الآلة شريكا للوظيفة... "الروبوت" يهددنا وهذا ما ينتظرنا (2)

الذكاء الاصطناعي و"البطالة التكنولوجية"... الحوكمة والضوابط والقوانين وسباق التسلح

الآلة شريكا للوظيفة... "الروبوت" يهددنا وهذا ما ينتظرنا (2)

ركزت الحلقة الأولى من هذا المقال "الذكاء الاصطناعي هذا ما ينتظرنا"، عن الاتجاه العام لتعلم الآلة-الروبوت ومسار كرة ثلج الذكاء الاصطناعي التوليدي، ما بين عصر ظلام مرعب بنتائجه وتداعياته أو عصر ذهبي للبشرية، مبينة في جداول حجم استثمارات الشركات والايرادات العالمية وكيف سيغير هذا الذكاء "الجديد" حياتنا بحسب أبرز القطاعات.

ماذا عن الذكاء الاصطناعي و"البطالة التكنولوجية"... حوكمة الشركات العملاقة والضوابط والقوانين وسباق التسلح؟

يعود القلق من التكنولوجيا لعقود من الزمن، خصوصا في ما يتعلق بخسارة الناس لوظائفهم. استخدم مصطلح "البطالة التكنولوجية" للمرة الأولى، الاقتصادي الشهير جون كينز منذ ثلاثينات القرن الماضي. حتى في منتصف القرن التاسع عشر، كان الخياطون قلقين في شأن استخدام آلات الخياطة الحديثة، وعمال الموانئ كانوا قلقين في شأن مصاعد الحبوب، وفي أوائل القرن العشرين، أضرب مضيئو المصابيح عن العمل كونهم سيفقدون وظائفهم مع اكتشاف الكهرباء!

إلا أن ذلك لم يؤد إلى بطالة جماعية في حينه، إذ اختفت وظائف لتظهر أخرى جديدة للناس للقيام بها. فعمال المزارع الذين شلت الآلات عملهم، هاجروا إلى المدن وعملوا في المصانع.

لا شك أن الموجة الحالية من الاضطراب التكنولوجي تختلف عن سابقاتها اختلافا كبيرا، فعلى مدى عقد من الزمن، وربما سنرى ذلك يتحقق قريبا، ينتظر أن يؤدي التقدم السريع في قوة الحوسبة والذكاء الاصطناعي إلى زيادة كبيرة في عدد وأنواع المهمات التي يمكن للآلات أن تتفوق في أدائها على البشر. تلك المهمات لن تقتصر على القدرات الجسدية فحسب كما كانت الحال غالبا في السابق، بل ستتخطاها إلى القدرات الفكرية البشرية.

قدرت إحدى الدراسات الرائدة لجامعة "أكسفورد"، أن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي يمكن أن يفضي إلى زوال ما يقرب من نصف الوظائف في الولايات المتحدة خلال العقدين المقبلين. وقد يكون العدد أقل في الاقتصادات المتقدمة الأخرى. مع ذلك، يصر العديد من الخبراء على أن عدد الوظائف التي ستظهر مع توسع انتشار الذكاء الاصطناعي أكبر بكثير من تلك التي ستختفي. يبرز تقرير لـ "غولدمان ساكس"، أنه من المتوقع أن يحفز الذكاء الاصطناعي زيادة الإنتاجية بما يعزز القيمة العالمية للسلع والخدمات بنسبة كبيرة قد تصل إلى 7 في المئة.

يُظهر التاريخ منذ انتشار الانترنت أن التنظيم الطوعي والذاتي وحده لا يكفي عادة وأن الأرباح الهائلة التي تنتظر المبادرين في قطاع التكنولوجيا تعني أن الاعتبارات الأخرى غالبا ما يتم تجاهلها بغض النظر عن النيات الحسنة

لا يتوقف الأمر في الواقع على وفرة الوظائف المنتظرة إن صدقت توقعات الخبراء، فالتحدي الأكبر هو تمكن جميع العمال الذين أقصتهم التقنية الجديدة من الانتقال بنجاح إلى مجالات جديدة من العمل وسهولة تكيفهم مع متطلباتها من حيث اكتساب المهارات اللازمة.

