احتدام الحرب العالمية لصناعة الرقائق الإلكترونية

زعزع الذكاء الاصطناعي التوليدي ركائز اقتصادية كانت تقوم عليها سياسات دول وشركات

سارة جيروني كارنيفيل
سارة جيروني كارنيفيل

احتدام الحرب العالمية لصناعة الرقائق الإلكترونية

يدرك العالم أننا أمام منعطف تاريخي جديد أسس له الذكاء الاصطناعي التوليدي، فالأمور بعده لن تكون كما من قبل، ونحن حاليا في مرحلة انتقالية للتمكن من استيعاب التغيرات الدراماتيكية المتلاحقة التي فرضت نفسها منذ 18 شهرا.

لم يكن “تشات جي. بي. تي” أول منتج لتقنية الذكاء الاصطناعي، وبالطبع ليس أهمها، لكن الجانب الثوري الذي قدمه في ميدان البحث وتوليد المحتوى على مختلف الصعد، متفوقا على ريادة محرك البحث، “غوغل”، الذي شكل ملاذا للإجابة عن كل تساؤلاتنا منذ ربع قرن، فتح الأبواب على مصاريعها أمام تحولات عظمى في الأولويات والرؤى الاستراتيجية التي لا يمكن أن تستند إلى معطيات جامدة بعد الآن.

زعزع الذكاء الاصطناعي التوليدي ركائز اقتصادية كانت تقوم عليها سياسات دول وشركات، وتشكل مركز قوتها وسيطرتها، لترزح تحت خطر التخلف عن الركب، إن لم تنجح في مواكبة هذه التحولات. بدأنا نشهد فورة مضاعفة لصناعة الرقائق الإلكترونية الميكروية أو أشباه الموصلات، المشغلة للذكاء الاصطناعي، لا سيما التوليدي، الذي يعتمد تطوره على تطور الرقائق نفسها وقدرتها الفائقة على حفظ البيانات ومعالجتها، وتحليلها ونقلها ومضاعفتها. فكم منا كان يعلم أن الأجهزة التي نستخدمها للعمل والتنقل والتواصل والترفيه، من السيارات والهواتف الذكية والأقمار الاصطناعية، إلى أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي والروبوتات الصناعية، فإلى مراكز البيانات والمسيرات والطائرات المقاتلة، كلها ترتكز على الرقائق الإلكترونية. بمعنى آخر، تعتبر هذه الرقائق كالوقود أو كالأوكسجين، الذين لا يمكن لأي عمل أن يتم إلا بتوفرهما.

كان الصراع محتدما أصلا بين الولايات المتحدة الأميركية والصين في شأن تايوان، تحديدا في ما يتعلق بإصرار الصين على بسط نفوذها على تايوان وتثبيت تبعيتها لها. السبب، “الشركة التايوانية المحدودة لتصنيع أشباه الموصلات” (TSMC)، الأضخم عالميا في صناعة الرقائق الالكترونية، والمنتجة لنحو 90 في المئة من الرقائق الأكثر تطورا في العالم، المستخدمة في الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية. فلا الصين ستتخلى عن مصدر النفوذ المستقبلي الأقوى لصالح الولايات المتحدة، ولا الأخيرة ستسمح للصين بإحكام قبضتها على المصنع الرئيس للرقائق لا سيما للشركات الأميركية الكبرى، المستخدمة هذه الرقائق في منتجاتها، مثل “أبل” و”كوالكوم“، أو المصممة لها، مثل “إنفيديا” و”إيه. أم. دي“. تؤثر هذه الشركات إيكال مهمة إنتاج الرقائق إلى الشركة التايوانية بدلا من صنعها بنفسها، مكتفية بتصميمها.

بزغ فجر "تشات. جي. بي. تي" منذ أواخر 2022، وبرز نجم الشاب الطموح سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة "أوبن إيه. آي" ونجم الذكاء الاصطناعي التوليدي عالميا بلا منازع، وفق المعنيين الإيجابي والسلبي، الذي أعلن منذ فترة نيته جمع تمويل يصل إلى سبعة تريليونات دولار من مستثمرين متمولين

فني ظل هذا الصراع، بزغ فجر "تشات. جي. بي. تي" منذ أواخر عام 2022، وبرز نجم الشاب الطموح سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة "أوبن إيه. آي" ونجم الذكاء الاصطناعي التوليدي عالميا بلا منازع، وفق المعنيين الإيجابي والسلبي، الذي أعلن منذ فترة نيته جمع تمويل يصل إلى سبعة تريليونات دولار من مستثمرين متمولين، بينهم دولة الإمارات، وهيئة الاستثمار السنغافورية المدعومة من الحكومة، "تيماسك"، وغيرهما، لبناء مصانع للرقائق ومراكز بيانات، في اندفاعة لضمان سيطرته على هذه التكنولوجيا، تقنيا ولوجستيا.

