الإمبراطوريات الرقمية الجديدة في عصر الإنترنت

الفضاء السيبراني يقلب النظام العالمي القديم رأساً على عقب

المجلة
المجلة

الإمبراطوريات الرقمية الجديدة في عصر الإنترنت

العالم اليوم عبارة عن فوضى جيوسياسية ساخنة. أحد مصادر هذه الفوضى هو الافتقار إلى الإجماع بين العلماء وواضعي السياسات حول التوزيع العالمي للسلطة. فهل لا نزال نعيش في عالم من الهيمنة الأميركية؟ هل هو عالم ثنائي القطب أم متعدد الأقطاب؟ أم أن الدول لم تعد الجهات الفاعلة الرئيسة في العالم، وهل نعيش بدلاً من ذلك في عصر "القطبية التكنولوجية"، حيث أصبحت الشركات العملاقة مثل "أمازون"، و"أبل"، و"غوغل"، و"ميتا"، ناهيك عن الملياردير إيلون ماسك، القوى العظمى الجديدة؟

النشاز الأكاديمي مزعج. ليس عدم اليقين في شأن توزيع السلطة مجرد مسألة نقاش؛ عندما تختلف الجهات الفاعلة حول توزيع السلطة، يمكن أن تبدأ الحروب.

يقدم كتابان نُشِرا العام الماضي وجهات نظر متباينة حول هذه الأسئلة. في كتابهما "الإمبراطورية السرية: كيف حوّلت أميركا الاقتصاد العالمي إلى سلاح؟"، يفترض هنري فاريل وأبراهام نيومان أن الولايات المتحدة لا تزال تتمتع بقدر كبير من السلطة الهيكلية في النظام العالمي. مع ذلك، تجادل أنو برادفورد في كتابها "الإمبراطوريات الرقمية: المعركة العالمية لتنظيم التكنولوجيا" بأن القوة العظمى المفاجئة ليست الولايات المتحدة ولا الصين، بل الاتحاد الأوروبي.

"الإمبراطورية السرية"

يدرس كلا الكتابين ممارسة السلطة والحوكمة في المجال الرقمي. تساعد تقييماتهما المتناقضة في تفسير سبب صعوبة الاتفاق حول الوضع الحالي للعالم حتى في صفوف أكثر مراقبي الشؤون العالمية اطلاعاً – ولا سيما عندما يتعلق الأمر بالتكنولوجيا.

اعتمد الاقتصاد العالمي على نظام مسبق البناء من الأنفاق والقنوات التي يمكن للحكومة الأميركية أن تستمع سراً إلى ما يقوله الخصوم بعضهم لبعض أو إخراجهم من النظام المالي العالمي

كتاب "الإمبراطورية السرية"، للكاتبين هنري فاريل وابراهام نيومان

يعتمد كتاب "الإمبراطورية السرية" لفاريل ونيومان على مقال رائد نشراه عام 2019 في مجلة "الأمن الدولي" بعنوان "تحويل الاعتماد المتبادل إلى سلاح: كيف تشكل الشبكات الاقتصادية العالمية إكراهاً للدول؟". في تلك الورقة، افترض فاريل، الأستاذ في كلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة، ونيومان، الأستاذ في جامعة جورج تاون، أن العولمة في العديد من القطاعات الاقتصادية ولّدت بنية شبكية تركز السلطة في عدد قليل من المراكز. ويمكن للدول التي تسيطر على تلك المراكز – مثل الولايات المتحدة – ممارسة نفوذ عالمي كبير.

يذكّر كتاب "الإمبراطورية السرية" القراء بالحجة الأساس للمقال. في مقدمتهما، كتب المؤلفان: "اعتمد الاقتصاد العالمي على نظام مسبق البناء من الأنفاق والقنوات التي يمكن للولايات المتحدة الانتقال إليها والتكيف معها، بالسهولة نفسها تقريباً كما لو كانت مصممة خصيصاً على يد مهندس عسكري لهذا الغرض. من خلال السيطرة على التقاطعات الرئيسة، يمكن للحكومة الأميركية أن تستمع سراً إلى ما يقوله الخصوم بعضهم لبعض أو إخراجهم من النظام المالي العالمي.

Shutterstock
التداول وإدارة الثروات عبر الإنترنت.

ومع ذلك، يتوسع كتاب "الإمبراطورية السرية" إلى ما هو أبعد من هذه النقطة. هناك مناقشة مثيرة للاهتمام، مثلاً، حول كيفية مساعدة القطاع الخاص في خلق هذا العالم المركزي والظروف التي كانت فيها الشركات المتعددة الجنسيات راغبة في توسيع السلطة الفيدرالية: "تبيّن لرائد أعمال بعد آخر أن أفضل طريقة لتحقيق الربح في الاقتصاد اللامركزي هي اكتشاف طرق لإضفاء المركزية على أجزاء منه مرة أخرى".