لا يزال التخصص في هذا المجال مطلوبا، حيث نشر نحو ثلثي الشركات المدرجة على مؤشر "أس. أند. بي. 500" إعلانات وظائف مرتبطة بالذكاء الاصطناعي، وفقا لـ "بريديكت ليدز" للأبحاث. وقد أصبحت مهمة التوظيف في هذا المجال أسهل بكثير. 

من جهة أخرى، وعدا عن المبرمجين والمهندسين الذين سيكونون في طليعة الوظائف المطلوبة، هناك تساؤل أيضا عن مدى نجاح الروبوتات العاملة بهذه التقنية من تولي الوظائف القائمة على معالجة البيانات، ومنها ما كان يُعتقد سابقا أنها لا تمتهن إلا من البشر، كممثلي خدمة العملاء إلى المستشارين الماليين، في تحقيق الأهداف المنشودة منها، آخذين في الاعتبار أن بين تلك الوظائف ما يحتاج إلى لمسات إنسانية كالإبداع والتحلي بالأخلاق والتعاطف مع الغير.

في توصيف مباشر للواقع الذي يتجه الذكاء الاصطناعي الى فرضه بخطى متسارعة، لا يتوانى إيلون ماسك، أحد أبرز المحذرين من أخطار التقدم غير المنضبط للذكاء الاصطناعي في العالم، عن الإقرار بانتصار الروبوت تجاريا في استخدامه بديلا من اليد العاملة البشرية. فهو القائل متحدثا عن شركته "تيسلا"، أنه وجد أن البشر في الواقع أكثر كفاءة في تجميع بعض السيارات من الروبوتات، إلا أن ذلك لم يمنعه من توقع أن تكون تجارة الروبوت "ذو القدمين" الذي تطوره "تيسلا" أكبر من تجارة السيارات التي تبلغ قيمتها 650 مليار دولار!

ديانا استيفانيا روبيو

القواعد والقوانين وسباق التسلح

مر عام كامل على إطلاق روبوت المحادثة، "تشات جي. بي. تي."، الذي اجتاح استخدامه كل القطاعات ليثير مخاوف كثيرة، ليست حكرا على هذا التطبيق، أهمها كما سلف وذكرت في بداية المقال، التعلم الذاتي للذكاء الاصطناعي الذي قد يبلغ مرحلة يتفوق بها على ذكاء البشر ويخرج من سيطرتهم ونفوذهم، وانتهاك حقوق الملكية الفكرية كونه يجمع بيانات ليقدم محتوى من غير أن ينسبه إلى مصادره الأصلية. الحالتان تتعلقان بأخلاقيات تطوير الآلة والتعامل معها.

حتى اليوم لا يزال التزام هذه الأخلاقيات أمرا طوعيا بالنسبة إلى شركات التكنولوجيا، لا سيما الناشئة منها، حيث تدرج بنود هذا الالتزام في أنظمة الحوكمة لديها، وخصوصا في ما يتعلق بضمان تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والبرامج المتأتية منها، وتعزيز سلامتها وأمنها وفاعليتها. وكذلك الالتزام في الاستثمار في الأبحاث التي يمكن أن تساعد في توجيه تنظيم هذه التكنولوجيا، مثل تقنيات تقييم القدرات التي قد تشكل أخطارا محتملة في نماذج الذكاء الاصطناعي.

نيكولا فيراريس

وهم الالتزام الطوعي

لكن من يضمن تحقيق هذا الالتزام الطوعي واستمراريته بعيدا من التطورات المتسارعة للذكاء الاصطناعي والاغراءات التي يقدمها في كسب أرباح طائلة عند إطلاق أي منتج جديد؟ ففي مايو/أيار المنصرم، وقّعت مجموعة من 350 عالما ومديرا تنفيذيا في شركات التكنولوجيا في مجال الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك "أوبن إيه. آي." و"أنثروبيك" و"غوغل"، بيانا يحذر من "خطر الانقراض" الذي يشكّله الذكاء الاصطناعي إسوة بالحرب النووية والجوائح. وعلى الرغم من التوقّعات المرعبة، لم توقف أي من الشركات التي أيّدت البيان عملها على بناء نماذج ذكاء اصطناعي ذات قدرات أكبر.

