في ساحتنا السعودية لا توجد لدينا ثقافة وإنما «مثاقفة»

في ساحتنا السعودية لا توجد لدينا ثقافة وإنما «مثاقفة»

[caption id="attachment_55247876" align="aligncenter" width="620"]جوانب من العروض التقليدية في مهرجان الجنادرية بالرياض جوانب من العروض التقليدية في مهرجان الجنادرية بالرياض[/caption]

أتذكر أن إخواننا المثقفين المصريين عندما واجهوا المصطلح الأجنبي «Pen Society»، ترجموا المصطلح بجماعة «حملة القلم». هذا حدث ربما في خمسينات القرن الميلادي الفارط. والواقع أن الترجمة الصحيحة هي: جمعية أو عصبة المثقفين. وهم لم يرغبوا في استعمال مصطلح مثقف، لأنه لا يعني لهم آنذاك شيئا ملموسا، فعندهم عصبة الأدباء. خصوصا أن الأدب هو الثقافة كلها. هذا ربما يصح في الماضي، أما الآن فالثقافة أوسع من الأدب، وهي تشمل علوما وفنونا تتعدى الأدب بمرات كثيرة. بل هي مجموعة فنون خطيرة إن لم يحسن تناولها.

كتبت عن الثقافة عدة مقالات، نشرتها في جريدة «الرياض»، ولا تحضرني عناوينها، ولكنني أتذكر منها: «ثقافة الصورة»، وهي مقالة عن الأنساق الثقافية. والثقافة المحلية والوطنية، وهي عن غياب الوطنية في خطابنا الثقافي. ومقالة عنوانها: «التربية والبيئة» وهي عن العلاقة الجدلية بينهما، وأثر ذلك على الثقافة. وأخيرا مقالة سببت لي مشكلات مع بعض الزملاء عنوانها: «ثقافة لا مثاقفة»، وهي تشخص الواقع الثقافي عندنا، كونه مثاقفة فقط.
واليوم، أجد الفرصة سانحة من خلال مجلة «المجلة» لأن أؤكد الصلة العضوية بين الثقافة والأكاديمية، وهي صلة ما انفكت غير مفهومة عند شريحة واسعة من المثقفين وغير المثقفين. والسبب أن بعض الناس يربط بين الإبداع والأكاديمية، وهذا ربط لا أساس له من الصحة. بل العكس هو الصحيح. لكن الابتعاد عن الأكاديمية مضر بالثقافة. وكنت كتبت مقالا عنوانه «الابتعاد عن الأكاديمية أم الأدب»، باعتبار أن الأدب أحد عناوين الثقافة، بينّت فيه أن الأكاديمية تتضرر كثيرا عندما تفرغ من نفسها، وبعدها الثقافي باسم العلمية والدقة والمنهجية.

يجب أن نعترف أن عموم المثقفين من غير الأكاديميين لا ينظرون بعين الرضا للأكاديميين الذين ينتشرون في ساحات الثقافة. وهم لديهم العذر، لكن ما كان يجب أن تدوم هذه المسألة، لأن بعضهما مكمل للآخر، ولا يستغني أحدهما عن الآخر، على أن في المسألة أمرا يجب بسطه، وهو ضرورة أن يتنازل الأكاديمي عن منهجه التدريسي عندما يلتقي بزميله غير الأكاديمي. فالكل سواء. والثقافة مشاعة، بل يجب أن تكون مشاعة لكل القاصدين.

وكثيرا يخطر ببالي قضية الثقافة وصناعتها في السعودية، وكثيرا يقفز إلى ذهني سؤال ملح، وهو: هل لدينا في المملكة خطة ثقافية تتسق أو تتقاطع مع الثقافة العربية والأجنبية. ثم تنساب الأسئلة الفرعية كتفرع الجداول الصغيرة من مجرى النهر؛ هل إنتاجنا الثقافي مختلف عن الثقافة العربية السائدة في العالم العربي.. هل هي متسقة معها. ثم أنتهي بسؤال صادم: هل ما نشهده في المملكة من صناعة وحراك ثقافيين ثقافة أم مثاقفة؟!