"الإمبراطوريات الرقمية"

وبالمثل، يبني كتاب "الإمبراطوريات الرقمية" لبرادفورد على عمل سابق. تعتمد برادفورد على كتابها الصادر عام 2020 بعنوان "أثر بروكسل"، الذي يجادل بأن مزج الاتحاد الأوروبي بين سلطته السوقية وقدرته التكنوقراطية جعله قوة عظمى في مجالات المسائل حيث يفضل الأوروبيون المعايير التنظيمية الصارمة. في كتابها "الإمبراطوريات الرقمية"، تؤكد برادفورد، الأستاذة في كلية الحقوق بجامعة كولومبيا، أن هناك ثلاث قوى عظمى عندما يتعلق الأمر بالتكنولوجيا عبر الإنترنت، وكل منها يقدم مجموعة متنوعة مختلفة من الرأسمالية الرقمية. وعلى حد وصفها، "كانت الولايات المتحدة رائدة في نموذج تحركه السوق إلى حد كبير، والصين في نموذج تحركه الدولة، والاتحاد الأوروبي في نموذج تحركه الحقوق".

تؤدي هذه الأساليب المتباينة إلى صدامات تنافسية بين الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي حول المسائل التنظيمية والتكنولوجية مثل خصوصية البيانات والإشراف على المحتوى. كذلك تخلق التفضيلات الرقمية المتباينة صدامات تنافسية بين هذه الحكومات وشركات التكنولوجيا التي تزود البنية التحتية والخدمات الرقمية. لقد أجبرت الدولة الصينية شركاتها على الامتثال بقدر أكبر لإملاءات الحكومة؛ أما الشركات الأميركية فكانت أكثر استعداداً لمحاربة الحكومة الفيدرالية في شأن مسائل خصوصية البيانات.

يبدو كل من كتابي "الإمبراطورية السرية" و"الإمبراطوريات الرقمية" مطلعاً من الناحية التحليلية ويستحق القراءة. يملأ فاريل ونيومان روايتهما بحكايات مسلية – مثل أن وكالة الأمن القومي الأميركية تطلق على نقاط الاختناق الدولية للإنترنت أسماء منتجعات للتزلج. ويُعَد كتاب برادفورد موسوعي في نطاقه؛ ذلك أن مناقشتها للنزاعات العالمية حول السياسات المتعلقة الإنترنت في شأن مسائل تشمل مكافحة الاحتكار والذكاء الاصطناعي شاملة ومفيدة لأي شخص يرغب في قراءة الموضوع.

إن مفهوم القطبية التكنولوجية ليس واقعياً. وبعد قراءة الكتابين، من المرجح أن يستنتج المرء أن سلطة الدولة ستكون قادرة على الضغط على القطاع الخاص للامتثال للمصالح الوطنية الأساسية

كتاب "الإمبراطورية السرية"، للكاتبين هنري فاريل وأبراهام نيومان

تجمع مقارنة حجج المؤلفين – كما أنا على وشك القيام به – النقاط التي يتفقون عليها. يؤكد كل من كتابي "الإمبراطورية السرية" و"الإمبراطوريات الرقمية" أهمية القدرة المؤسسية كوسيلة تستخدمها الدول لممارسة السلطة. تشبه بعض حجج برادفورد تلك التي قدمها فاريل ونيومان في كتابهما الصادر عام 2019 عن الخصوصية والسلطة. ويشير الكتابان الجديدان أيضاً إلى أن مفهوم القطبية التكنولوجية ليس واقعياً. وبعد قراءة الكتابين، من المرجح أن يستنتج المرء أن سلطة الدولة ستكون قادرة على الضغط على القطاع الخاص للامتثال للمصالح الوطنية الأساسية. مع ذلك، فإن ما يجعل هذين الكتابين قراءة مثيرة للاهتمام هو النقطة التي يتباعدان حولها: مصادر سلطة الدولة في الفضاء الإلكتروني.

بالنسبة إلى فاريل ونيومان، تحتفظ واشنطن بسلطة هيكلية كبيرة لأن قسماً كبيراً من العالم الرقمي نشأ في الولايات المتحدة. تمنح المركزية الشبكية هذه الولايات المتحدة القدرة على المراقبة والتأثير والإكراه – إذا لزم الأمر – على الجهات الفاعلة الأخرى في مجالات متعددة.