يعكس ألتمان رغبة الولايات المتحدة في الإمساك بزمام الأمور في ما يتعلق بهذه الصناعة مرة أخرى، حيث كانت حصتها منها تقدر بنحو 40 في المئة في تسعينات القرن الماضي قبل أن تنخفض إلى 12 في المئة فقط حاليا. على الرغم من ذلك، تنشط الولايات المتحدة في تشجيع حلفائها وشركائها على تعزيز قدراتهم في هذه الصناعة، وتبدي حرصا على التنسيق في ما بينها وبين الشركات في ما يخص تقديم الحوافز والإعانات بدلا من التسابق والمنافسة، تفاديا لشرذمة الثقل العالمي المطلوب في مواجهة الاحتكار والانغلاق، عملا باقتناعها بأن أشباه الموصلات ستحدد الاقتصاد والجغرافيا السياسية في العقود المقبلة كما حددتها الاحتياطيات النفطية في العقود المنصرمة.

سارة جيروني كارنيفيل

اقتصاد الرقائق وعمالقته

شهد عام 2023 حجم مبيعات للرقائق الإلكترونية قدّر بأكثر من نصف تريليون دولار (نحو 520 مليار دولار)، بتراجع نسبته 9,4 في المئة عن عام 2022، بحسب تقرير لـ"ديلويت". ويتوقع أن يعاود انتعاشه في السنة الجارية ليصل إلى نحو 588 مليار دولار بارتفاع 13 في المئة عن العام المنصرم. ووفقا للتقرير نفسه، يشكل سوق الأوراق المالية في معظم الأحيان مؤشرا رئيسا لأداء هذه الصناعة، إذ بلغت القيمة السوقية المجمعة لأكبر 10 شركات عالمية للرقائق اعتبارا من منتصف ديسمبر/كانون الأول 2023، 3,4 تريليونات دولار، بزيادة 74 في المئة، وكانت 1,9 تريليون دولار في نوفمبر/تشرين الثاني 2022.

يؤكد التقرير تأثير التقدم الكبير الذي شهده الذكاء الاصطناعي على صناعة الرقائق ككل، ويتوقع أن تصل المبيعات المرتبطة بهذا المجال إلى أكثر من 50 مليار دولار في عام 2024، في ما يعد بمثابة قوة داعمة للقطاع تمثل وحدها نحو 8,5 في المئة من المبيعات، وتوفر مجالا للنمو لصناعة تقاوم الرياح المعاكسة الناجمة عن ضعف أسعار الذاكرة، وضعف الطلب على الهواتف الذكية وشرائح الكومبيوتر. وتقترح بعض التوقعات، منها صادر من ليزا سو، الرئيسة التنفيذية لشركة "إي. أم. دي"، إحدى أبرز الشركات المصممة للرقائق المنافسة لـ"إنفيديا"، أن مبيعات الرقائق المستخدمة لتشغيل الذكاء الاصطناعي قد تصل إلى 400 مليار دولار في حلول عام 2027.

شهدت "إنتل" فورة توسع جديدة بدءا من ولاية أوهايو الأميركية بقيمة 20 مليار دولار، وفي أوروبا، حيث بدأت الإنتاج في مصنع جديد في إيرلندا في العام المنصرم، وأعلنت إقامة مصنع آخر في بولندا، إلى جانب استثمار بقيمة 33 مليار دولار في ألمانيا

ينتج أكثر من 75 في المئة من أشباه الموصلات في العالم في آسيا (Front-end)، وترتفع هذه النسبة من حصة السوق في المنطقة نفسها إلى 90 في المئة في ما يخص تجميع الرقائق واختبارها، أو ما يسمى بالواجهة الخلفية (Back-end)، تتمركز معظمها في الصين وتايوان. على نطاق اقتصادي أشمل، قد تساهم أشباه الموصلات بنسبة صغيرة فقط من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، إلا أنها عنصر رئيس في منتجات وصناعات ذات قيمة اقتصادية مضاعفة تدر تريليونات الدولارات.

على سبيل المثل، واستنادا إلى المعلومات الصناعية في الولايات المتحدة، تشير التقديرات إلى أن نحو 25 في المئة من الصناعات التحويلية البالغ عددها 226 صناعة، تستخدم أشباه الموصلات فيها كأحد المدخلات المباشرة الأساسية. وتمثل هذه الصناعات 39 في المئة من الناتج الإجمالي الصناعي، ومن المتوقع أن ترتفع هذه النسبة على نحو متسارع مع تعاظم أهمية الرقائق في هذه الصناعات. بالتالي، أي نقص في إنتاج هذه الرقائق، قد يكون له أثر على الاقتصاد الكلي، كتباطؤ النمو، مع ما يرافق ذلك من تداعيات اقتصادية حادة.

طفرة "إنفيديا" تجاوزت "إنتل"

تُعَدّ شركة "إنتل" الأميركية أبرز الجهات المطوّرة للرقائق الميكروية، لا سيما لصالح قطاعي الكومبيوترات الشخصية وخوادم (Servers) الشركات، إلى جانب الحلول الخاصة بإنترنت الأشياء، والبيع بالتجزئة، والصناعة، والرعاية الصحية، ومنتجات الذاكرة والتخزين، وتكنولوجيا القيادة الذاتية، والرقائق القابلة للبرمجة. وقد شهدت "إنتل" فورة توسع جديدة بدءا من ولاية أوهايو الأميركية بقيمة 20 مليار دولار، وفي أوروبا، حيث بدأت الإنتاج في مصنع جديد في إيرلندا في العام المنصرم، وأعلنت إقامة مصنع آخر في بولندا، إلى جانب استثمار بقيمة 33 مليار دولار في ألمانيا.