[blockquote]نحن أحوج ما نكون لتقليل قائمة المسلمات الثقافية بالمعنى الواسع للثقافة ومساءلتها لتنقيتها من زوائد لم تعد تناسب العصر وثقافته[/blockquote]



في السنوات الماضية القريبة شهدت ندوة عن الثقافة في الخليج العربي، واذكر أنني قلت في مداخلة إن الثقافة السائدة في دول الخليج هي ثقافة الأنهار العربية أو ثقافة مترجمة إلى العربية. الثقافة المحلية في دول الخليج متواضعة، ويغلب عليها الأمية. وأمر آخر لفت انتباهي في تلك الندوة، وهو أن ثقافة المملكة العربية السعودية اختصرت للأسف في ثقافة البحر. وأي بحر؟ بحر الخليج العربي. وكأن المملكة بسعتها وثراها وتنوع ثقافتها وبحارها الواسعة غير موجودة لأجل خاطر السياسة. من هذا التصور الضيق طفق إخواننا في الخليج يتحدثون عن تماس بين ثقافة الصحراء وثقافة البحر. على أنني اعترف بأن ما قالوه صحيح، لو كانت المملكة بحجم إحدى شقيقاتها الخليجيات.
وأذكر أن أحد المحاضرين في الندوة قال إن لديه تهويمات (هكذا) تلخص فلسفة ثقافة الخليج. وتتلخص تهويماته في ثلاثة أضلع، هي: الصحراء والبحر والنفط. وشكرت الله أنها تهويمات. لأن ما سمعته يشبه إلى حد كبير ما نسمعه من مثقفي الغرب عندما يتحدثون عن ثقافتنا. لا شك عندي أن بلدان الخليج الصغيرة تنازعتها ثقافة البحر والغوص، ومن ثمّ النفط، لكن لا ننسى أن أهل الخليج يتصفون بثقافة البحر، لأنهم يولون وجوههم شطره، ويجعلون الصحراء خلفهم. وهم يتصفون بثقافة الموانئ وعقلية التجار، لذا تجدهم أكثر انفتاحا وقبولا للآخر من إخوانهم سكان الصحراء. لكن بعد تحسن الأحوال المعيشية للجميع وسيادة نمط الاستهلاك انتقلت الصحراء إلى البحر، وليس العكس. فالعصبية القبلية برزت كثيرا في أدبيات أهل الخليج، وتلاشت العصبية الاقتصادية.

وبالتالي، لم تعد ثقافة البحر تميز أهل الخليج كما كانت في الماضي. وخلاصة الكلام أن هناك صفتين بارزتين في ثقافة أهل الخليج؛ الأولى ثقافة النفط السلبية، والأخرى القبيلة المتصالحة مع القوى المحافظة التي تطلق على نفسها مسميات دينية.
وأميل إلى أن ثقافتنا في المملكة تتصف بضعف واضح فيما أسميه «ثقافة السؤال». نحن أحوج ما نكون لتقليل قائمة المسلمات الثقافية بالمعنى الواسع للثقافة، ومساءلتها لتنقيتها من زوائد لم تعد تناسب العصر وثقافته. نحن في حاجة لمغامرة فكرية وثقافية، ذلك أن السكون لا يصنع ثقافة متميزة نحلم أن نراها في بلادنا، نحن في حاجة لإبراز القيم الثقافية المتعددة المعروفة في الثقافات العالمية. الثراء المادي الذي عليه المملكة لا يتناسب مع المستوى الثقافي السائد. راجعت المطبوعات الثقافية الصادرة في العقدين الماضيين فوجدت نصيب المؤلف السعودي متواضعا جدا مقارنة بزميله العربي. لعل سبب ذلك عدم وجود مؤلفين ترتقي أعمالهم لشروط النشر.
في ساحتنا الثقافية السعودية مواجع، وفيها منغصات، وفي الطريق عقبات كثيرة. وأمل أن لا تزيد تلك الأشياء بسبب بيروقراطية ثقافية. فما أُنيطت الثقافة إلى وزارة حكومية إلا ضعفت وتلاشت.

مواجع الثقافة لدينا كثيرة، منها أن بعض المسؤولين ينظر إليها على أنها وظيفة حكومية، ينطبق عليها ما ينطبق على وظائف الدولة. ومنها أن الثقافة لدينا غير محددة المعالم. فالبعض يقصرها على فن أو فنين. ومنها أن الثقافة مرتبطة الأثر والتأثير بالسياسة، وهنا لب القصيد. فتشابك خطوط الأمرين يجعل المثقف يمشي على خط ساخن، تزيده عادة وزارة الثقافة الإعلام سخونة، ذلك أنها ترى من واجباتها مراقبة الثقافة. وعندما تراقب الثقافة تمرض أو تموت، والإبداع وقود الثقافة لا يطيق المراقبة.
ومن منغصات الثقافة لدينا أنها لم تشمل كل الفنون والعلوم ذات الصلة بها، فهي إذن مقطعة الأوصال. لا يكتمل شأنها، ولا يستوي عودها. ومن المنغصات توزع شؤون الثقافة على إدارات بيروقراطية مختلفة ومتعددة. وأنا هنا لا أدعو للمركزية. ولكن التشتيت الوظيفي لقضايا الثقافة يضعفها، ولا يقويها. ومن المنغصات ضبابية الرؤية الإعلامية لدور الثقافة ومكانتها، فحتى يوم الناس هذا لا نجد كفاية وتغطية إعلامية لمناشطنا الثقافية، ناهيك عن الثقافة العربية الواسعة.
وتواجه الثقافة لدينا عقبات في الطريق، منها الضعف الواضح في مدخلاتها ومخرجاتها، ومنها غياب أنظمة بيروقراطية سهلة تعالج مشكلات المثقف الفنية والعلمية والمعرفية. ومنها بقاء أعمال المراقبة والفسح وما شابه ذلك، وهي أعمال أضرت بالثقافة وما زالت تضر، والزمن قد تعدى هذه الأعمال، ولكنها ما زالت عقبة كأداء في طريق الثقافة والعلم.

