الإعلام المصري من التحول إلى الصدام المفروض عليه

الإعلام المصري من التحول إلى الصدام المفروض عليه

[caption id="attachment_55245353" align="aligncenter" width="620"]باسم يوسف.. جيل جديد وأسلوب جديد للإعلام في مصر ما بعد الثورة باسم يوسف.. جيل جديد وأسلوب جديد للإعلام في مصر ما بعد الثورة[/caption]






هذا الوضع أفرز حالة عامة من التخبط، والانجرار إلى ما يشبه مقدمات الحرب الأهلية بين أبناء الوطن، ومع تراجع - أو انهيار - الوضع الاقتصادي، فإن الخوف من المستقبل دفع إلى الواجهة بالحلول الفردية، وأثر في الوقت ذاته قي بنية المؤسسات اقتصاديا، سواء خاصة أو عامة.
لأن الإعلام بكل أشكاله ليس منبتّ الصلة عن الواقع، بل على العكس هو الابن الشرعي للواقع والتعبير عنه بإيجابياته وسوءاته، فإن وضع الإعلام المصري اليوم هو انعكاس لتلك الحالة التي تعيشها البلد؛ من صراع نخشى أن يكون مدمرا لقواعد الدولة، وحالة من الإقصاء ومحاولة الاستحواذ، وأزمات اقتصادية طاحنة ومتطورة. هذا الواقع يعكس نفسه بقوة في الإعلام بمصر اليوم، وذلك تعبيرا عن تلك الحالة المتفاعلة في الواقع.

في السطور القادمة، سوف أحاول قراءة خريطة الإعلام المصري في هذه المرحلة، عامان ما بعد الإطاحة بالنظام السابق، ثم مرحلة فوضى انتقالية، تلاها استكمال عملية سيطرة ممنهجة، أو بالصدفة، على الدولة وأركانها أو ما يتبقى منها. وفي البداية، أشير إلى أن رؤية النظام الحاكم في مصر الآن للإعلام في ظل وجوده لا تختلف عن رؤية أي نظام سلطوي آخر في مرحلة تاريخية سابقة أو حالية، فالإعلام المصري اليوم «يمر بأزهى عصوره» كما ذكر وزير الإعلام المصري أحد كوادر جماعة الإخوان المسلمين، ويضيف قائلا: «ثورة 25 يناير المجيدة أحدثت تحولا ديمقراطيا كبيرا لم تشهده مصر من قبل»، و«نعيش الآن ربيع الإعلام المصري، فمصر تعيش أزهى عصور حرية الإعلام والصحافة والكلمة»، ودلل على ذلك إحصائيا وهو في زيارة لدولة قطر بقوله: «يكفى أن نقول إن الساحة الإعلامية شهدت ميلاد 59 صحيفة مصرية جديدة في هذه الفترة، إضافة إلى عشرات القنوات الخاصة، سواء كانت مصرية أو استثمارات عربية أو أجنبية داخل مصر»، ولكنه أشار بعد ذلك بأيام مشككا في أن وسائل الإعلام المعارضة يقف وراءها مال سياسي داخلي وخارجي بهدف إسقاط النظام، ومن بين ما قاله «الإعلام الخاص أنفق في العام الماضي 6 مليارات جنيه، يقابلها مليار ونصف المليار من الدخل فقط، إذن هناك فجوة ومال سياسي يدخل الإعلام الخاص، وهناك بعض الإعلاميين يعتمون على إنجازات الحكومة الحالية».

ولم يختلف عنه رئيسه في هذا الموقف عندما قال محمد مرسي في حديثه لـ«الجزيرة» القطرية مؤخرا، عندما أكد أنه لا توجد مرحلة في التاريخ المصري أو حتى في أي مكان بالعالم شهدت مثل ما تشهده مصر حاليا من حرية في الإعلام والتعبير عن الرأي.
وفي المقابل، فإن هناك تقييما آخر يتناقض مع تلك الصورة الوردية لأوضاع الإعلام في مصر، عبر عنها كثيرون يصعب حصرهم، وقد عبر عن هذه الرؤية الزميل الكاتب الصحافي جمال فهمي بأنه «عندما يرى رئيس الدولة أن النقد الموجه له إهانة لشخصه، فنحن إذن أمام هجمة أشرس على الإعلام تهدف إلى خنق الحريات وتكميم الأفواه، وأن نوايا جماعة الإخوان المسلمين تجاه الإعلام ظهرت منذ اللحظة الأولى لوصول حزبها إلى البرلمان ومن بعده سدة الحكم، عندما وصف مرشد الجماعة، محمد بديع، الصحافيين بسحرة فرعون، وتجلت النية لاحقا في معايير اختيار رؤساء تحرير الصحف القومية التي مارسها مجلس الشورى، كخطوة تمهيدية لوضع الإعلام ضمن خطة الجماعة لـ(أخونة الدولة)».



