حروبها الأهلية وإغاثة جائعيها ومساعدة دولها لتجاوز الخلافات الوهميّة التي تعرقل مسيرة العالم، وتخفيف حدة العنف السّياسي، ويُدبِر عنها العالم ولا يحتسبها في عداد أروقة الملفات الرئيسة إلا لمامًا، من دون انتباه لما يمكن أن يتسبب به هذا الجفاء. فتهيّأت إفريقيا لتكون أرضًا خصبة لكل صاحب فكرة متمردة، أو مذهب جديد، أو حتى ديانة وليدة، فالبؤس والفقر يجعل كل قادم (أفضل) بكل تأكيد من مرارة الحاضر بالنّسبة لإفريقيا.

ولكن هذه القارة لم تكن بهذه المأساوية، لدى النظام الإيراني، الذي رأى فيها أرضًا خصبة لنشر النفوذ والايديولوجيا، في ظل انشغال العالم عنها، وانشغال القانون الدولي عنها أيضًا، فصارت أرضًا للعبور، ومكانًا صالحًا لتحقيق أحلام "تصدير الثورة"، ونُصرة المستضعفين، وحائطًا لتعزيز أمن إيران الإقليمي، وتربية مصالح إقليمية، فحضّرت فيها ملعبًا احتياطيًا لصراعاتها، مع الغرب وإسرائيل، ومنافسيها من دول الخليج.



طموحات قديمة.. تتجدد





منذ أن بدأت إيران عهدها الجديد في بداية الثمانينات بعد الثورة الخمينية، أرادت أن تكون ضمن القوى الفاعلة في الخارطة السياسية العالمية، من دون أن تتخلى عن ثورتها التي بدأت أول ما بدأت ثورة للانتصار للعرق الآري، وتربّت على كره "التسمم بالغرب" كما شاع حينها، إلى أن جاء الخميني وأخذ قطافها وألبسها عباءة دينية رسالية، وحاول بعد نجاح تحوير ثورته، تحويل الحالة الإيرانية إلى امتداد لثورات المظلومين، وانتفاضة أيديولوجية عالميّة، فمدت إيران عنقها الطويل لتطل على كل المناطق الميتة، أو المحايدة، لتتجمّع بها وتتقوى، فمن أين تبدأ، غير الأرض الخصبة المهملة!



عدو مشترك.. وغرب فاشل





في حوض النيل ودول البحيرات والقرن الأفريقي استغلت إيران الفشل الأميركي، فأثبتت أمشاجها على نغمة نصرة الاستضعاف، والاهتمام بالحلفاء الجدد اللذين يعاقبهم العالم سواء في السودان أو اريتريا أو موزمبيق، فانبجست بسياسات اقتصادية جاذبة، وحققت الكثير من الفتوحات، واضطرت الدول الأفريقية أحيانًا إلى التنازل في ملفات استراتيجية، حتى أصبح الحديث عن قواعد عسكرية لإيران على البحر الأحمر، حديثًا، يروج بلا خجل، ولا يجد من النفي إلا النفي المذيل بعبارة "وماذا لو كان لها قواعد، أليس من حقها ومن حقنا"، أما إيران فإنها تتاجر بمشاعر العداء لأميركا الذي يميّز المنطقة بعمومها، كما تحاول تطبيق نظرية اقتصادية جديدة، ولا ينافسها أحد.



السودان.. نقطة الانطلاق والانتهاء!





ارتبط الانفتاح الإيراني على أفريقيا بعهد الرئيس رفسنجاني، الذي حطت طائرته في عام 1991 في السّودان، الذي كان يعيش عامه الثاني في ظل نظام إسلامي عسكري إيديولوجي معزول ومحاصر من قبل المجتمع الدول، شكّلت زيارة رفسنجاني حدثًا محوريًا للسودان الإسلامي الجديد، وقد كانت الزيارة حصادًا لأعوام من التواصل مع الإسلاميين السودانيين حتى قبل استيلائهم على الحكم، وتتويجًا لدعم الإيرانيين للحكومة الجديدة في السودان. مثّلت الزيارة نقطة الانطلاق لتوسيع دائرة الاهتمام بالقارة السمراء.

وجد رفسنجاني حفاوة شعبية كبيرة، لشعبٍ يحب الضيوف، ولم يعش حساسية طائفية بين السّنة والشيعة أبدًا لأنه سني بالكامل، وفي خلفيته السطحية ولدى الحاكمين الجدد، لم تكن إيران أكثر من "دولة إسلامية"، وليس لها تصنيف أبعد من ذلك، على عكس ما تجده إيران في الدول التي تشهد انقسامات طائفية، فإن التخوفات تكون كثيرة، لوجود نظرية ولاية الفقيه السّياسيّة الدّينية، التي تهدد الأمن القومي بتعدد ولاء معتنقيها. منذ تلك الزيارة وإيران تستغل "براءة" العقل الإفريقي المسلم السّني، فهو خصب يتلقي الأفكار الجديدة، دون ممانعة.