ديانا استيفانيا روبيو

إلا أن الطفرة التي شهدتها "إنفيديا" منذ الربع الأخير من 2023، والمستمرة حتى اليوم، متخطية بقيمتها السوقية التي ارتفعت على نحو قياسي إلى 2,2 تريليون دولار، شركات مثل "ألفابيت" و"أمازون"، تعود تحديدا إلى زيادة الطلب على الرقائق المختصة بالذكاء الاصطناعي التوليدي و"خدمات السحابة".

نما إنفاق الشركات على خدمات البنية التحتية السحابية بنسبة 18 في المئة على أساس سنوي. كما أن الحصة السوقية العالمية لمقدمي الخدمات السحابية الثلاثة الكبار، "أمازون" و"مايكروسوفت" و"غوغل"، تقدر بـ66 في المئة، وكلها شركات أميركية

تعكس نتائج "إنفيديا" التي حققت إيرادات بلغت 22 مليار دولار في الربع الأخير من 2023، بزيادة 265 في المئة عن العام السابق، والتي توفر منتجاتها لشركات مثل "غوغل" و"ميتا"و"مايكروسوفت" و"تسلا" و"بايدو" و"أمازون" و"أوراكل" و"تنسنت" و"علي بابا" و"بايت دانس"، أهمية الرقائق كمكون أساس وحيوي للذكاء الاصطناعي. وهي أطلقت أخيرا شريحة ثورية جديدة، "بلاكويل بي. 200" (Balckwell B200)، تفوق بأدائها شريحة "أتش. 100 هوبر" (H100 Hopper) للشركة نفسها، حيث تتمتع بضعف قوتها في ما يتعلق بتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي مثل "تشات جي. بي. تي" وتعزز سرعة استجابة الأخير خمسة أضعاف، ويمكنها القيام ببعض مهام الحوسبة بثلاثين ضعف سرعة الشريحة الحالية، التي ساهمت سابقا في أن تسيطر "إنفيديا" على 80 في المئة من سوق الرقائق.

يترافق التصميم الجديد مع زيادة في كفاءة استهلاك الطاقة 25 مرة عما هي عليه حاليا. هذا عدا قدرات فائقة جدا في التفاعل البشري لناحية دقة التعرف إلى الصوت والحالة النفسية المرتبطة به والتعامل مع الحاجات الإنسانية وفقا لهذه المعطيات.

سارة جيروني كارنيفيل

تعزز الشريحة الجديدة هيمنة "إنفيديا" على سوق أشباه الموصلات، خصوصا أن ما احتفت "إنتل" بإطلاقه من رقاقة جديدة للذكاء الاصطناعي، "غودي 3" (Gaudi 3)، التي بدورها تعد أكثر كفاءة من "أتش. 100 هوبر"، لا ترقى إلى شريحة "إنفيديا" الحديثة التي رسخت مكانة الشركة في المرحلة المقبلة.

تواجه "إنفيديا" نوعا آخر من المنافسة مع تطور الصناعة ونموها، إذ يخطط عملاء الشركة الكبار، وفي المقدمة "أمازون" و"مايكروسوفت" و"غوغل" وغيرها، للدخول إلى عالم الرقائق المشغلة لبرامجها القائمة على الذكاء الاصطناعي، لا سيما خدمات الحوسبة السحابية، التي تتجه صعودا. فوفقا لمجموعة "سينرجي ريسرش غروب"، نما إنفاق الشركات على خدمات البنية التحتية السحابية بنسبة 18 في المئة على أساس سنوي، على الرغم من المناخ الاقتصادي والسياسي المضطرب، وذلك دليل واضح على أن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي وخدماته تدفع الطلب إلى الارتفاع. كما أن الحصة السوقية العالمية لمقدمي الخدمات السحابية الثلاثة الكبار، "أمازون" و"مايكروسوفت" و"غوغل"، تقدر بـ66 في المئة، وكلها شركات أميركية.

وعود "ميكروية" مليارية

كذلك، تبني شركة "سامسونغ"، الكورية الجنوبية، مصنعا جديدا للرقائق الإلكترونية بقيمة 17 مليار دولار في تكساس، وتنفق أضعاف هذا المبلغ لتوسعة تصنيع أشباه الموصلات في موطنها كوريا الجنوبية. وكانت شركة "ميكرون تكنولوجي"، ومقرها أيداهو، قد أعلنت إقامة منشأة جديدة للرقائق الإلكترونية في الهند بتكلفة ثلاثة مليارات دولار، كما وسعت قدراتها التصنيعية الحالية في اليابان بدعم مالي من الحكومة اليابانية.

وفي المملكة المتحدة، ارتفع سهم شركة "آرم" (Arm Holdings)، وهي إحدى شركات تصنيع الرقائق أيضا، نحو 60 في المئة، وتضاعفت قيمتها السوقية إلى 125 مليار دولار منذ إدراجها على بورصة "ناسداك" في سبتمبر/أيلول الماضي، مدفوعة بارتفاع الطلب على الذكاء الاصطناعي. وانسحب أداء "آرم" على "سوفت بنك" الياباني، الداعم للشركة والمالك 90 في المئة من أسهمها، الذي انتقل، بين عام وضحاه، من نهر الخسائر بـ5,2 مليارات دولار، إلى ضفة الانتعاش، بتسجيله أرباحا بلغت 6,4 مليارات دولار في الربع الثالث من العام المالي للشركة المنتهي نهاية 2023. وفي جعبة المصرف ملفات مشاريع للاستثمار في الذكاء الاصطناعي تقدر بـ100 مليار دولار منها لتصنيع أشباه الموصلات.

