المثقف السعودي أصبح جزءا من التضليل بسبب الانخراط في الصراع

المثقف السعودي أصبح جزءا من التضليل بسبب الانخراط في الصراع

[caption id="attachment_55247776" align="aligncenter" width="620"]إبراهيم البليهي في محاضرة في نادي نجران الأدبي بعنوان «أصالة التخلف» إبراهيم البليهي في محاضرة في نادي نجران الأدبي بعنوان «أصالة التخلف»[/caption]

تبدو مشكلات المثقف العربي جزءا من أزمة الفكر في عالمنا العربي والتي تناولتها أقلام عربية كثيرة، لكن يبدأ الخلل في جزء كبير من هذا الطرح عندما تعمم المشكلات العربية مع وجود فوارق بين دولة وأخرى وبين مجتمع وآخر، وهي فوارق اقتصادية واجتماعية وسياسية كبيرة.. تؤثر على الأوليات والرؤية والخطاب لدى كل مثقف. وفي داخل كل مجتمع عربي نواجه مشكلة تغير الأجيال والتطورات التنموية أو تعثرها في دول أخرى.. ودرجة الوعي بها لتحديد ملامح وسمات كل مرحلة والدور المفترض للمثقف فيها. وعلى الرغم من الصعوبات المشتركة التي يواجهها المثقف العربي في دول كثيرة.. فإن المثقف السعودي لديه تحدياته ومشكلاته الخاصة التي أعاقت دوره، وأثرت على خطابه الفكري وأولياته. أبرز هذه الإشكاليات يكمن في اختلاف نوع التحدي في دول الخليج.. عن نماذج تطورية وحالات إرشادية كثيرة في العالم يصعب الاستفادة من تجربتها والقياس عليها مباشرة، لتحليل الأزمات الاجتماعية والفكرية والسياسية في الحاضر والمستقبل، مما يجعل المثقف السعودي أمام ضرورة إبداع خطابه ورؤيته الخاصة لوصف مظاهر الخلل في المجتمع.

ولا يمكن الحديث عن مشكلات المثقف السعودي من دون الوقوف عند مسألة الثروة النفطية.. وتأثيرها على كل أفراد المجتمع، ومنهم المثقف، حيث تأثرت أخلاقياته وجديته العلمية بذلك، وقد أشرت في كتابة أخرى حول هذا الجانب. يواجه مثقف اليوم إشكالية مزدوجة بين خطاب عربي هجائي لنا.. يقزم قيمة مثقفنا السعودي بحجة البترول، وهناك تحد آخر حقيقي يفرض علينا تقديم أعمال فكرية وعلمية يحترمها الآخرون.

ويعاني مثقف اليوم من تأثره بالموضات والموجات السائدة وزادت حدتها مع مرحلة الإنترنت بكل أطوارها، حيث تسيطر عليه الأحداث الطارئة، وتجذبه الصراعات الشكلية، فأصبح أحيانا جزءا من التسطيح الفكري.. وبدلا من أن يصنع رؤيته للواقع من خلال إمكانياته العلمية والفكرية التي يتميز بها عن هذه الأحداث.. فإنه تحول دون أن يشعر إلى جزء من التضليل بسبب الانخراط المبالغ في هذه الصراعات. وهذا لا يعني رفض المشاركة في الحوارات والجدل اليومي في الإعلام والمجتمع، وإنما استحضار دوره الطليعي في صناعة الأفكار والآراء وتحليل القضايا الفكرية والدينية والاجتماعية.



[blockquote] يعاني مثقف اليوم من تأثره بالموضات والموجات السائدة.. حيث تسيطر عليه الأحداث الطارئة وتجذبه الصراعات الشكلية[/blockquote]



وأخيرا بدأت تضغط على المثقف مسألة الجماهيرية والبحث عن الأضواء والعلاقات العامة، فتطورت لديه مهارات «الترزز» على حساب قيمته كمثقف.. لديه أولويات وأدوار أخرى، فنجده يبحث عنها متكلفا في الإنترنت ومواقع التواصل والفضائيات.. والمشاركة في قضايا مثيرة غير مناسبة لمجاله. وتوجد حالات ظهور وانتقال مطلوبة عندما يشارك الأكاديمي في الصحافة والإعلام، والصحافي في العمل التلفزيوني، أو عندما يظهر المثقف والروائي والناقد في كتابة الرأي والعمود الصحافي اليومي.. وغيرها، لكن مع نجاح بعض الحالات لوجود الموهبة والإمكانيات الشخصية لبعض الأسماء.. فالواقع أننا أصبحنا أمام ظاهرة تقليد مسرفة لأسماء غير مؤهلة لذلك، تسرعت من أجل البروز للأضواء.. وفقدت تركيزها بما تجيده من مهارات وإبداع خاص بها. وجزء كبير من هذه الإشكالية فرضته الحاجة المادية لمثقف اليوم والشعور بأهمية وجود دخل إضافي يواجه فيه تكاليف الحياة وهنا قد لا يلام، لكنه يجب أن يكون واعيا للخلل بالقدر الذي لا يضر بقيمته كمثقف.

وتزامن مع هذه الظاهرة قضية التحول بالاهتمامات بين مرحلة وأخرى، والتدخل بموضوعات ليس مؤهلا لها بقدر كاف من الاطلاع والمتابعة، حيث يكون تائها بين مجالات كثيرة، فمرة يبدو مشغولا بالتحليل السياسي، ومرة خبيرا في الحركات الإسلامية والإرهاب، ومرة حقوقيا، ومع الربيع العربي أيضا تضاعف حجم التوهان غير الواعي بين خطاب حماسي في اتجاه أو جمود في اتجاه آخر.

