المثقف السعودي منفعل بلحظته.. لا زال يبحث عن دور

المثقف السعودي منفعل بلحظته.. لا زال يبحث عن دور

[caption id="attachment_55247775" align="aligncenter" width="612"]ثمة تيه كبير لدى المثقف السعودي الذي يعاني أصلاً من دون أن تمر أي أحداثٍ لكنه عانى أكثر بمرور الأحداث الكبرى ثمة تيه كبير لدى المثقف السعودي الذي يعاني أصلاً من دون أن تمر أي أحداثٍ لكنه عانى أكثر بمرور الأحداث الكبرى[/caption]

في كتابه «محاضرات في الآيديولوجيا واليوتوبيا» يشخّص الفيلسوف الفرنسي «بول ريكور» - بشكل خاطف - معاناة المثقف في دول العالم النامي حيث يراه «يعاني العيش في أكثر من عصر في لحظةٍ واحدة» فهو في فكره وبحثه يغرق في تتبع أحدث ما أنتجه العقل البشري في هذا القرن، وفي جسده وظرفه المكاني يعيش في القرن الثامن - حسب ريكور - فهو في حالةٍ من اللانسجام بين المكان بمحتوياته الثقافية، والفكر المتطوّر الذي يتابعه ويخضعه لبحوثه ويستفيد منه في كشوفاته العلمية والبحثية. وهي معاناة تصبغ المثقف العربي دون غيره من المختصين كالأطباء والكيميائيين لأن الثقافة بطبيعتها تتسم بأنها «الموقف النقدي» على عكس التخصصات الأخرى التي تنشغل بالعلوم والأبحاث باعتبار نتائجها، ذلك أن المثقف ينخرط في تقييم الموقف الوجودي ورصد العلاقات الموروثة المؤثرة على سير حياة الفرد ونقدها ولفت الأنظار إليها.

يشرح محمد الماغوط مسيرة المثقف العربي حينما يقول: «إنني مثل السجين الذي ظلّ يحفر عشرين عاماً ثم اكتشف أن النفق الذي حفره يقوده إلى زنزانة أخرى». هذا جانب جزئي من المشكلة التي تعصف بالمناخ الذي يحيط بالكاتب والمثقف حينما يفحص واقعه، فهو في مسيرته يبدأ نضالياً يعارك ويناكف، ومن ثمّ يبدأ في رسم صورة «تراجعات» يكسب بعدها مواقع مخملية تمكّنه من العيش بثراء بقية حياته، هذا لدى البعض المناضل، أما المثقف المرتبط بالكشوفات العلمية، والمحتكّ بالفلسفة بوصفها «فهماً للواقع في مواجهة للذات داخل سياق التجربة» (هيدغر) فهو يمرّ بمراحل من الأسئلة والتطورات وكل حقبة تركل الأخرى حتى يصل إلى مستويات عالية من فهم العالم وإدراكه، وتحميض صورة متجددة عن النفق الذي يمرّ به العالم النامي.

مع الأحداث العربية الحالية وغليان الاضطرابات في كل مكان تعرض المثقف العربي لاختبارٍ يشبه الذي مرّ عليه إبّان الثورة الإيرانية في 1979 حين أيّد العديد من المثقفين العرب تلك الثورة بوصفها فاتحةً لنوافذ كبرى في التغيير بالعالم العربي. كذلك الحال أثناء حرب العراق على الكويت 1990 سرعان ما انضم إلى الحشد المؤيد لصدام حسين بعض كبار المفكرين العرب، وقل مثل ذلك عند أي حدثٍ يبرز. مع الأحداث العربية الأخيرة أخذت صيغ التأييد لأي حراك من دون التأمل بآماده ومآلاته فضائح كبرى لدى المثقفين الذين آمنوا بالشارع لكنهم لم يتأملوا إلى أين سيذهب بهم هذا الشارع؟! جاءت القوى الأصولية وحين انتخب مرسي عاد المثقف السعودي في مجمله وأيّد انتخابه، وحين أسقط وعزل أيد إسقاطه وعزله.

المثقف السعودي يعاني من الانفعال باللحظة من دون التفكير بها وبمآلاتها وبالطرق التي ستؤدّي إليها، العاطفة حركت الكثير من مواقفهم تجاه الأحداث وبعض الليبراليين الذين صموا آذاننا بالقنوات أنهم لا يستحون من التعبير عن ليبراليتهم قالوا إنهم عادوا إلى تياراتهم الشيوعية إذ أحيت بهم الثورات نوازعهم القديمة، ثمة تيه كبير لدى المثقف السعودي الذي يعاني أصلاً من دون أن تمر أي أحداثٍ لكنه عانى أكثر بمرور الأحداث الكبرى. هذا المثقف الذي كتب في زاويته مهاجماً نقّاد الربيع العربي في 2011 هو الذي ينصح الآن وينادي بالتعقل والتروي. هناك حالة استغباء للقراء وللناس من قبل البعض ويظنون أن الناس قد نسيت.