سارعت إيران بتنشيط أذرعها المباشرة والخفية، مستغلة انتشار الكثير من الموالين لإيران في غرب إفريقيا عبر بعض المنتمين لحزب الله اللبناني والمتوالين معه، فتكررت زيارة رفسنجاني للسودان في عام 1996، ولكنها تمددت حينها إلى جنوب إفريقيا (وكانت صلاتها مع الشيعة فيها قديمة بدليل وجود حركات شيعية) وكينيا وأوغندا وتنزانيا، وزيمبابوي، وكانت تتحرك يومها وفقًا لفلسفة "سياسة البناء" التي بدأها رفسنجاني، وبعده عزز محمد خاتمي في زيارته لإفريقيا، كجنوب أفريقيا والسنغال ونيجيريا والنيجر، أسلوب التواصل الحضاري، بيد أنه كان يطمح بجانب التعزيز الاقتصادي والحوار الحضاري، إلى تأمين دعم دولي لبرنامج التسلح النووي الإيراني، باستغلال الوزن التصويتي للدول الإفريقية (لم ينجح ذلك). في عهد نجاد عادت النزعات الثورية إلى المنطق الإيراني، فبعد إنشاء منظمة تطوير التجارة مع الدول الأفريقية، وتعدد زياراته للقارة في 2010 و2009، لزيمبابوي وكينيا ونيجيريا والنيجر، وموروتانيا، جامعًا الايديولوجيا والاقتصاد معًا، وعمل على تنويع أدوات حضوره معتمدًا بالإضافة إلى "القوة الناعمة" على وسائل جديدة، كما استطاعت توظيف شبكة من التفاعلات غير الرسمية لخدمة مصالحها، حيث أصبح العديد من مواطنيها ومن حلفائها، خاصة "حزب الله" اللبناني، يعملون في مختلف أنحاء القارة الأفريقية. (السياسة الخارجية الإيرانية في أفريقيا، شريف شعبان مبروك، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2012).



دعم الحوثيين عبر اريتريا.. وقواعد في البحر الأحمر





الحديث عن العلاقات الإيرانية الإريترية تصاعد بعد التقارير التي تحدثت عن وصول سفينة محملة بالأسلحة الإيرانية إلى المتمردين الحوثيين في شمال اليمن عبر إريتريا، ورددت وسائل إعلام إسرائيلية عن وجود قاعدة عسكرية إيرانية بحرية بالقرب من ميناء عصب الإريتري (نقولا ناصر، المركز الإرتري للإعلام 2009). جدير بالذِكر أنّ إيران تعتبر وجود إسرائيل في أيّة مكان مبررًا لمد نفوذها إليه.


[caption id="attachment_55242179" align="alignleft" width="300"]سودانيون يودعون بارجة إيرانية بعد زيارة للسودان في نطاق التعاون الإيراني السوداني سودانيون يودعون بارجة إيرانية بعد زيارة للسودان في نطاق التعاون الإيراني السوداني [/caption]

وكان تقرير صادر عن "ستراتفور" نصّ على أنّ "إيران تنقل أسلحة عبر طريق يبدأ من ميناء عصب الإريتري، ويمر شرقًا حول الطرف الجنوبي من بحر العرب في خليج عدن إلى مدينة شقراء التي تقع على ساحل جنوب اليمن، ومن هناك تتحرك الأسلحة برًا إلى شمال مدينة مأرب شرقي اليمن، وبعدها إلى محافظة صعدة على الحدود السعودية - اليمنية". (إيران القوات المنتشرة في ارتريا، ستراتفور، ديسمبر(كانون الأول) 2008)، وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2009، قال تقرير آخر "إيران تنقل مؤنًا للحوثيين"، وصدر تقرير في 29 أكتوبر 2012، بعنوان "شرق أفريقيا ميدان للصراع بين إيران وإسرائيل" حول عواقب الصراع الإسرائيلي الإيراني في اريتريا، وتحدّث عن اختيار إريتريا توثيق صلاتها بإيران، لأن إسرائيل مرتبطة بشكل أوثق بأثيوييا والحلف الأميركي، الذي لا يريد النظام الاريتري الحالي.

الإريتريون وعبر مراكز مراكز البحوث ـ أيضًا - قالوا إنّ العلاقات مع إيران عادية، على الرغم من القروض التي طلبها الرئيس الأريتري أسياس أفورقي (كانت اريتريا حصلت على قرض 25 مليون يورو من إيران في 2008)، فإنّها لا تتفوق على العلاقات الإيرانية الأثيوبية والسّودانية، بل تقل عنهما بكثير، ويرفض الإريتريون ما قالته التقارير الأميركية، عن وجود دائم لإيران في ميناء عصب، مقابل تأهيل مصفاة النفط الإريترية.(مركز إريتريا للدراسات الإستراتيجية، "ECSS").