لا تزال هناك مخاوف في شأن الإمدادات العالمية للرقائق الميكروية، إذ لا تزال الصناعة تعتمد على سلاسل إمداد معقدة وهشة، تضم ما لا يزيد على 16 ألف مورد في دول مختلفة، مما حفز جهات عدة مثل الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لإصدار أو إحياء قوانين تنظم صناعة الرقائق بهدف تعزيز إنتاجها محليا

مع ذلك، لا تزال هناك مخاوف في شأن الإمدادات العالمية للرقائق الميكروية، إذ لا تزال الصناعة تعتمد على سلاسل إمداد معقدة وهشة، تضم ما لا يزيد على 16 ألف مورد في دول مختلفة، مما حفز جهات عدة مثل الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لإصدار أو إحياء قوانين تنظم صناعة الرقائق بهدف تعزيز إنتاجها محليا.

ثمة تحديات أخرى مثل استئثار "تي. أس. أم. سي" التايوانية بـ 90 في المئة من تصنيع الرقائق المستخدمة لتدريب الذكاء الاصطناعي في العالم، وتكلفة الاستحواذ على الشرائح الفائقة التطور، كتلك التي تصممها "إنفيديا" والتي تصل إلى عشرات آلاف الدولارات، وندرة المعادن المستخدمة في صناعة الرقائق، والإعتماد على شركة وحيدة في هولندا، "أيه. إس. إم. أل"، للحصول على آلات الليثوغرافيا المسؤولة عن طباعة رقائق أصغر حجما، تمثل أخطارا جدية قد تعيق صناعة الرقائق. ويتوقع بيتر ونينك، الرئيس التنفيذي للشركة الهولندية، أن تشهد الشركة دفعة إلى الأمام من أكثر من 20 مصنعا جديدا لأشباه الموصلات تبنى في أماكن أخرى من العالم، لافتا إلى أن سنتي 2024 و2025 مجرد "فترة انتقالية إلى مجالات جديدة للنمو".

ديانا استيفانيا روبيو

وعلى الرغم من كل هذه الالتزامات الاستثمارية، من بينها خطط الدول المتقدمة لدفع الصناعة المحلية، من المرجح أن يستغرق تعزيز مرونة سلاسل إمداد الرقائق، سنوات قبل أن يتحقق. فوفقا لشركة "إنتل"، يستغرق بناء مصنع لأشباه الموصلات وحده نحو ثلاث سنوات.

صراعات سياسية ومسألة أمن قومي

لا تقتصر الخطط التوسعية لإنتاج الرقائق الميكروية على الشركات الكبرى، إذ أضحت هذه الصناعة في صلب اهتمام الدول الكبرى وحكوماتها واستراتيجياتها التكنولوجية من جهة، والسياسية-الأمنية من جهة ثانية، حيث يعزز تفوقها في مجال صناعة الرقائق تنافسية اقتصاداتها ووزنها الجيوسياسي، وتحكمها في عملية صنع القرار، لتصبح هذه الصناعة عرضة للتجزئة والتوترات بين الدول وخطوط الإمداد عبر البحار.  

ترقى العلاقات التكنولوجية، بين الولايات المتحدة وأوروبا من جهة والصين من جهة ثانية، إلى درجة الأمن القومي لهذه الدول. فلا أحد يرغب في أن يكون المكون الاستراتيجي الأول لتطوير برامج الذكاء الاصطناعي والهواتف الذكية والبنية التحتية للاتصالات الخليوية ووسائل التواصل الاجتماعي في يد الطرف الآخر

إلا أن الواقع الحالي للصناعة يظهر درجة استثنائية من الترابط العالمي لسلسلة إمداد الرقائق، حيث تتميز الولايات المتحدة في مجال الملكية الفكرية وتصميم الرقائق، ويلعب الاتحاد الأوروبي واليابان دورا رئيسا في توفير المعدات والمواد اللازمة للتصنيع، كما تتفوق كوريا في تصميم شرائح الذاكرة، وتصنيعها وتجميعها واختبارها. وتعد الصين مصدرا رئيسا للسيليكون، المادة الخام لإنتاج الرقائق. ولتايوان الحصة الكبرى من صناعة الرقائق. ولكل من هذه العناصر أهمية استراتيجية بالغة، ومعظمها يتركز بشكل كبير في أماكن محدودة، مما يرفع بسهولة خطر تعطيل سلسلة الإمداد بأكملها.