دور جديد





عندما بدأ المصريون يومهم الأول من دون وجود نظام مبارك للمرة الأولى منذ ثلاثين سنة، كان أكثر الأطراف حيرة الإعلام، سادت حالة من الارتباك كل وسائل الإعلام، وبدأ معظم الإعلاميين البحث عن موقع أو دور جديد بعد سقوط النظام، وكانت الصعوبة الأساسية هي عدم وجود ملامح واضحة، لكن الثابت الوحيد كان غياب نظام مبارك الذي أصبح سابقا، وهكذا بدأت عملية التحول التي انتابت عددا لا بأس به من الزملاء، ووقف البعض داخل ساحات مؤسساته الصحافية، خاصة القومية منها، ليعلن «التطهر» من علاقته بالعهد السابق، وتسابق البعض الآخر في التحول، إلى درجة أصابت الجمهور بالنفور، خاصة في مراحل تالية بعدما بدأ دخان الحدث ينقشع وتبدو المواقف على حقيقتها. كان هذا الموقف هو إحدى أهم مشكلات الإعلام في المرحلة التالية. فقد فقد قطاع لا بأس به مصداقيته نتيجة هذا التحول - أو التحولات - خاصة بعد انكشاف حقيقة الجماعة التي انفردت بحكم مصر وتولى أحد أعضائها منصب الرئيس، وما كان ذلك ليحدث لولا مواقف عدد من السياسيين المحسوبين على التيار المدني، وضمنهم عدد من الإعلاميين، الذين أعربوا عن أسفهم للشعب المصري بعد ذلك وعن خطأهم في دعم «الإخوان» ومرشحهم، مبررين ذلك بأن الخيارات كانت محدودة. هذا التطور دفع بهؤلاء لأن يكونوا من المنتقدين بشدة لـ«الإخوان» خلال الفترة الماضية كشكل من أشكال التكفير عما يعتقدونه خطأ وقعوا فيه.

حالة ما بعد سقوط النظام السابق أفرزت مناخا إعلاميا مختلفا في بعض جوانبه عما سبق، لكنه تشابه إلى حد كبير في بعض النواحي مع الوضع السابق، بل إنه عمق أخطاء كانت محل شكوى دائمة، واستعراض سريع لأهم ملامح الخريطة الإعلامية المصرية مع مقارنة بوضعها السابق سوف يساهم في فهم ملامح الواقع وتعقيداته، وقد يسهم هذا في محاولة طرح تصورات للخروج من مأزق الوضع الراهن.
صحيح، كما قال وزير الإعلام الإخواني وأكده رئيسه بعد ذلك، أن الساحة المصرية شهدت خلال العامين الماضيين ميلاد تسع وخمسين صحيفة جديدة، لكن هذا يدفع للسؤال: ماذا عن المناخ العام الذي تعيشه هذه الصحافة، جديدها وقديمها؟ لأن هذا هو المعيار الصحيح للحكم على الأمور.

حسب الأعداد المقيدة في نقابة الصحافيين المصريين، فإن عدد الصحافيين المشتغلين، المقيدة أسماؤهم بالنقابة، يقترب من 6400 صحافي، في حين أن التقديرات تقول إن عدد الصحافيين العاملين بالفعل في المؤسسات الصحافية المختلفة يصل إلى نحو خمسة عشر ألف صحافي. هذه الحقيقة تطرح تساؤلات عن المناخ المهني المتاح من حيث وجود حماية منظمة للصحافيين لأداء عملهم، كما يثير تساؤلا مهما حول مستوى المهنية في ظل غياب مفهوم التدريب المستمر في معظم المؤسسات الصحافية، كذلك محدودية دور النقابة في هذا المجال في ظل الأزمة المالية التي تواجهها وفي ظل حالة الاستقطاب السياسي الحاد والمواجهات والمضايقات التي يتعرض لها الصحافيون بما يقلص من دور النقابة المفترض في الارتقاء بمستوى المهنة.