يقول الباحث المصري حسام سويلم: "المحللون في أجهزة الاستخبارات الغربية، توصلوا إلى خلاصة مفادها أن الوجود العسكري الإيراني الكثيف في أريتريا، يشير إلى مخطط إيراني لا يستهدف فقط اختراق اريتريا والقرن الأفريقي، بل أيضاً نقل الحرب من مضيق هرمز والخليج العربي إلى خليج عدن وباب المندب، وهو الممر الاستراتيجي المهم والحيوي لناقلات النفط إلى الدول المستوردة للطاقة في أوروبا والولايات المتحدة، وبذلك وسعّت إيران تهديداتها إلى خارج منطقة الخليج". ويواصل "ويرتبط ذلك بما أعلنه قائد الحرس الثوري - الجنرال على جعفري - عن إقامة قواعد بحرية إضافية في بحر عمان، وهي تدخل أيضاً في إطار استمرار الاستعدادات الإيرانية لمواجهة عسكرية متوقعة، في ضوء تطورات صراعها مع المجتمع الدولى بسبب الملف النووي الإيراني، كما أن التسلل الإيراني إلى القرن الأفريقي، يعني في ذات الوقت أن طهران تهدف إلى توسيع دائرة الحرب، والتسلل مجدداً إلى هذه المنطقة التى تشهد حشوداً عسكرية مثيرة للشبهات تحت ذريعة محاربة القرصنة، واحتمالات متوقعة لحدوث انفجار جديد وكبير للأوضاع في الصومال ينعكس على سائر دول القرن الأفريقي". (حسام سويلم، الأهرام الإستراتيجي ـ يناير 2010).



الإستراتيجية الإيرانية في شرق إفريقيا





مركز المعلومات حول الاستخبارات والإرهاب الأميركي، خلص في تقرير أصدره في 2010 إلى أن استراتيجية إيران في شرق أفريقيا والدول القريبة من البحر الأحمر تهدف إلى "ترسيخ نفوذها السياسي كجزء من المحور المعادي للغرب، الذي تسعى إلى إنشائه في دول العالم الثالث، وتعويض مصالحها الاقتصادية التي تفقدها في أوروبا وأميركا وآسيا، تنشيط المراكز الثقافية التي تنشر الفكر الشيعي، وتعزيز نفوذها، تأسيس وجود إيراني مادي على الأرض وفي البحر، قريبة من الميادين التنافسية ذات طابع المواجهة لإيران في الشرق الأوسط، والتي قد تستخدم لتهريب الأسلحة والعمليات الإرهابية).



ممانعة خجولة.. تنتظر العرب





كثيرون بدأوا في التنبه إلى الخطر الإيديولوجي للوجود الإيراني في الدول الإفريقية، فالنيجيريون يرفضون تدخل إيران ودعمها للإسلاميين والتشيع في الميدان السياسي النيجيري، وفي السودان بدأت حملات كبرى للتحذير من التشيع السياسي، ودعوات واضحة من الأحزاب السّياسية التقليدية، وأحزاب جديدة دخلت في حكومة البشير تدعو لفك الارتباط بالمحور الإيراني، والسّعي لتأمين العمق العربي، خاصة بعد أن انتقلت المعركة بين إيران وإسرائيل إلى العاصمة السودانية، إذ قامت الأخيرة بقصف مصنع للأسلحة الإيرانية في السودان، وضرب قافلات تهريب الأسلحة المارة عبر السودان وسيناء إلى غزة.



قبل الختام.. ضمور الثروة





يقول الباحثون إن طموح إيران، مفهوم، وتمددها له أهدافه، ولكن الغريب، هو ضمور العرب، وإهمال الملف الإفريقي، بعد رحيل القذافي، وتشتت مصر المنكفئة على جراحها وهي توشك على العطش بفعل السدود التي تقام على مجرى النيل، فهل تنجح إيران في الاستيلاء على البحر الأحمر، وتطوّق بذلك النفط العربي؟ وتواصل مدّها لسلطانها في غرب افريقيا، لتستحدث قنوات إنقاذ مالية، مستغلة ضعف مكافحة غسيل الأموال في تلك المواطن؟ أم يتنبه العرب، ويدخلون في المعادلة، الإيرانية الإسرائيلية الأميركية؟
كما أن ولاية الفقيه، كانت نظرية دينية سخّرت لبسط سلطة على الدنيا والسياسة، فإن نصرة المستضعفين كانت نظرية أخلاقية سخّرت لبسط النفوذ، فبدلاً من التسمم بالغرب يقترح الثوريون التسمم بالفرس، كل هذا يضخ الايديولوجية الدينية باسم ولاية الفقيه لتمنح إيران نفوذًا سياسيًا، ولكن بعد عقود من الثورة، يبدو مستقبل هذه النظرية في أفول، على الأقل على المستوى الديني، فيقول محسن كديور"أعتقد أننا نقترب من نهاية مرحلة ولاية الفقيه في إيران، وإن كان هناك أي مستقبل لولي فقيه، فسيكون من طهران وليس من قم، لأن إدارة المجتمع تحتاج إلى المعرفة السياسية أكثر من المعرفة الفقهية"" (الشرق الأوسط، 16 مارس/آذار 2007).
الضخّ الديني الذي كان يمنح إيران هالة ثورية، في ضمور، خاصة بعد الحرب السورية، وبعد القمع الداخلي، فهل سيتحرّك العرب الآن وفقًا لسياسة المصالح للدخول في الميدان؟
font change