ترقى العلاقات التكنولوجية، بين الولايات المتحدة وأوروبا من جهة والصين من جهة ثانية، إلى درجة الأمن القومي لهذه الدول. فلا أحد يرغب في أن يكون المكون الاستراتيجي الأول لتطوير برامج الذكاء الاصطناعي والهواتف الذكية والبنية التحتية للاتصالات الخليوية ووسائل التواصل الاجتماعي، في يد الطرف الآخر، لا سيما الصين، التي تهدد باجتياح تايوان حيث تعمل كبرى شركات تصنيع الرقائق، ويعتمد عليها عدد من الشركات التكنولوجية الأميركية العملاقة، في صنع أجهزتها ومكوّنات هذه الأجهزة.

وتاليا، تسعى الولايات المتحدة وأوروبا إلى تعزيز صناعتهما المحلية لهذه الرقائق من خلال التشريعات والتحفيزات الجاذبة للاستثمارات، كما أنها تفضل أن تحيل التلزيمات الخاصة بالشركات الأميركية، في مختلف المجالات، من الصين إلى دول صديقة، مثل كوريا الجنوبية واليابان.

ديانا استيفانيا روبيو

الولايات المتحدة تملك الاستثمارات وتنقصها المهارات!

أما الولايات المتحدة، مهد الابتكار، التي لا تزال تحافظ على ريادتها بلا منازع في تصميم الرقائق، فقد انحسر دورها الإنتاجي في العقود المنصرمة. لكن بعد تعطل سلاسل إمداد السلع والبضائع كلها تقريبا، ولا سيما في مجال الرقائق الإلكترونية، بسبب القيود والإغلاقات التي فُرِضت في ظل جائحة "كوفيد - 19"، وبسبب التداعيات الاقتصادية والتجارية للغزو الروسي لأوكرانيا المتواصل منذ شباط/فبراير 2022، أصدرت واشنطن عددا من القوانين، منها القانون الأميركي للرقائق والعلوم (CHIPS Act)، الذي خصص مبلغ 280 مليار دولار على مدى السنوات العشر المقبلة، لمشاريع وأولويات كثيرة، منها 53 مليارا من الإعانات والاستثمارات لإقناع شركات إنتاج أشباه الموصلات بنقل مصانعها إلى الولايات المتحدة، إلى جانب 200 مليار دولار لإطلاق الأبحاث والمختبرات والتطوير وتسويق التقنيات الرائدة، مثل "الحوسبة الكمومية"، والذكاء الاصطناعي، والطاقة النظيفة، وتكنولوجيا النانو، وإنشاء مراكز إقليمية جديدة للتكنولوجيا الفائقة وغيرها.

Shutterstock
تصنيع رقائق إلكترونية، واختبار الشريحة تحت المجهر.

تقابل هذا القانون ضوابط التصدير الصارمة التي تمنع العديد من الشركات من بيع منتجاتها إلى الصين، التي لا تزال كبرى شركاتها مثل "هواوي تكنولوجيز" وشريكتها التي تصنع لها الرقائق، الشركة الدولية لتصنيع أشباه الموصلات، "إس. إم. آي. سي"، تعتمد على التكنولوجيا الأميركية لإنتاج رقائق متقدمة. ولكن يبدو اجتذاب شركات الرقائق الالكترونية إلى الولايات المتحدة ضعيفا ومتواضعا في سوق تحفل بالتحديات والفرص، كما تفتقر إلى المهارات المتقدمة جدا التي تحتاجها صناعة أشباه الموصلات بنقص كبير يقدر بنحو 70 ألف موظف، ناهيك بهيمنة الشركات الكبرى فعليا على مسار هذه الصناعة، مما يقلل حظوظ الناشئة منها.

ليست الولايات المتحدة الخيار الوحيد للشركات المنتجة للرقائق. فلدى الاتحاد الأوروبي قانونه للرقائق الإلكترونية، بتمويل يزيد على 46 مليار دولار لمضاعفة حصة الاتحاد من الإنتاج العالمي للرقائق من 10 إلى 20 في المئة في حلول سنة 2030

في هذا الإطار، تشير تقديرات "ديلويت" إلى أن القوى العاملة في مجال أشباه الموصلات، التي تقدر بأكثر من مليوني موظف مباشر في كل أنحاء العالم، ستحتاج إلى النمو بأكثر من مليون عامل ماهر في حلول عام 2030 لدعم تطور الصناعة. كما أنه، ومقارنة بالاستثمارات التي تبذلها "تي. أس. أم. سي"، العاملة في بلاد مهددة بغزو صيني، والتي تبلغ عشرات مليارات الدولارات سنويا (استثمرت 44 مليارا منذ بداية عام 2022)، يعتبر حجم الاستثمارات أو الحوافز التي رصدتها الولايات المتحدة، مبلغا ضئيلا لا يحمل وعدا كبيرا.

لأوروبا أهدافها

ليست الولايات المتحدة الخيار الوحيد للشركات المنتجة للرقائق. فلدى الاتحاد الأوروبي قانونه للرقائق الإلكترونية، بتمويل يزيد على 46 مليار دولار لمضاعفة حصة الاتحاد من الإنتاج العالمي للرقائق من 10 إلى 20 في المئة في حلول سنة 2030. كما تعتزم اليابان، التي تتمتع بمهارة كبيرة في إنتاج المواد الكيميائية الفائقة النقاء المستخدمة في تصنيع أشباه الموصلات، توفير 13 مليار دولار لدعم هذه الصناعة، في وقت أطلقت الهند "مهمة أشباه الموصلات" في محاولة لإنشاء منظومة خاصة بها لصناعة الرقائق الإلكترونية.