تظل الصحافة المسماة بالقومية كبرى المؤسسات من حيث الضخامة وعدد الصحافيين العاملين فيها وعدد المطبوعات، فحسب آخر إحصاء متوافر فإن عدد المطبوعات الصادرة من هذه المؤسسات يصل إلى ست وخمسين صحيفة ومجلة، في طليعتها مؤسسة «الأهرام» التي تصدر وحدها ثماني عشرة مطبوعة. لكن هذا لا يعني أن هذه الصحف ما زالت تملك حضورا وتأثيرا يقارن بالوضع في ما سبق، فقد حمل التطور السياسي الواقع في مصر الأمر بدرجة كبيرة إلى حسم مسألة التوزيع والانتشار للصحف الخاصة مجتمعة في مواجهة الصحف القومية، وهذا كان نتيجة ما اعتبره المراقبون انتصار الصحافة الخاصة، التي بدأت منذ بدايات القرن الحالي بكسب تعاطف القراء، خاصة أثناء أيام الانتفاضة التي اندلعت ضد النظام السابق، وكانت هذه الصحف الخاصة في موقف أقرب إلى موقف المتظاهرين، في حين التزمت الصحافة القومية موقف النظام دون إغفال جزئي لما يحدث في الشارع، وعندما سقط النظام كان سلوكا طبيعيا من القراء عقاب هذه الصحف والاندفاع نحو الصحف المستقلة، وساعد على ذلك أيضا الموقف المتخبط للصحافة القومية في تلك الفترة، التي انتقلت من موقف إلى نقيضه بين ليلة وضحاها بمنطق مات الملك عاش الملك. إلا أن هذه الصحافة الخاصة لم تحافظ كثيرا على مكاسبها في الفترة التالية، نتيجة ما لمسه القراء من حالة تلون وتبدل للكثير من كتاب هذه الصحف وأساليب تغطيتها، وهو الأمر الذي انكشف واضحا بعد سيطرة «الإخوان» على الحكم. يضاف إلى ذلك حالة الإجهاد الشديدة التي أصيب بها المواطن المصري والتي سوف تكون عاملا مشتركا في التأثير على مختلف وسائل الإعلام.


[caption id="attachment_55245355" align="alignleft" width="224"]ماسبيرو.. مركز الصحافة والإعلام في مصر ماسبيرو.. مركز الصحافة والإعلام في مصر[/caption]

الملاحظة الجديرة بالتوقف هنا، هي ذلك الأسلوب الذي بدأ مبكرا من قبل جماعة الإخوان في السيطرة على مقاليد البلد، وبدا هذا في مسألة السيطرة على المؤسسات الصحافية القومية، فقد كانت النية مبيتة لتغيير رؤساء تحرير ورؤساء مجالس إدارة هذه الصحف بشخصيات موالية أو متعاطفة، أو بحد أدنى غير معادية للجماعة وهو الإجراء الذي كان يواجه بمعارضة شديدة من الصحافيين والسياسيين بمختلف اتجاهاتهم، ولم تستطع الجماعة مواجهة هذا الضغط في حينه إلى أن وقع حادث قتل الجنود المصريين على الحدود الذي راح ضحيته ستة عشر شهيدا، لم تعلن الدولة نتائج التحقيقات حول من قتلهم حتى الآن، استغل القائمون على إدارة الملف الصحافي في الدولة حالة الانشغال الشديدة للجميع في هذه الجريمة لتمرير مخطط السيطرة على المؤسسات القومية، فتم تغيير نحو خمس وسبعين قيادة صحافية، استغلالا لهذه الحالة من الانشغال، ومرت العملية رغم أنف الجميع.