جميع هذه العوامل وغيرها أفقدت الكثير من المثقفين شخصيتهم التي تميز خطابهم الفكري والأدبي والاجتماعي، لهذا قد نجد أن الرؤى الفكرية لديهم ليست معقلنة بما فيه الكفاية، وفق مدارس فكرية وعلمية محددة الملامح.. وإنما خليط غير متجانس من الآراء والتلفيقات والمواقف التي تجعلهم يقولون الفكرة هنا ونقيضها في مكان آخر، ويتورطون بأفكار ليسو مؤهلين لها، والدخول في حوارات ذات حساسية دينية واجتماعية لا يملكون عمقا كافيا بها.

ومن أبرز مشكلات مثقف اليوم محدودية الاطلاع، ووعي يعتمد على عناوين وكتب مشهورة فقط، وتأثر بموضات فكرية من المجالس واللقاءات التي يحضرها. لا يوجد شغف حقيقي بالقرءات المركزة والمتابعة.. ووعي بالأفكار التي يتناولها وتدقيق فيها، ولهذا تأتي بعض المفاهيم انطباعية. هذا ما حدث مثلا مع قضية الإرهاب والعولمة وتطور تقنية الاتصال، والتضخم والأسهم، والربيع العربي والإصلاح. ويظن البعض أنه بمجرد هجاء الأدلجة باستمرار أنه أصبح عميقا وواعيا بمعناها، وكأنها خاصة بتوجه معين. وكأنها عيب بالمطلق، فقد توجد أعمال فكرية قوية وهي تخدم آيديولوجيات محددة، ومتعصبة لرؤى خاصة، فالموضوعية والتظاهر بالعقلانية ليست شهادة مفتوحة لجودة الخطاب وقيمته. وحتى الأعمال الروائية تحتاج هي الأخرى إلى قراءات عميقة وثقافة علمية في موضوع العمل لتشعر بقيمته ولهذا جاءت الفقاعة في هذا المجال. هذه المشكلات وغيرها أدت إلى ضعف في تراكم المشروعات الثقافية، لغياب المنهجية، وضعف الشعور بوجود هم حقيقي للتنوير الفكري.



[blockquote]تقييم منتج الرواد والمثقفين المخضرمين يجب أن يكون بعيدا عن الرومانسية التي تصاحب الحديث عن الماضي[/blockquote]



هناك الكثير من المشكلات التاريخية التي شكلت بعض ملامح الأزمة عند المثقف السعودي، منها إشكالية الرؤية للرواد ومنتجهم الفكري والإبداعي ومدى حضوره التراكمي للأجيال التالية. تقييم منتج الرواد والمثقفين المخضرمين من الأفضل أن يكون بعيدا عن الرومانسية التي تصاحب الحديث عن الماضي عادة فليس هذا من التقدير والاحترام لهم. في الواقع يوجد شيء من القطيعة بين أجيال المثقفين في بعض المراحل.. بسبب حدوث قفزات مفاجئة ومتغيرات اقتصادية واجتماعية وسياسية كبرى في المجتمع أثرت على الرؤية لتقييم خطاب كل مرحلة.

وعلى الرغم من وجود بعض مظاهر الضعف في منتج الرواد في جوانب كثيرة يمكن تحديدها.. فإن وعي مثقف اليوم بأسباب هذا الضعف تاريخيا، وطبيعة الحياة والإمكانيات المتوفرة لهم ما زال محدودا، ولهذا قد يكرر مثقف اليوم نفس الضعف والأخطاء بصورة مشابهة.. حتى وإن كان في منتجه قدر من الاستعراض المعرفي الجديد. وقد نشأ عن هذه المشكلة.. خلل آخر يبدو في عدم احترام المثقف الجديد للتراتبية في مجاله.. فهناك قدر من السخرية والتسفيه العشوائي من أجيال جديدة للمخضرمين. ومع حضور هذه الأخلاقيات الرديئة جعلتنا أمام ظاهرة سرقات فكرية، وعدم الإشارة لأصحابها حتى لا يحسب عليهم ، فالمثقف الجديد يريد أن يبدو كأنه ولد مكتملا بوعيه وعقلانيته ولم يتأثر بأحد.. إلا من يكون له مصلحة حالية في تمجيده حتى لو لم يطلع على أعماله!

يمارس بعض المثقفين الشكوى من الواقع والتباكي على الحريات من خلال هجاء مجتمعه، وكأن المجتمع يترصد به ويمنعه من تقديم أعمال ثقافية جادة! وهذا لا يعني إنكار وجود عوائق لأسباب متنوعة في بعض القضايا، لكن من المؤكد أن هذه العوائق أصبح كثير منها يمكن تجاوزه لتقديم مشروعات كثيرة تعبر عن هموم ومشكلات المجتمع. الرؤية ليست كلها متشائمة، فقد بدأنا نشهد تحسنا في أكثر من مسار في خطوات المثقف السعودي، وتزامن معها أيضا حضور لدور نشر سعودية جديدة يملك أصحابها وعيا ورؤية ثقافية أسهمت في إزاحة عوائق قديمة وفتحت مسارات جديدة لمثقف اليوم.
font change