ديانا استيفانيا روبيو

وكانت نائبة رئيسة المفوضية الأوروبية لشؤون المنافسة والاقتصاد الرقمي مارغريت فيستاغر، قد أفصحت عن الهدف من هذه القوانين في أن تستأثر الولايات المتحدة وأوروبا معا بنحو 50 في المئة من إنتاج أشباه الموصلات في العالم. وقالت، "هذا ليس عملا حمائيا، ولا محاولة لتحقيق الاكتفاء الذاتي. إنه يهدف إلى امتلاك وزن أقوى بكثير في المنظومة العالمية لأشباه الموصلات".

الصين تمنع استخدام الرقائق الأميركية

أما الصين، فهي في صدد جمع أكثر من 27 مليار دولار لإنشاء صندوق للرقائق في البلاد، كما ذكرت "بلومبرغ"، وستشرف عليه وزارة التكنولوجيا الصينية بشكل مباشر، في خطوة لتسريع تطوير التقنيات المتطورة بهدف مواجهة القيود الأميركية المتزايدة في مجال الرقائق والذكاء الاصطناعي. 

لم تتوان بكين عن تقديم الدعم لصناعة الرقائق المحلية منذ سنوات عدة، فقد دفعها القرار الأميركي إلى تكثيف جهودها في إطار حملة وطنية تسعى من خلالها للاستغناء عن الموردين الأجانب لتكنولوجيا أشباه الموصلات، إضافة إلى تكنولوجيات أخرى. فقد أصدرت الصين قرارا في أواخر مارس/آذار الماضي يقضي بمنع استخدام الرقائق الأميركية في الحواسيب الحكومية، أبرزها رقائق "إنتل" و"إيه. أم. دي" اللتين بلغت حصة الصين من إيراداتهما 27 في المئة (54 مليار دولار) و15 في المئة (23 مليار دولار) على التوالي في 2023، لتعتمد الصين بعدها على مبادئ توجيهية جديدة لأجهزة الحواسيب الحكومية تتضمن استثمارات بـ91 مليار دولار لاستبدال البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات وانتقالها إلى مزودي الخدمات المحليين في حلول عام 2027.

تسعى "هواوي" منذ أكثر من عام، وهي التي طالتها العقوبات الأميركية منذ عام 2019، لبناء منظومة إيكولوجية واسعة لتصنيع الرقائق في الصين. وهي أعلنت منذ أكثر من عام أنها تمكنت من تطوير برمجيات أتمتة التصميم الإلكتروني، المستخدمة لإنشاء مخططات للرقائق، سيعني ذلك مزيدا من الحضور الصيني في القطاع وحصصا أكبر من السوق المحلية

وتعزز الصين قطاع الرقائق المحلي بخطة خمسية أعلنتها العام المنصرم بتكلفة تريليون يوان (نحو 140 مليار دولار). وكان تسابق صانعي الرقائق المحليين على شراء آلات الليثوغرافيا المتطورة من شركة "إيه. إس. إم. إل" الهولندية، ملحوظا، حيث ارتفعت واردات الصين من هذه الآلات بنسبة 450 في المئة في نهاية العام المنصرم، مقارنة بالعام الأسبق، وذلك قبل أن تدخل قيود هولندية على التصدير حيز التنفيذ مطلع السنة الجارية بإيعاز من الولايات المتحدة. إذ يعتبر رئيس الشركة، ونينك، أن صناعة الرقائق الإلكترونية تبقى مدفوعة بالتحركات الجيوسياسية. وسيشكل افتقار الصين لهذه المعدات المتطورة في ظل الحاجة إليها وارتفاع الطلب على الرقائق الإلكترونية، عائقا كبيرا أمام مزيد من التقدم المحلي.

وقد نجحت خطة "الصندوق الكبير" سابقا في جذب 45 مليار دولار، وهو يدعم الشركات منذ عام 2014، منها "إس. إم. آي. سي" التي توصلت إلى تصنيع معالج 7 نانومتر لهاتف "برو 60 مايت" من "هواوي" عام 2023، مما يجعله قادرا على الوصول إلى سرعات الجيل الخامس من الإنترنت. وقد تكون "إس. إم. آي. سي" على وشك إنشاء رقائق صغيرة يصل مقاسها إلى خمسة نانومترات.

رويترز
لوح إلكتروني مثبتة عليه رقائق إلكترونية بجانبها العلم الصيني طبع عليها عبارة "صنع في الصين"، 17 فبراير 2023.

إلا أن "هواوي" و"إس. إم. آي. سي" لا تزالان متأخرتين لجهة الابتكار التكنولوجي، إذ أنهما لم تتوصلا بعد إلى إنتاج رقائق بمقاس ثلاثة نانومترات على غرار "سامسونغ" و"تي. إس. إم. سي"، اللتين بدأتا في إنتاج رقائق بمقاس ثلاثة نانومترات منذ عام 2022، وهو العام نفسه الذي أصدرت فيه الولايات المتحدة قرار وقف صادراتها من الرقائق الأكثر حداثة وأدوات تصنيعها إلى الصين.