حالة ارتباك





شهدت المرحلة التالية لسقوط النظام السابق رفع سقف حرية الصحافة إلى حد الإطاحة به في بعض الأحيان، حتى الصحف القومية، «الأخبار» و«الأهرام» و«الجمهورية»، والمعروفة بولائها التام للحكومة، رغم غرقها في الدفاع عن نظام مبارك إبان أيام الثورة الثمانية عشر، إلا أنها بمجرد إعلان خطاب التنحي، كانت أول من يهتف ضده.
كما سبق أن ذكرت، فإن حالة الارتباك التي أصابت الدولة المصرية، لحقت بالصحف القومية، التي فقدت من كانت تدين له بالولاء، فمرت بمرحلة البحث عن سيد كما اعتادت لعقود، رغم المحاولات المتعددة خلال هذه العقود للحفاظ على حد أدنى من المهنية، إلا أن ضغوط السلطة من جانب ومنافع الارتباط بها من جانب آخر جعلتا حالة الارتكان إلى وجود «سيد» هو الحل الآمن والسهل، بعد سقوط النظام أخذت تتخبط، لكن بوصلتها، عادت مرة أخرى للتوجه، إلى المجلس العسكري، الذي أصبحت تدين له بالولاء وتدافع عنه، وبعد الانتخابات البرلمانية ثم الرئاسية، ثم الهجوم الإخواني المباغت على قياداتها وتغييرهم - جعلها تدين بالولاء لجماعة الإخوان المسلمين، وأصبح قيادات الجماعة التي كانت تصفها هذه الصحف بـ«المحظورة»، قبل الثورة، هم نجومها، وكتاب مقالاتها، وأبرز من تجرى معهم الحوارات، بل إن صحيفة «الأهرام»، نشرت أول مقال في تاريخها، الذي يمتد لأكثر من 130 عاما، للمرشد العام للجماعة الدكتور محمد بديع، مع إشارة في الصفحة الأولى.

الملحوظة البديهية أن الأكثر ظهورا بين الصحف الصادرة حديثا، الصحف المحسوبة على التيارات الدينية بمختلف توجهاتها، كانت أولاها صحيفة «الحرية والعدالة» الناطقة باسم حزب الجماعة الحاكمة الذي يحمل نفس الاسم، وصحيفة «النور» المعبرة عن حزب النور السلفي.
المكون الآخر في الخريطة الإعلامية المصرية هو التلفزيون، الذي بات أحد العناصر الرئيسة، ليس في الساحة الإعلامية، بل في اللعبة السياسية، وتحول الإعلاميون العاملون فيه إلى لاعبين بدرجات متفاوتة في ساحة الفعل السياسي، وأيضا انقسم الإعلام التلفزيوني إلى قسمين أساسين، هما: تلفزيون الدولة، والتلفزيون الخاص. وقبل أن أبدأ الحديث عن تلفزيون الدولة الذي عملت فيه لسنوات عندما أتيت من خارجه مكلفا العمل مسؤولا عن الأخبار والشق السياسي فيه، أود أن أشير إلى أنني وقت عملت فيه شعرت بأنني أنتمي إلى هذا المكان مثلي مثل أكثر أبناء هذا المبنى انتماء رغم أنني كنت ضيفا عليه، وسمحت لي الظروف بأن أرى داخله على حقيقته، ولذلك يمكنني أن أقرر أن الاتهامات التي توجه إلى هذا المكان صحيحة وخطأ في ذات الوقت، فقد كان - وما زال - هذا الجهاز تابعا للحكومة وليس للدولة، تتحكم فيه سياسات الحكومة حتى لو تشدق وزيرها بالحرية غير المسبوقة، ويمكني القول أيضا إن أي محاولة لتطوير وتحرير هذا الجهاز سوف تصطدم بصخرة الإرادة السياسية، فقد حاولت من قبل واكتشفت أن الواقع أكبر من النوايا الطيبة، وأن الإرادة السياسية هي الفاصلة في تحرر أجهزة الإعلام المملوكة للدولة من عدمه. كذلك، فإن هذا الجهاز يعاني أمراضا عضالا على مر السنيين، ليس أكبرها هذا العدد الهائل العامل فيه الذي يتجاوز ثلاثة وأربعين ألف عامل، في حين أن الاحتياج الفعلي يمكن ألا يتجاوز الـ10% من هذا العدد.