وكون الثقافة الآن مع الإعلام، عندئذ يسهل أن ينقل الإعلام ثقافة البلد، وينشرها في الأصقاع. على أن الأمر ليس بهذه السهولة، ذلك أن الانتشار العالمي لا يجيء بقرار من الوزير، بل بقرار إبداعي من الأديب والمفكر والفنان. فالانتشار والقبول المحلي هو الطريق الوحيد للعالمية. كيف السبيل إلى الجمع بين الضدين؛ ثقافة حرة متقدة وديناميكية وفعالة، وواقع إداري حكومي مثقل بالتبعات والمهام؟ هذا والله من الصعاب. ولكن يمكن إيجاد سبل لا سبيل واحدة، طالما العزم موجود، والإرادة متوفرة، والدعم متاح.



[blockquote] إنتاجنا الثقافي في العقود الخمسة الماضية أغلبه يتصف بالتكرار والتدوير والمحافظة.. أما المواضيع فلا تتعدى الجوانب الأدبية والاجتماعية[/blockquote]



تفعيل المؤسسات الثقافية، ورعاية الثقافة، وجعلها تقوم بدورها الريادي في صياغة فكر الأمة، والمشاركة في معالجة القضايا التي تمر بها الأمة في الوقت الراهن. كل هذا يتطلب مقدمات منطقية تتمثل في إعطاء مزيد من حرية التعبير. فلا يوجد علاج فعّال لكثير من أمراضنا الثقافية، مثل إتاحة الفرصة أمام الأدباء والمثقفين وأهل الرأي والفكر من مختلف أطياف المجتمع للتعبير بصدق وروية عن رؤاهم في مختلف قضايا المجتمع.

ومن المقدمات المنطقية إقحام الثقافة في الشأن السياسي. ذلك أن الثقافة تُعد اليوم من القوة الناعمة للدول. لا بد من قرار سريع وحاسم في دمج إدارات الثقافة والفكر دمجا إداريا لا دمجا فكريا فقط. ولا بد من التفكير في ضرورة إنشاء مؤسسات جديدة وعصرية تساعد الوزارة في لملمة الشأن الثقافي والفكري، وصهره في بوتقة ووعاء فكري يمكن معه التحاور. ويمكن للمنتسبين لهذا الوعاء من الشعور بالمسؤولية الوطنية، والشعور بالأمن والدعة، والتفرغ للمهنة.
وعودة إلى السؤالين اللذين صدرنا بهما هذا الحديث. أقول إن مشاريع الثقافة السعودية ما زالت متواضعة، خصوصا في جانبها الفكري. والمطلع على إنتاجنا الثقافي في العقود الخمسة الماضية يجد أن أغلبه يتصف بالتكرار والتدوير والمحافظة. أما المواضيع فلا تتعدى الجوانب الأدبية والاجتماعية الموغلة في ثقافة كلاسيكية أو قبلية. ومدار ذلك أننا لم ننتج ثقافة سعودية تخترق الحدود العربية، ناهيك عن الحدود العالمية.

أما بخصوص الأعمال السعودية الأكاديمية وصلتها بالثقافة فالأمر موجع، وهنا فقط أشير إلى أن لدينا إنجازات علمية أكاديمية تستحق أن تنتشر عالميا، لكن المشكلة أنا لم نقم بتحويلها إلى شأن ثقافي، يعرفه المجتمع المحلي ثم يجد طريقه للعالمية. الواقع المؤسف أننا لم نفعل مثلما فعل أشقاؤنا في مصر عندما طوعوا إنتاجهم العلمي الأكاديمي البحت إلى خبز يومي يلتقطه المجتمع.
وانظر إذا شئت كيف استطاعت المجلات الثقافية، مثل مجلة «الرسالة»، نقل قاعات العلم في الجامعات المصرية إلى الشارع المصري والعربي، وجعلت من العلم شأنا ثقافيا يتصارع حوله القوم.
لدينا فجوة بين الأكاديميين والمثقفين من غير الأكاديميين. ومن غير تعاون الفريقين سيظل الأكاديميون الجادون في بروجهم العلمية وصوامعهم الأكاديمية، وسيظل إنتاجهم العلمي مقصورا على دائرة ضيقة داخل الحرم الجامعي.
font change