وتسعى "هواوي" منذ أكثر من عام، وهي التي طالتها العقوبات الأميركية منذ عام 2019، لبناء منظومة إيكولوجية واسعة لتصنيع الرقائق في الصين. وهي أعلنت منذ أكثر من عام أنها تمكنت من تطوير برمجيات أتمتة التصميم الإلكتروني، المستخدمة لإنشاء مخططات للرقائق. سيعني ذلك مزيدا من الحضور الصيني في القطاع وحصصا أكبر من السوق المحلية لا سيما لشركات مثل "إس. إم. آي. سي"، التي وصلت حصتها في السوق العام المنصرم إلى 16 في المئة، ويتوقع أن ترتفع إلى نحو 30 في المئة في حلول عام 2025. هذا عدا نجاحات مماثلة لشركات أخرى مثل "ناورا"، نظيرة "إس. إم. آي. سي"، و"وازام"، التي تورّد الأفلام المستخدمة في عزل أشباه الموصلات.

هذا التمايز في التوجه الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وأوروبا والصين، عبّر عنه كريس ميلر، أستاذ التاريخ الدولي في جامعة تافتس ومؤلف كتاب "حرب الرقائق الإلكترونية: الصراع على التكنولوجيا الأكثر أهمية في العالم"، قائلا "باستثناء الصين، التي تحاول إنشاء منظومة خاصة بها، لا أعتقد أن أحدا آخر يسعى إلى القيام بذلك. بل إنه لا يوجد شخص واحد في موقع السلطة في أي من دول مجموعة السبع يعتقد أن الاكتفاء الذاتي أمر ممكن أو مرغوب فيه".

وراء صناعة الرقائق الإلكترونية تحديات كبيرة تتمثل في استهلاك هذه الصناعة كميات هائلة من المياه، وهو مورد من المرجح أن يصبح أكثر ندرة في ظل تغير المناخ في مختلف أنحاء العالم. ويعادل استهلاك مصانع الرقائق للمياه استهلاك مدينة هونغ كونغ البالغ عدد سكانها 7,5 ملايين نسمة

الأمر الأكيد هو أن الجميع يعي أن سباق التسلح التكنولوجي القائم حاليا، الذي يمكن اختزاله بالسباق على الريادة في تصنيع الرقائق، سيحدد من سيهيمن على الاقتصاد العالمي في المستقبل القريب.

وتأخذ الولايات المتحدة تهديدات الصين باجتياح تايوان التي تقول إنها جزء من الصين، على محمل الجد، وهي تهديدات إن نُفذت، في إمكانها أن تشل صناعة الرقائق عالميا، وهذت ما لا يمكن لأي جهة المخاطرة بالسماح بحصوله. فعلى قول رئيس مجلس الإدارة في "تي. أس. أم. سي"، مارك ليو، إنه "في حال استخدام القوة العسكرية أو القيام بغزو، ستصبح مصانع الشركة غير قابلة للتشغيل، فهي مرافق تصنيع معقدة تعتمد على التواصل في الوقت الحقيقي مع العالم الخارجي – مع أوروبا واليابان والولايات المتحدة".

تحديات المناخ والطبيعة والأمن السيبراني

استهلاك المياه

وراء صناعة الرقائق الإلكترونية تحديات كبيرة تتمثل في استهلاك هذه الصناعة كميات هائلة من المياه، وهو مورد من المرجح أن يصبح أكثر ندرة في ظل تغير المناخ في مختلف أنحاء العالم. ويعادل استهلاك مصانع الرقائق للمياه استهلاك مدينة هونغ كونغ البالغ عدد سكانها 7,5 ملايين نسمة، وفقا لتقرير صادر عن وكالة "ستاندرد أند بورز" التي قالت إن هذه المياه تستخدمها المصانع لتبريد الآلات وضمان خلوها من الغبار أو المخلفات. وبشكل عام، تشهد صناعة الرقائق ارتفاعا في استهلاك المياه بنسبة تصل إلى 10 في المئة سنويا.

وقد زاد استهلاك شركة "تي. أس. أم. سي" التايوانية من المياه الشديدة النقاء لكل وحدة تنتجها، بنسبة 35 في المئة، بعدما تطورت قدراتها وانتقلت إلى تصنيع رقائق معالجة من طراز 16 نانومترا. ومع الظروف المناخية التي يعاني منها العالم، وفي مقدمها ندرة المياه، فإن الشركة التايوانية معرضة لخطر فقدان قدرتها على إدارة إستقرار الإنتاج المتزايد تبعا لارتفاع الطلب على الذكاء الاصطناعي.

ويورد تقرير من العام المنصرم أن الطلب العالمي على الذكاء الاصطناعي قد يكون مسؤولا عن استهلاك ما بين 4,2 إلى 6,6 مليارات متر مكعب من المياه في حلول عام 2027، أو ما يعادل نصف استهلاك المياه السنوي للمملكة المتحدة، وهي دولة يبلغ عدد سكانها 67 مليون نسمة.