رغم انتشار الفضائيات الكثيرة، التي يمكن القول باطمئنان إنها سحبت البساط من تحت قدمي التلفزيون الرسمي، فإنه ما زال يحظى بنسبة مشاهدة في الأقاليم الفقيرة، كما أنه ظل رمزا للأنظمة في كل وقت. وهذا ما تدركه الجماعة الحاكمة، فقررت إحكام السيطرة عليه.
العداء الشعبي للتلفزيون المصري بعد سقوط النظام، وهو الأمر الذي نجحت فيه الجماعة وبعض الجماعات السياسية الأخرى، ترتب عليه خروج عدد من الكوادر التي كانت تعمل به من قبل، للعمل في القنوات الأخرى لعدة أسباب؛ أبرزها أن الارتباط بالتلفزيون أصبح مربوطا بالفساد والسلطة، فضلا عن أن التلفزيون المصري لم ينجح، رغم تغيير قياداته، في تغيير توجهه، حيث إن القائمين الجدد عليه، بخلفياتهم السياسية والتنظيمية تجعل ولاءهم فقط لمن يحكم. ولأن أحد العيوب الكبيرة داخل هذا الجهاز هو خلق الإحساس على مدار عشرات السنين بأن العاملين فيه هم موظفون، وبالتالي يسود السلوك الوظيفي الحكومي الذي يبحث فيه الموظف عن تأمين دخله وإرضاء أولي الأمر. وركزت القيادة الجديدة لإعلام الدولة على مسألة الحجاب، باعتبار أن إنجازهم الأهم ظهور المحجبات على الشاشة، وانتشرت اللحية بين قطاع كبير من العاملين.

خروج الكوادر الجيدة، ترتب عليه، المجيء بكوادر جديدة، غير مدربة، وغير مهنية، وذلك في محاولة لتغيير واجهة الشاشة، كما ترتب عليه أيضا عودة عدد من المذيعين القدامى، بعضهم تم استبعاده لأنه كان دون المستوى، لكنه وجد في الفراغ الإداري فرصة للعودة.
الشهادة هنا تقتضي القول إن هذا الجهاز يحتوي على عدد من شباب الإعلاميين المتميزين بحق في مجالات الصحافة التلفزيونية والأخبار والإعداد والإخراج والهندسة، لكنهم لا يعيشون المجال الذي يسمح لهم بالعمل الصحيح، ويؤكد هذا أن كل القنوات التلفزيونية الخاصة التي تعمل في الساحة اليوم والتي سحبت البساط من تحت التلفزيون المصري قامت على أكتاف العاملين في التلفزيون المصري في المجالات المختلفة.


[caption id="attachment_55245357" align="alignleft" width="300"]غضب من الإعلاميين وشباب الثورة على سياسة الإخوان غضب من الإعلاميين وشباب الثورة على سياسة الإخوان[/caption]

توك شو الثورة





التلفزيون الخاص ازدهر بشدة في المرحلة التالية لسقوط النظام، لكن هذا لا ينفي أن انطلاقته القوية كانت عام 2005، عندما شهدت الساحة الإعلامية المصرية في ذلك الوقت انفتاحا ملحوظا، تطور خلال السنوات التالية، ورغم بعض الممارسات الإدارية لمحاولة تحجيمه فإن تطور هذه القنوات استمر؛ لوجود تيار داخل السلطة في هذه المرحلة كان مع دعم وجود هذا الشكل من الإعلام، إلا أن مرة أخرى الإحساس بأن هذه القنوات انضمت إلى المتظاهرين بشكل أكثر وضوحا من البداية أكسبها رصيدا لدى المشاهدين، وكان لانتشار برامج الحوارات الليلية أثره الكبير في توجيه الرأي العام.
برامج التوك شو، لم تخطف بعضا من جمهور الصحف فقط، ولم تدخل في منافسة معها فقط، بل خطفت رؤساء تحريرها، فعدد كبير من مقدمي هذه البرامج، يعمل في الأساس صحافيا، وأصبحت الصحف، وصحافيوها، تعمل في خدمة، رئيس التحرير وبرنامجه.