يُظهر التاريخ منذ انتشار الانترنت أن التنظيم الطوعي والذاتي وحده لا يكفي عادة وأن الأرباح الهائلة التي تنتظر المبادرين في قطاع التكنولوجيا تعني أن الاعتبارات الأخرى غالبا ما يتم تجاهلها بغض النظر عن النيات الحسنة، وأنه لا بد من تدخل حكومي صارم ينظم عمل الشركات في الذكاء الاصطناعي وفي العالم أجمع حيث توحد الموازين والمعايير في وجه الاستثمارات الوازنة. أبلغ مثل على ذلك منصة "إف. تي. إكس" لتداول العملات المشفرة التي منيت بخسائر ضخمة أفلست معظم المتداولين بها وأودت برئيسها إلى السجن.

إن كانت الدول على هذه الحال من التردد و"عدم الاكتراث"، فكيف بالشركات ذاتها التي تغيب عنها الرقابة وتفتقر إلى أنظمة الحوكمة الناجعة، ومن يردعها من أن تؤثر مصالحها الخاصة إزاء المنافسة الشرسة في القطاع

المؤسف أن المسار التنظيمي اليوم لا يبدو واعدا وليس هناك من ترف للانتظار بضع سنوات قبل أن تتبلور التشريعات وتأخذ طريقها نحو النفاذ. عسى أن يسجل في هذه السنة الجديدة تقدما كافيا ومطمئنا في هذا الإطار.

فخلافا للاتحاد الأوروبي الذي سجل خرقا في أوائل ديسمبر/كانون الأول 2023، وعلى الرغم من إقرار الولايات المتحدة والصين بقوة الذكاء الاصطناعي وخطورته في وقت سابق من خريف عام 2023، لم تتخذ أي إجراءات ملموسة، أو حتى التوصية بها. ولا تبدو المملكة المتحدة مستعدة لتنظيم الذكاء الاصطناعي على المدى القصير، وقد أعلنت ذلك صراحة، على الرغم من نية رئيس الوزراء البريطاني ريتشي سوناك تحويل بريطانيا إلى مركز عالمي للتميز من خلال إنشاء "معهد سلامة الذكاء الاصطناعي" الذي سيكون من مهماته مراقبة أحدث نماذج الذكاء الاصطناعي في العالم.

وكانت المملكة المتحدة اقترحت مشروع قانون من المحتمل أن يدخل حيز التنفيذ في 2024، يهدف للحماية من التأثير السلبي للذكاء الاصطناعي، لا سيما ما يتعلق بالوظائف والخصوصية، وتمكين الابتكار والتجارة، ليبقى الجدال دائرا حول وضع الأطر التنظيمية والخطوط الحمراء وقد يشكل ذلك جزءا أساسيا في الخطاب السياسي.

أما الاتحاد الأوروبي فقد توصل أخيرا لإرساء قواعد تاريخية للذكاء الاصطناعي، منذ أن اقترحت المفوضية الأوروبية للمرة الأولى إطارا تنظيميا وقانونيا مشتركا لهذه التقنية عام 2021. هذه القواعد هي أول تنظيم رئيسي يحكم هذه التكنولوجيا في الغرب، لا سيما ما يتعلق بنماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية التي تشكل الأسس لأدوات مثل "تشات. جي. بي. تي." وغيرها مما يخص البيانات الشخصية كتحديد الهوية البيومترية، مثل التعرف على الوجه ومسح بصمات الأصابع.

لم تكن ألمانيا وفرنسا وإيطاليا سعيدة بهذا التنظيم ومحاولات إبطاء تطوير الذكاء الاصطناعي، مفضلة بدلا من ذلك التنظيم الطوعي من جانب الشركات، وتعد هذه الدول موطنا لبعض الشركات الناشئة الواعدة في مجال الذكاء الاصطناعي في أوروبا، بما في ذلك "ديب أل" و"ميسترال إيه. آي.".

ديانا استيفانيا روبيو

وتتمثل مخاوف هذه الدول في أن الإفراط في التنظيم قد يؤدي إلى خنق قدرة أوروبا على التنافس مع قادة التكنولوجيا في الصين والولايات المتحدة، حيث قوبل الأمر التنفيذي لدى الأخيرة في شأن الذكاء الاصطناعي الذي أصدرته بقدر كبير من الانتقادات باعتباره متساهلا مع هذه التكنولوجيا، سعيا لعدم التخلف عن الصين في ذلك، ليبدو الأمر كأنه سباق للتسلح. ومن خلال وجهة النظر هذه، فإن من يحقق التفوق سيحكم العالم.