تسهيل التجسس على العالم

كان بعض من هذا، على الأقل، عن قصد: كتب المؤلفان يقولان: "وفق موظف سابق في وكالة الأمن القومي، عمدت الحكومة الأميركية خلال الأيام الأولى للإنترنت إلى 'تشجيع هادئ لصناعة الاتصالات على زيادة كمية حركة المرور الدولية التي تُوجَّه من خلال محولات أميركية' لتسهيل التجسس على العالم". ومع احتدام المنافسة التكنولوجية بين الصين والولايات المتحدة، استخدمت واشنطن تدابير غير تقليدية للضغط على الصين. وتشمل هذه التدابير قاعدة المنتجات الأجنبية المباشرة، التي تسمح للولايات المتحدة بحظر تصدير المنتجات من دول أخرى إذا كانت هذه المنتجات تعتمد على مكونات أو تكنولوجيا أميركية الصنع. 

في شكل عام، يشير كتاب "الإمبراطورية السرية" إلى أن من الصعب للغاية التخلص من بعض أشكال السلطة الهيكلية. على غرار ما حدث في أواخر ثمانينات القرن العشرين – عندما اعتقد العديد من علماء العلاقات الدولية بأن الولايات المتحدة كانت في حالة تدهور نهائي، فقط ليتبين أن البلاد كانت آخر قوة عظمى باقية على قيد الحياة بعد عقد من الزمن – قد يكون المعلقون يقللون شأن السلطة الأميركية الحالية في العالم الرقمي.

للمزيد إقرأحظر "تيك توك" في أميركا لن يجعلها أكثر أمانا... بل العكس

لكن بالنسبة الى برادفورد، فإن ما يهم هو الجمع بين السلطة السوقية، وقدرة الدولة، وجاذبية التفضيلات التنظيمية للحكومة. تمكن هذه الصيغة المؤلِّفة من أن تتوقع أن الاتحاد الأوروبي سيكون في المستقبل أهم جهة فاعلة ديمقراطية في الحوكمة الرقمية العالمية. ذلك أن افتقار الاتحاد الأوروبي إلى شركات تكنولوجية كبرى يُعَد ميزة إضافية في نموذج برادفورد لأنه يقلل حافز الاتحاد الأوروبي لتلبية احتياجات مجموعات المصالح المحلية.

تتراجع شركات وسائل التواصل الاجتماعي عن دورها كجهات مراقبة تكافح التضليل السياسي، وتتخلى عن جهودها الأكثر صرامة لمراقبة الأكاذيب عبر الإنترنت

أنو برادفورد، مؤلفة كتاب "الإمبراطوريات الرقمية"

وفق كتاب "الإمبراطوريات الرقمية"، يفقد نموذج حوكمة التكنولوجيا الأميركي القائم على عدم التدخل في السوق جاذبيته في الداخل والخارج. على الصعيد المحلي، هاجم الحزبان السياسيان الرئيسان شركات التكنولوجيا الكبرى، وإن كان لأسباب مختلفة. لا يثق الديمقراطيون في التركيز المؤسسي لدى الشركات التكنولوجية الكبرى، في حين أن الجمهوريين مقتنعون بأن الإشراف على المحتوى يتضمن تحيزاً مناهضاً للمحافظين. على الصعيد العالمي، جعلت المخاوف في شأن خصوصية البيانات الحياة أكثر صعوبة بالنسبة إلى الشركات التكنولوجية الخمس الكبرى – "أمازون" و"آبل" و"غوغل" و"ميتا" و"مايكروسوفت". 

وبينما يفقد النموذج الأميركي بريقه، تفترض برادفورد أن الولايات المتحدة ستواكب الاتحاد الأوروبي في شكل أوثق في مواجهة نموذج الحوكمة الرقمية الصيني الأكثر استبدادية. بالنسبة إلى برادفورد، ليست السيطرة على المراكز الحاسمة هي ما يهم، بل السيطرة على الأسواق الحاسمة.

للمزيد إقرأ: أسرار الصين للسيطرة على الإنترنت

ليست تعريفات السلطة الرقمية المقدمة في كتابي "الإمبراطورية السرية" و"الإمبراطوريات الرقمية" حصرية في أي حال. يمكن أن يكون صحيحاً في الوقت نفسه أن الولايات المتحدة تحتفظ بسلطة هيكلية كبيرة وأن الاتحاد الأوروبي يمارس سلطته السوقية ببراعة – وذلك في الوقت الذي تحاول فيه الصين جمع الشكلين من السلطة. مع ذلك، إذا كانت ثمة ساحات للتنافس يختلف فيها المسؤولون الأميركيون والأوروبيون والصينيون، فما هو شكل السلطة الذي قد يسود؟

Shutterstock
شبكة عالمية تربط مدينة نيويورك بالعالم.