الطريف الذي يمكن رصده هنا، أن عددا من ضيوف هذه البرامج تحولوا إلى مقدمي برامج توك شو مسائية، وأصبح طبيعيا أن تجد الضيف اليوم مذيعا غدا، لكن المشهد الأكثر دهشة، هو ظهور الضيف في أكثر من برنامج يومي، حيث يرى بعضهم أن هذا الأمر بالنسبة له يمثل «موردا ماليا»، ليس أكثر.
تشارك برامج التوك شو في صناعة الرأي العام المصري بكل تأكيد، وبسبب نجاحها في اجتذاب نسبة كبيرة من الإعلانات، أصبحت بعض الفضائيات، تقدم أكثر من برنامج توك شو على نفس القناة، وقد يصل عدد برامج التوك الشو، في قناتين تابعتين لمؤسسة واحدة إلى أربعة برامج، رغم أن تقييم الكثير من خبراء الإعلام أن هذه البرامج ما هي إلا مجرد صراع ديوك، ومعارك، لكن لا نتيجة واحدة تذكر، إلا أن هذه البرامج تحولت في الفترة الأخيرة إلى المدافعين في الخط الأول عن مدنية الدولة ومحاولات الاستحواذ والإقصاء الذي تقوم به الجماعة الحاكمة في إطار محاولات أخونة الدولة.

في مقابل هذه القنوات، انطلقت القنوات الدينية تصدح في الفضاء، وباتت هي المدافع الأول، وبعنف غير مسبوق، عما يسمونه مشروع الدولة الإسلامية. وصل عدد القنوات الدينية في العالم العربي، بشكل عام، إلى أكثر من 150 قناة. هذا العدد يثير أسئلة كثيرة عن مصادر تمويل وإدارة هذه القنوات، والمضامين التي تقدمها، والأهم جمهورها، وإلى أي مدى يتأثر هذا الجمهور بخطابات الكراهية والتحريض ضد الآخر، التي تنتجها وتروجها أغلبية القنوات الدينية. أغلب القنوات الإسلامية لا تعتمد على الصورة وتقدم برامج وعظية، وتستبعد المرأة ولا تسمح بظهورها كمقدمة برامج أو كضيفة، وتمتلئ هذه القنوات بالفتاوى المنحرفة أو المتطرفة فقهيا التي تحض على كراهية الآخر وعدم تهنئته في الأعياد أو قتل المعارضين للرئيس مرسي.

مأساة تلك القنوات، أنها ليست قنوات إعلامية مهنية، بل منابر دعائية تحريضية، وبالتالي لا تصمد أمام أي تقييم إعلامي يعتمد معايير الأداء الإعلامي الاحترافي ومواثيق الشرف. لقد تحولت القنوات الإسلامية المصرية من الدين للسياسة، وباتت تعتمد الخلط المتعمد بين الدعوي والسياسي، وتم توظيفها في الدعاية الانتخابية لمرشحي التيار الإسلامي في البرلمان، ثم الدعاية للرئيس. واستخدمت لغة خطاب صادمة وخارجة عن الآداب العامة، ومواثيق الشرف الإعلامي، وكانت المفارقة أن السب والشتائم انطلقت من أفواه رجال دين ومقدمي برامج مشهورة، في تناقض صارخ مع الصورة الذهنية المفترض توافرها في رجال الدين، أو اللغة التي يجب أن تستعملها قنوات إسلامية. والغريب أن قاموس الشتائم نفسه، علاوة على التحريض على القتل، ينصب حاليا على كل المعارضين للرئيس مرسي وجماعته، لذلك كل هذه التجاوزات غير الأخلاقية وغير القانونية تمارس يوميا ولا ترى الجماعة الحاكمة سوى تجاوزات الفضائيات العامة.