فإن كانت الدول على هذه الحال من التردد و"عدم الاكتراث"، فكيف بالشركات ذاتها التي تغيب عنها الرقابة وتفتقر إلى أنظمة الحوكمة الناجعة، ومن يردعها من أن تؤثر مصالحها الخاصة إزاء المنافسة الشرسة في القطاع.

قد تكون الآلات أقوى وأذكى وأسرع من الإنسان، ولكن لا يمكن أن تكون أبدا بحكمة البشر، لأننا نحن البشر لدينا الإيمان، ولدينا الدين ولدينا قلب

جاك ما، المؤسس الشريك لمجموعة "علي بابا"

الذكاء الاصطناعي والإنسان

من اللافت حديث المؤسس الشريك لمجموعة "علي بابا" جاك ما، عن الذكاء الاصطناعي: "قد تكون الآلات أقوى وأذكى وأسرع من الإنسان، ولكن لا يمكن أن تكون أبدا بحكمة البشر، لأننا نحن البشر لدينا الإيمان، ولدينا الدين ولدينا قلب"، مقرنا استعداد البشر للمستقبل، بالتخلي عن الطرق التقليدية في اكتساب المعرفة، والركون إلى الإبداع والابتكار وأن يكون الإنسان بنّاء في كل شيء. 

لم يأت حديث جاك ما من هباء، فقد تتجلى بعض مظاهر الكراهية من الإنسان تجاه "الروبوت"، وتختلط بمشاعر الغيرة والخوف من هذا "الآخر" المتطور، المتفوق، السلمي بطريقة خبيثة، المتسلل إلى حياة البشر لينتزع منهم كيانهم ووجودهم. فلنذكر حادثة التنمر التي تعرضت لها روبوتات التوصيل (الديلفري) في شوارع نيويورك على أيدي السكان خلال العام المنصرم. 

في بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، صار الذكاء الاصطناعي أكثر جاذبية للناس مع انتشار محركات البحث على الإنترنت وسهولة الوصول إلى المعلومات، وتحديد المواقع، وغيرها من الخدمات الثورية آنذاك. وحتى مع تحول الذكاء الاصطناعي إلى مرافق شخصي يتفاعل مع المستخدمين ويستجيب لهم، إن من خلال روبوتات المحادثة البسيطة أو وسائل التواصل الاجتماعي أو التطبيقات الذكية على الهواتف أو في المعاملات، كان كل ذلك بيد الإنسان وضمن إرادته وتحكمه، كما كان يظن!

فعدا الإدمان الذي أغرق فيه الإنسان بسبب تعلقه بما يتيحه الذكاء الاصطناعي، مضى هذا الذكاء في تعلم دائم وبناء لقدراته الذاتية وفي طور مراكمة البيانات واستغلالها لفرض أفكار وتوجهات وخيارات وتصرفات غيرت سلوكيات البشر على المدى الطويل ليفقدوا مع الوقت، ودون شعور منهم، سلطة القرار.  

ديانا استيفانيا روبيو

ومع وصول الذكاء الاصطناعي إلى مرحلة التهديد باستبدال البشر في كثير من الوظائف والأعمال، ارتفعت حدة العدائية تجاه "الروبوت"، ليتحول إلى غريم غير متكافئ، عصي على المنافسة، لا سبيل لمحاربته إلا بمواكبة قدراته.

ربما نفسر أي رد فعل عدائي قد نشهده للإنسان تجاه "الروبوت" في الحقيقة بدفاع الإنسان عن هويته، وعن جهوده، وحقوقه، وإنجازاته، وأهدافه. هو خائف من خسارة ما كلفه الكثير لتحقيقه. وقد يكون الضجيج الذي أحاط بالذكاء الاصطناعي عام 2023 مبالغا فيه، لكنه لن يتوقف على الرغم من التكلفة والأخطار والتعقيدات التي تنطوي عليها هذه التقنية، كما لن يتوقف الذكاء الاصطناعي عن التطور مع ما يتبعه من جشع واستقطاب وسباق محموم بين الشركات والدول، بالتوازي مع التراخي في القوانين وتكاثر التوقعات عما ينتظر البشرية من تهديدات وانقسامات وحروب لربما تكون الآلة فيها الطرف الأقوى ذات يوم.

font change

مقالات ذات صلة