[blockquote] تحويل الثقافة إلى أسلوب فني هو الذي يحمي الكاتب من «اليأس»، فيتعامل مع الثقافة بوسائل فنية تستهدف ذاته أولاً ويمارس عبرها معرفة الجديد في العالم.[/blockquote]

مشكلة المثقف السعودي جزء من مشكلة المثقف العربي عموماً، فهو من دون دور، ولكنه يبحث عن أي دور مهما كان ساذجاً وهذا ما يذكرني بنقد أساسي طرحه علي حرب في التسعينات بكتابه: «أزمة المثقف» ولحسن الحظ أننا وجدنا للتوصيفات التي كتبت عن أزمة المثقف الفرنسي مدخلاً لتحديد مشكلات المثقف العربي. مشكلة المثقف السعودي أيضاً في نقص التواضع والحضور الكثيف والادعاء، ولو قرأنا سير كبار المفكرين الذين غيروا مسارات نظم المعرفة لوجدنا عباراتهم تقطر تواضعاً، جيل دلوز لا يعتبر نفسه مثقفاً ذلك أنه يفتقر إلى معلومات أساسية بحسب وصفه، وفوكو قبل موته قال: «لم أكتب قطّ شيئاً إلا أوهاماً» ونيتشه قال: «أنا مجرد كاتب». ثمة انتفاخ ضخم وكبير ترعاه مؤسسات الثقافة لتربية الادعاء وتغذية الانتفاخ وحراسة التورّم، لكن ما فائدة المثقف؟! ما قيمته؟! لا شيء، وأذكر هنا مقولة رولان بارت: «المثقفون لا يصلحون لشيء».

لكن ماذا عن التفكير والتثاقف بشكل فني؟! أليس هو الأولى والأجدى من صرعات النضال وحمى الصراع والاصطفاف؟!
كتب فوكو: «إننا في زمن يجب أن تعاد فيه صياغة وظيفة المثقف المختص لا أن تهجر، رغم حنين البعض إلى كبار المثقفين الكليين». فوكو بالذات يحاول عبر بحوثه نقل المهمة التي يقوم بها المتفلسف من كونها مهمة تلقينية إلى مهمة تتعلق بالتكوين الذاتي، فكم رأينا من يدعي الفلسفة والتفلسف لم يمارس بعد تكوينه الذاتي على المستوى الأخلاقي والجمالي والفني، خاصة حينما تمارس الفلسفة في بيئات متواضعة تستخدم التفلسف على سبيل الثرثرة اللغوية، إن الفلسفة في نظر فوكو مهمة مترابطة تصنع في كل لحظة سلسلة أحداثها، هذا مع اعتقاده بالدور المحوري للفلسفة فهو كتب منذ عام 1971 عن وهم الحياد المعرفي، وكتب عن الدور الذي تلعبه المعرفة في «التكسير والحسم»، والتكسير لا يبدأ من تغيير الآخرين بقدر ما يبدأ من تغيير الذات وبالأخص ذات المثقف أو المتفلسف أو الكاتب نفسه وتحويلها عما هي عليه.


نحتاج كذلك إلى الكثير من التحوّل؛ إلى رحلة شاقة من أجل صناعة مساحة من «الفن» داخل الثقافة لنحمي أفكارنا من التيبّس ونحمي ذواتنا من التآكل، فالواقع المظلم قد يدفع الإنسان نحو اليأس؛ إن الفعل الفلسفي لا يمنح الكاتب أو المثقف حصانة من «الوهم».
تلك الرؤية – تحويل الثقافة إلى أسلوب فني - هي التي تحمي الكاتب من «اليأس» أن يتعامل مع الثقافة بوسائل فنية تستهدف ذاته أولاً ويمارس عبرها معرفة الجديد في العالم سواء في مجال الفلسفة أو السينما أو الأزياء والطب وذلك التغيير والتحويل الذاتي هو الذي يصنع من الثقافة جنة بعيداً عن الصراعات والنزاعات والحروب الطاحنة التي يمارسها السفهاء من الكبار والمسنين حول قضايا تافهة.

إن النجاح في تحويل الإنسان لذاته من أسلوب إلى أسلوب هو الصورة الجمالية اللذيذة للتفكير. فالتغيير هو شكل التفكير. من هنا يدخل الجانب الفني في المسألة الفكرية والتي ربما يكون في إدخالها بعض الغرابة للوهلة الأولى ولكن سرعان ما نجد الفكر - وفق فوكو - يتجلى في صيغةٍ من صيغه كأثر فني، وتلك المرحلة يطلق عليها مرحلة «المفكر، الفنان» فالفن كما يقول مارتن هيدغر: «له قوة إثراء للحياة أكثر مما للحقيقة بما هي تثبيت لمظهر ما».
font change