بداية المعركة





الجديد الذي تشهده الساحة الإعلامية المصرية هذه الفترة، تلك المعركة التي قررت الجماعة الحاكمة وأدواتها التنفيذية في أجهزة الرئاسة والدولة أن تشنها مع الإعلام في الأشهر الأخيرة، وتستخدم في ذلك تكتيكا بات مكشوفا بإعلان مؤسسات الدولة الرسمية أنها ليست في خصومة مع الإعلام، وآخره إعلان الرئيس تنازله عن كافة البلاغات المقدمة باسمه، وفي ذات الوقت فتح الباب واسعا أمام أتباع الجماعة لتقديم البلاغات والملاحقات القانونية واستخدام الحصار والعنف ضد الإعلاميين والمؤسسات الإعلامية المختلفة، وعند هذا الحد يعلن المسؤولون في الدولة أنهم غير مسؤولين عن هذه الإجراءات، ويتخذونها مناسبة لتذكير الإعلاميين بمراجعة أدائهم حتى لا يتعرضوا لغضب الرأي العام الذي يترجم في مثل هذه الملاحقات. لذلك، ظل استهداف الصحافيين ومقدمي البرامج التلفزيونية عبر التهديدات الرئاسية والبلاغات القانونية وحصار مدينة الإنتاج الإعلامي. وكان استدعاء الإعلامي التلفزيوني الساخر باسم يوسف أمام النيابة بمثابة محاولة للتلويح بـ«رأس الذئب الطائر»، حيث يعد باسم يوسف الإعلامي الأكثر مشاهدة اليوم في مصر عبر برنامجه الساخر «البرنامج» الذي تضمن خلال حلقاته تهكما ساخرا على تصرفات وتصريحات الرئيس المصري. كان مثول باسم يوسف أمام النيابة، بعد إصدار النائب العام أمر ضبط وإحضار للإعلامي الساخر، تنفيذا لتكتيكات الإخوان المسلمين التي أشرت إليها لمواجهة انتقادات الإعلام المصري لأداء مؤسسة الرئاسة والجماعة.




أدرك الإخوان المسلمون، بعد أقل من شهرين من تولي محمد مرسي منصب الرئيس، أن الإعلام يمثل عقبة رئيسة أمام سياسة «التمكين» التي تتبناها الجماعة للسيطرة على مفاصل مؤسسات الدولة وجذب جمهور جديد لها. فقد تحول الإعلام إلى أكبر حزب معارض للإخوان المسلمين منذ يونيو (حزيران) 2012. تعرض الصحافيون بمختلف توجهاتهم - من غير الإسلاميين - للكثير من المضايقات، وشهدت الساحة الإعلامية وقوع قتلى ومصابين في أثناء حالات الصدام بين «الإخوان» ومعارضيهم. بالتوازي، قامت مجموعات من التيار السلفي بحصار مدينة الإنتاج الإعلامي التي تضم أغلب استوديوهات البث الخاصة بالفضائيات المصرية الخاصة. وهو الحصار الذي تضمن تهديدا مباشرا للإعلاميين، باستهدافهم جسديا، إلى جانب منعهم من تأدية مهمتهم والوصول إلى محل عملهم. ولاقى هذا الحصار استحسانا، أو على الأقل غض طرف من النظام الحاكم وآلته الإعلامية التابعة. وبالطبع، استمرت عمليات الملاحقة القانونية واستدعاء الصحافيين والإعلاميين باستمرار للنيابة، للتحقيق في كل شيء وأي شيء، المهم هو الإحساس بحالة الوقوف في وضع المتهم، وهذا في حد ذاته ممارسة للتخويف والإرهاب.

وحسب تقارير سابقة لمنظمات حقوقية ومراكز دراسات، من بينها معهد العربية للدراسات - في يناير (كانون الثاني) الماضي - فإن جهات التحقيق لاحقت إعلاميين في 24 قضية وبلاغا بتهمة إهانة الرئيس خلال الـ200 يوم الأولى من حكم محمد مرسي، مقابل 14 قضية أحيلت إلى المحاكم المصرية بنفس التهمة خلال 115 عاما؛ أي منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهاية فترة حكم الرئيس السابق حسني مبارك. ولعل عدد البلاغات والقضايا ارتفع خلال الشهرين الماضيين إلى نحو 30 بلاغا.
المشكلة هنا، هي أن النظام الحاكم لا يدرك أن أكبر الأخطاء التي يمكن أن يقع فيها النظام - أي نظام - هو معاداة الإعلام، فالمعركة خاسرة في كل الأحوال حتى لو حققت نجاحا جزئيا، المشكلة الأكبر التي يجب أن يواجهها الحكام الجدد لمصر أن سياستهم الفاشلة هي المشكلة الرئيسة، وأن سيطرة ما فوق الوطني من أهداف وإعلاء مصلحة الجماعة على مصلحة الوطن وحالة الإقصاء والاستحواذ التي يمارسها الحكم، كل هذا هو المشكلات الحقيقية التي يجب عليه مواجهتها، وغير ذلك هو حرث في الهواء وتأجيل لصدام سيدفع الجميع ثمنه بلا استثناء.
font change