هنا، يتعين على المرء أن يعطي ميزة طفيفة إلى فاريل ونيومان وحجتهما لصالح السلطة الهيكلية الأميركية. لقد ضعفت حجة برادفورد لصالح الاتحاد الأوروبي بسبب بعض المزاعم التجريبية والنظرية التي لا تصمد أمام التدقيق. فصلها عن "تراجع الأثر العالمي لليبيرالية التكنولوجية الأميركية" مقنع أساساً حول الجوانب السلبية للنموذج الأميركي. مع ذلك، يعتمد زعمها بأن الديمقراطيات الأخرى قد انقلبت على النموذج الأميركي، بالاعتماد شبه كامل على الانتقادات التي وجهتها تلك الدول بعد انكشاف أمر إدوارد سنودن عام 2013 بدلاً من تغيير السياسات في شكل ذي مغزى.

إقرأ أيضا: الآلة شريكا للوظيفة... "الروبوت" يهددنا وهذا ما ينتظرنا (2)

هناك مجالان آخران حيث لا يمكن الدفاع عن توقعات برادفورد. تشير في استنتاجها إلى أن "شركات التكنولوجيا كانت مترددة في الإشراف على المحتوى على منصاتها لكنها الآن تقر في شكل متزايد بأن عليها مسؤولية القيام بذلك في شكل أكثر استباقية". هذا الزعم لم يُبلوَر في شكل جيد. بعدما جرّد ماسك فريق الإشراف على المحتوى في "تويتر" من سلطاته عام 2022، حذت شركات التكنولوجيا الكبرى الأخرى حذوه. وكما ذكرت "الواشنطن بوست" في أغسطس/آب الماضي، "تتراجع شركات وسائل التواصل الاجتماعي عن دورها كجهات مراقبة تكافح التضليل السياسي، وتتخلى عن جهودها الأكثر صرامة لمراقبة الأكاذيب عبر الإنترنت". وليس هناك ما يشير إلى انحسار هذا الاتجاه خلال هذا العام الانتخابي حول العالم الذي حطم الأرقام القياسية.

تنظيم الاتحاد الأوروبي للذكاء الاصطناعي قد يكون أيضاً بمثابة نموذج للدول الأخرى. لكن قصة نشر "بوليتيكو" أخيراً حول الصدام بين معايير الذكاء الاصطناعي في الاتحاد الأوروبي وفي الولايات المتحدة تشير إلى نتيجة مختلفة

أنو برادفورد، مؤلفة كتاب "الإمبراطوريات الرقمية"

تزعم برادفورد أيضاً أن الولايات المتحدة تتقارب مع الاتحاد الأوروبي على صعيد تنظيمات الذكاء الاصطناعي. وكتبت: "قد يكون الذكاء الاصطناعي هو الحدود التالية لأثر بروكسيل"، مضيفة أن تنظيم الاتحاد الأوروبي للذكاء الاصطناعي "قد يكون أيضاً بمثابة نموذج للدول الأخرى". لكن قصة نشرها "بوليتيكو" أخيراً حول الصدام بين معايير الذكاء الاصطناعي في الاتحاد الأوروبي وفي الولايات المتحدة تشير إلى نتيجة مختلفة. الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مثل فرنسا لا تتفق بالضرورة مع بروكسيل. كذلك عارض مسؤولون أميركيون، إلى جانب ممثلين لوادي السيليكون، معايير الاتحاد الأوروبي. النتيجة؟ "خلال عام 2024، يبدو أن أولئك الذين يريدون لمسة أخف يفوزون، على رغم القواعد الملزمة الجديدة للاتحاد الأوروبي في شأن الذكاء الاصطناعي"، وفق "بوليتيكو".

كتاب "الإمبراطوريات الرقمية".

لا شك في أن مصادر السلطة في الفضاء الإلكتروني تكمن في مكان ما بين كتابي "الإمبراطورية السرية" و"الإمبراطوريات الرقمية". مع ذلك، من الممكن أن تتغير أيضاً بمرور الوقت. تحمل حجة فاريل ونيومان قوة كبيرة للتكنولوجيات الأحدث عند ظهورها. ما يكشفه كتاب "الإمبراطورية السرية" هو أن الجغرافيا مهمة حتى في الفضاء الإلكتروني، ولا سيما عندما تظل ملامح أي شبكة تكنولوجية غامضة إلى حد ما.

مع مرور الوقت واكتساب التكنولوجيات معايير موحدة أكثر، يمكن للحكومات أيضاً اكتساب مزيد من المعرفة. في هذه المنعطفات، تبدأ حجج برادفورد حول سلطة السوق في اكتساب قدر أعظم من الصلاحية. وهذا يفسر كيف تظل كل من الصين والاتحاد الأوروبي قوتين عظميين في عالم رقمي.

font change

مقالات ذات صلة