هناك مخاوف في شأن استهلاك المياه، منها مشروع لـ"غوغل" في تشيلي وآخر في سانتياغو كانت قد حصلت على ترخيص في شأنه في عام 2020، قبل أن يتوقف تبعا لشكاوى السكان والمسؤولين المحليين بسبب التأثير المحتمل على إمدادات المياه

وقد أدى هذا الواقع إلى عرقلة مشاريع بناء مراكز بيانات لشركات تكنولوجيا عملاقة، بسبب مخاوف في شأن استهلاك المياه، منها مشروع لـ"غوغل" في تشيلي وآخر في سانتياغو كانت قد حصلت على ترخيص في شأنه في عام 2020، قبل أن يتوقف تبعا لشكاوى السكان والمسؤولين المحليين بسبب التأثير المحتمل على إمدادات المياه.

أضف إلى هذه التحديات، إستهلاك مراكز البيانات ما يصل إلى 1,5 في المئة من الاستخدام العالمي للكهرباء. وإذا ما استمرت التوجهات الحالية في تطوير الذكاء الاصطناعي، ففي حلول عام 2027، قد تحتاج هذه التكنولوجيا مقدارا من الطاقة يفوق استهلاك هولندا.

أخطار طبيعية... زلزال تايوان

جرس إنذار إضافي أطلقه زلزال بقوة 7,4 درجات ضرب تايوان مطلع أبريل/نيسان الماضي، أدى إلى تعليق العمل في "تي. أس. أم. سي"، عملاق إنتاج الرقائق في البلاد والعالم، وإخلاء أقسام ضخمة من مصانعها، مما أثار حالا من عدم اليقين في شأن إنتاج الرقائق واضطراب سلسلة إمداد التكنولوجيا عالميا، خصوصا أن الزلزال تسبب في تدمير مجموعات كاملة من الرقائق الدقيقة الصنع، في ظل اعتماد مفرط على الشركة التايوانية في تصنيع أشباه الموصلات.  طبيعي القول بعد ذلك، إن تنويع مصادر وجغرافيا إنتاج الرقائق هو ضرورة جيواستراتيجية وتجارية وأمنية.

رويترز
مهندس يقوم بتجميع جزء من أداة High NA EUV، في المقر الرئيس لشركة ASML، في فيلدهوفن، هولندا في 9 نوفمبر 2023.

وكانت إدراة الرئيس الأميركي جو بايدن تمكنت من اجتذاب استثمار بقيمة 40 مليار دولار للشركة التايوانية في ولاية أريزونا لإنشاء مصنعين للرقائق على التراب الأميركي، مستفيدة من المحفزات التي أطلقتها الإدارة لهذا الغرض. هذا عدا استثمار حديث للشركة لإنشاء أول مصنع لها في اليابان بتكلفة 8,6 مليارات دولار لنيتها المساهمة في تأمين استمرارية الإمدادات العالمية لهذه الرقائق.

لم يكن أحد ليتوقع هذا الإنفجار الكبير للذكاء الاصطناعي ومعه صناعة الرقائق الإلكترونية في فترة تعتبر قياسية نسبة لحقبات تكنولوجية سابقة. وفي ظل التسابق المحموم بين الأقطاب العالمية لإعادة الصناعات إلى أراضيها، أهمها صناعة الرقائق الميكروية

فإذا كنا مقبلين على عالم يقوم على الذكاء الاصطناعي والرقائق وأشباه الموصلات، فإن سلسلة مصانع الإنتاج والتوريد والشحن يجب أن تكون في مأمن استراتيجي، تماما كصناعة النفط. إذ إن أي تعثر في تدفق النفط والغاز، دونه تضخم وتهديد لدورة الإنتاج وانهيارات اقتصادية وأخطار جمة، والأمر نفسه ينسحب على صناعة الرقائق مستقبلا.

الأمن السيبراني

تواجه صناعة أشباه الموصلات كذلك مستوى مختلفا من التهديدات السيبرانية مقارنة بالصناعات الأخرى. والتحديات الجيوسياسية والقيود المفروضة على تكنولوجيا صناعة الرقائق المتقدمة، تعزز تعرض شركات الرقائق للهجمات الإلكترونية، بحسب "ديلويت".

وقد يؤدي استمرار التوترات الجيوسياسية في السنة الجارية إلى فرض مزيد من القيود على صناعة الرقائق، مما يعني تصاعدا للهجمات السيبرانية، وخطرا متزايدا من تعطيل الإنتاج. ولن تطال الهجمات السيبرانية شركات الرقائق فحسب، بل شركاءها في الإنتاج أيضا من موردين وموزعين ومصنعين. ويمكن للحلول السيبرانية المتقدمة، ومنها التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، أن توفر بيئة رقمية آمنة . 

عصر المفاجآت

لم يكن أحد ليتوقع هذا الإنفجار الكبير للذكاء الاصطناعي ومعه صناعة الرقائق الإلكترونية في فترة تعتبر قياسية نسبة لحقبات تكنولوجية سابقة. وفي ظل التسابق المحموم بين الأقطاب العالمية لإعادة الصناعات إلى أراضيها، أهمها صناعة الرقائق الميكروية، فإن أي تطور مقبل لا يقاس بالخوارزميات، ومن الصعب التوقع إذا كان سيبقى ساريا في السنوات بل الأشهر المقبلة. فكلما تطورت الرقاقة، تضاعف الإدراك الذاتي للذكاء الاصطناعي على نحو متسارع قد لا يمكن السيطرة عليه قريبا.

font change

مقالات ذات صلة